بنكيران يعيد صورة “سي السيد” للأذهان !!
لا أذكر أن تاريخ المغرب السياسي، عرف مسؤولا حكوميا أثير حوله كم هائل من الجدل واللغط، مثلما عرفته شخصية السيد بنكيران. فقد جرت رياح الربيع العربي، بما لم يتكهنه المنجمون، حين بوأت صناديق الاقتراع في: 25 نونبر 2011، الحزب الذي يتولى أمانته العامة، وظل إلى الأمس القريب محط شبهات، صدارة المشهد السياسي بحصده أغلبية المقاعد (107 مقعدا) في البرلمان. إنه حزب “العدالة والتنمية”، ذو المرجعية الإسلامية، الحامل لرمز “المصباح”. وبناء على مقتضيات دستور فاتح يوليوز 2011 ، استقبله الملك محمد السادس يوم: 29 نونبر 2011 وعينه رئيسا للحكومة…
وكم كان مؤلما أن يراه الشعب، الذي راهن على وعوده في الاستجابة لتطلعاته وتحقيق أحلامه، بمحاربة الفساد والاستبداد وإحداث التغيير المراد، تائها يملأ الدنيا صراخا، ويتوزعه الارتباك والتخبط، فاقدا القدرة على التمييز بين الأشياء، خيرها وشرها. حيث تشابهت عليه الأمور إزاء تعدد المهام، لقلة حيلته وضعف الخبرة لدى حاشيته ومستشاريه، وصار يضرب أخماسا لأسداس، عاقدا الآمال العراض على هداية الله، للخروج من ضلال السياسة “اللعينة”. وفي أوج ما يلاحقه من نحس، وصراعه المزمن والمرير مع مديرة الأخبار بالقناة الثانية: سميرة سيطايل، ومباشرة بعد عملية إنقاذ المكتب الوطني للكهرباء من الإفلاس، بضخ 45 مليار درهم في ميزانيته. كان ضروريا حضوره في ذلك اليوم المشؤوم: 17 يونيو 2014، لجلسة المساءلة الشهرية بمجلس المستشارين حول موضوع: “قضايا وانتظارات المرأة المغربية، في برامج وسياسات الحكومة”. وبحكم تعذر التأقلم مع منصبه رئيسا للحكومة، وجد ثمة الفرصة مواتية للتقيؤ بما يصفي حساباته مع المرأة، مادام لم يستطع التخلص من نظرته التقليدية، في تكريس دونيتها الراسخة في الذهن، والتي لا تعترف لها إلا بالأمومة وخدمة البيت. ولم يتردد في الكشف عما بدا له مناسبا لأنوثتها، حين أبى إلا أن ينعتها ب”ثريا”، وهو في نظره تشبيه أكثر عمقا من قضاياها وانتظاراتها، مختزلا بذلك دورها الأساسي في إنارة بيتها ورعاية شؤون أفراده. وهي دعوة مبطنة إلى سحب “سيطايل” ومثيلاتها من الفضاء العام وسوق الشغل، والعودة إلى وظائفهن “الحقيقية” بالمنزل، عوض “مضايقة” الرجال في المؤسسات والإدارات. ولا أخاله يجهل أن غالبيتهن تخرجن لإعالة أسرهن المسحوقة، أو في إطار تقاسم المسؤولية مع الأزواج في تدبير مصاريف البيت…
إنه بقليل من التأدب وكثير من الاستفزاز، شاء بشكل ضمني إعادة صورة “سي السيد” لأذهان المغاربة، ذلك الرجل الشرقي الذي يعمل على استعباد زوجته، وإخضاعها لتلبية نزواته ورغباته، جاعلا منها وعاء للجنس والإنجاب، وأن تكون الحريصة الأولى على راحته وسعادته، والساهرة الأمينة على تربية أبنائه. فبنكيران حينما توجه للمستشارين بالقول: “عندما خرجت النساء إلى العمل، انطفأت البيوت” و”أنتم عشتم في بيوت تضم “الثريات”، لما كان حنان أمهاتكم ينتظركم” و”أن المتضررين