الإصلاح.. ممارسة وانفتاح أم وعود وانزياح ؟ !
في إطار التداول على السلطة، تتسابق الأحزاب السياسية وتتصارع فيما بينها، للظفر بالقسط الأوفر من كعكة الحكم، عن طريق المشاركة الواسعة في الاستحقاقات الجماعية والتشريعية. ويحرص قياديوها على استعمال مختلف الطرق والأساليب، ووضع برامج انتخابية حالمة تكاد تنسخ بعضها، لدغدغة مشاعر المواطنين بما يلامس همومهم وقضاياهم، اعتمادا على وعود مضللة وشعارات براقة. لا يهمهم سوى استمالة الناخبين، والحصول على أكبر عدد من الأصوات والمقاعد، يبوئ أحزابهم صدارة المشهد السياسي وتشكيل الحكومة. ومما يؤسف له حقا، أن بعض الأمناء العامين يعوزهم بعد النظر واستشراف آفاق المستقبل، للتكيف مع التحولات الدولية والإقليمية المتسارعة، ولا يجعلون من إدارة شؤون أحزابهم تمرينا حقيقيا، لممارسة الديمقراطية والحكامة الرشيدة استعدادا لتسيير الشأن العام. إذ بمجرد الإمساك بدفة الحكم، حتى تختلط في أذهانهم أمور التدبير الجيد، ويتيهون في عالم الابتذال والارتجال…
ولا غرو أن تنطلق الحملات الانتخابية ساخنة، مركزة في نشراتها الدعائية على الإصلاح ومحاربة الفساد. والإصلاح ذو حمولة أخلاقية هائلة، تتعدد مفاهيمه بتعدد آراء وأفكار الحكومات المتعاقبة، وخاصة الأحزاب القائدة لها، وهكذا نجد من يعتبره نقيضا للفساد والإفساد أو استبدال السيئ بالأحسن، ومن يراه منهجا لمعالجة مواطن الخلل، أو مسلكا للتجديد والتغيير… وهو في نظري المتواضع، كل هذه الأشياء وغيرها من التدخلات الرامية إلى تعديل وتغيير مظاهر وسلوكات، قد لا تبدو عادية إلا في مخيلة أصحابها، سواء كانت فردية أو مؤسسية أو مجتمعية، بناء على إرادة سياسية قوية ومنظور واضح ووفق تشخيص دقيق، بهدف الكشف عن الداء لتهييء أنجع دواء، وتجاوز أوجه التقصير ومكامن القصور، بغية تطويق روافد الفساد وكبح جماح تدفقها، لصنع ما يتوخاه المواطن من نماء ورخاء…
والإصلاح عملية شائكة ومعقدة، تتطلب بذل جهود جبارة والتحلي بالشجاعة والصبر، مع استحضار الإكراهات والإمكانات الآنية والمستقبلية. وتقتضي انخراط كل القوى الحية بالبلاد، المؤمنة بروح الديمقراطية وضرورة تغيير الأوضاع الفاسدة والمتردية، في ضوء منهجية تشاركية واستراتيجية واضحة الأهداف والنتائج، شاملة ومتكاملة، تراعي مختلف أبعاد الإصلاح ومكوناته.. وحتى يشمل التغيير المأمول جميع المجالات المستهدفة بروية وبلا تلكؤ، يتعين أن يكون متناغما مع وضوح الرؤية، لإرساء قواعد الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية البشرية المستدامة، وأن يتم الحرص على تحاشي الاصطدام المباغت مع الواقع العنيد… فلكل إصلاح تكلفته، التي غالبا ما تكون باهظة وموجعة، وكل تأخير في مباشرته، يكلف البلاد خسائر فادحة، ويؤدي حتما إلى رفع سقف المطالب الشعبية، إذا ما استمرت الحكومة في الارتباك والتخبط، بدعوى أن هناك شبكات متنفذة راكمت امتيازات من الفساد الإداري وسوء التسيير، تناهض كل إصلاح مرتقب، ومستعدة لشل أي حركة في غير صالحها، وللتضحية بمصالح الوطن مقابل الحفاظ على مواقعها، مما قد يضاعف آلام الفقراء والمعوزين وينقل عدوى الاختلالات للحكومات القادمة. لكن هذا لا يمنع السيد بنكيران في ظل ما تحظى به حكومته من دعم الملك لمجهوداتها، كما يتردد على لسانه في كل لحظة وحين، من كشف وإبادة هذه الطفيليات التي تشكل عناصر تشويش، وتسعى إلى تدمير المشاريع الإنمائية. وأن تواكب الإصلاحات المستعجلة، إصلاحات أخرى تساهم في انتعاش مطامح الشعب، والحد من تفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي…
ويعتبر الإصلاح أيضا، عملية بناء متواصلة، تهم الحياة السياسية والتشريعية ومختلف مناحي الحياة العامة، ولا ينبغي التباهي بالمشاريع قبل حتى رسمها على الورق، بل يلزم الشروع في فتح الأوراش، والسهر على تتبع سير أشغالها تحت مراقبة مشددة، لمحاصرة ما قد يحدث من تقاعس. ولا يعني الانخراط في المسلسل الإصلاحي إطلاق الوعود على عواهنها، وغض الطرف عن تجاوزات وخروقات بعض المفسدين، بينما الدستور الجديد واضح في ربط المسؤولية بالمحاسبة…
وإذا كان الحزب الأغلبي “العدالة والتنمية”، يدعي أن اختياره منهج “الإصلاح في ظل الاستقرار”، نابع من رغبته في تجنيب البلاد مآزق المجهول، وأنه المنقذ من الظلام بمصباحه “السحري”، جاء لتلبية انتظارات المواطنين. وأن أمينه العام السيد بنكيران رئيس الحكومة، رغم ما يلاقيه من مقاومة شرسة، اتخذ قرارات جريئة من قبيل: “الأجر مقابل العمل” لمحاربة الإضرابات المتواصلة، و”التوظيف مقابل المباراة” للحيلولة دون التوظيف المباشر والمحسوبية، مما يعتبر تجربة نموذجية يحتذى بها في رد الاعتبار للمواطن وللمرفق العمومي. ويسعى جاهدا إلى تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية، معتمدا على صندوقي التماسك الاجتماعي والتكامل، لمساعدة الفئات الفقيرة والمطلقات والأرامل. فلماذا كل هذه الأمواج العارمة من السخط والاستياء؟ أين نحن من توفير العيش الكريم للمواطنين، أمام حالة إعصار الأسعار وإنهاك الجيوب، التي أصابتهم مباشرة بعد توليه المسؤولية، وإقدامه على توقيف دعم أثمان المحروقات، فضلا عن الرفع من الضرائب؟ فهل بالتقشف الممنهج تتحقق العدالة الاجتماعية؟ ومن يثير القلاقل ويلهب التظاهرات والاحتجاجات، غير قراراته الجائرة واللاشعبية؟ إنه للأسف الشديد، ينفخ في جمر يظنه تحت الرماد خامدا، بينما هو في الواقع يعمل على تأجيج الاحتقان الاجتماعي، ولا أحد يمكنه التكهن بتداعياته مستقبلا، ما لم يعمل على تدارك الأمر في السنتين المتبقيتين من عمر ولايته…
وليعلم سيادته، أنه لولا وقوع المعارضة في بعض الأخطاء التي أنعشته قليلا، ما كان ليجد اليوم من يلتف حوله، بعدما فقد مصداقيته وأخذت شعبية حزبه في التآكل. فهو لنقص الخبرة، وسوء التقدير وضعف التسيير، لم يستغل مناخ الربيع العربي وسياقه العام، للرفع من وتيرة أداء حكومته والانفتاح على الآخرين لتلاقح الأفكار وإغناء تجربته، فزاد الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تأزما…
فما كان الإصلاح يوما، توزيعا للوعود “العرقوبية”، أو دعوة لحل الأحزاب، أو كلاما نابيا تحت قبة البرلمان، أو وقوفا عند إحالة تقارير المجلس الأعلى للحسابات الحافلة بالانتهاكات والجرائم المالية، على وزارة العدل دون اتخاذ عقوبات صارمة في حق أباطرة الفساد والاستبداد… فأين نحن من إعادة الثقة للمدرسة العمومية، ومحاربة الرشوة والبيروقراطية في الإدارات العمومية، وتبديد الأموال في الصفقات العمومية، وبوجه خاص في قضيتي: اللقاحات والأدوية الفاسدة بوزارة الصحة، والمخطط الاستعجالي بوزارة التربية الوطنية، ومن عقلنة صندوق المقاصة وتوسيع اختصاصاته، وإنقاذ نظام التقاعد من أزمة قلبية وشيكة الحدوث، وتصحيح مسار الإعلام العمومي…؟ ثم كيف أجاز رئيس الحكومة لنفسه، التزام الصمت في قضية تبادل “البريمات” بين وزير المالية السابق/ الخارجية حاليا والخازن العام، فيما اكتفى وزير العدل بمتابعة المتطوع للتبليغ ضدا عن القانون ؟ وهل إثقال كاهل المواطن، بسن زيادة جديدة في تسعيرة الماء والكهرباء، لإنقاذ المكتب الوطني من الإفلاس، يندرج في صميم منهج “الإصلاح في إطار الاستقرار”؟ أليس الساكت عن الحق شيطانا أخرس؟ وبماذا نسمي من يضمن الإفلات من العقاب للمفسدين بسبب النهب والتبذير، وتهريب المال العام واقتناء الشقق في الخارج، تحت الشعار الشهير: “عفا الله عما سلف”؟ ألا يعد هذا تحريضا على الفساد وتعزيزا له؟ وأشياء أخرى باتت حديثا للخاص والعام، في الشارع والحمام. ناهيكم عن هدر الزمن السياسي في المزايدات والتطاحنات السياسوية…
السيد بنكيران يعلم جيدا أنه رئيس حكومة بلد عريق، يتربص به العدو والصديق. ويشرف على تدبير الشأن العام لحوالي أربعين مليون مواطن مغربي وليس لحزب سياسي، ولا تسمح له مسؤولياته بالانزياح عن سكة الإصلاح، طالما أن وعد الحر دين عليه. لذلك ضاقت به السبل وتعذر عليه إيجاد الحل. فارتأى أن يستمر ممتطيا صهوة تعنته، ممتشقا لسانه الحاد، ومصرا على ألا يترجل. لإيمانه الراسخ بسداد رأيه وقناعته الثابتة بأنه يعيش فصول مؤامرة “دنيئة”. ومن تم سيظل مسكونا بحب التضحيات، مادام أنه ضحى بالقوت اليومي للفقراء من أجل إسعاد الأغنياء، وأزاح أخلص رجالاته من أغلى منصب وزاري في حكومته، لفائدة من كان بالأمس القريب، أفظع بكثير من عدوه اللدود “شباط” !