من غياب الأم هم الأطفال”، ناسيا أن مئات المنحرفين لم تغادر أمهاتهم بيوتهن إلا لتدفن بالمقابر، وأن آخرين يشغلون اليوم مناصب عليا، رغم أن أمهاتهم سهرت على تربيتهم من خارج البيوت. ولعل أسطع مثال على ذلك، التلميذة: هدى النيبي الحاصلة على أعلى معدل وطنيا: 19,54، في امتحانات البكالوريا مسلك: العلوم الفيزيائية، دورة يونيو 2014، فهي يتيمة الأب وأمها تعمل بسلك التعليم. وكأنما يريد إفهامنا بأن مرد تخلفنا وأصل شرورنا، وما تعيشه البلاد من أزمات، هو غضب من الله، ناجم بالأساس عن اختلال في منظومة القيم والأخلاق، بخروج المرأة إلى العمل، وليس نتيجة طبيعية لفشل السياسات العمومية في التعليم والصحة والعدل…
وهو ما اعتبرته المنظمات النسائية والحقوقية تصريحا جارحا يحط من كرامة المرأة، سيما أنه وبعض وزراء حزبه ما انفكوا يمعنون في إساءاتهم إليها، ويحاولون بشتى الوسائل مصادرة حريتها وإسكات صوتها للإبقاء على خنوعها واستغلالها، وليست أقواله كما يزعم البعض مجرد هفوات عابرة أو أخطاء عفوية، بل هي على العكس من ذلك ممارسات مقصودة، ومخطط لها بعناية بالغة، تخضع لبرنامج إيديولوجي مسطر بدقة، يستهدف تعميق الانقسام العمودي للمجتمع، بما يتوافق والتصورات النكوصية للتيارات الأصولية، وإرضاء الجمعيات المحافظة، من أجل دغدغة مشاعر البسطاء واستقطاب المزيد من الأشقياء، استعدادا للمعارك الانتخابية القادمة، بعدما استطابوا دفء أرائك السلطة الوثيرة…
السيد بنكيران، لم يفتأ يصدر الفتاوى السياسية الغريبة، التي لا تقنع أحيانا حتى نفسه و”عشيرته”، فما بالكم بمعارضيه السياسيين ورجال القانون والدين؟ ومما يستغرب له، أنه بالرغم من إيمانه الشديد بأن المرأة لا يمكنها التساوي مع الرجل، وأن الحديث عن المساواة ليس سوى فكر دخيل ومضيعة للوقت. لم يسبق له طرح قضية بهذا الحجم من الخطورة، داخل حزبه وأمام أنصاره ومريديه في التجمعات الخطابية واللقاءات التواصلية، بل وربما حتى بين أعضاء أسرته. فمن ذا الذي وسوس له بذلك في هذه المرحلة الحساسة؟ ولماذا اختار أن تنطلق صيحته الشاردة من قلب مؤسسة دستورية؟ شيء ما يدار بتكتم، ويقتضي الحيطة والحذر. فمن العار الاستهانة بكل النضالات الحرة والشريفة، التي قادتها المرأة بقناعات راسخة إلى جانب شقيقها الرجل منذ عقود، من أجل إحقاق حقوقها “كاملة”. ثم ماذا أعد من مشروع تنموي جاد للنهوض بالأوضاع المزرية للأسرة، وحماية حقوق المرأة بوجه خاص، لانتشالها من براثن البؤس؟
كان من الأجدر بالسيد بنكيران، بدل الانزياح بالخطاب السياسي بعيدا عن سكته الصحيحة، والانشغال بالتناحرات الوهمية التي تعطل المسيرة التنموية، أن يحرص على مناقشة القضايا الجوهرية، التي تمهد للانتقال الديمقراطي السلس، وتشق الطريق نحو المستقبل المشرق، في أجواء من الهدوء والمسؤولية لتوطيد أركان الاستقرار، والسهر على تنزيل القوانين، دون تنازع حول مسائل حسم فيها دستور البلاد المعتمد. وبعودة سريعة إلى الفصل 19 منه، نقرأ ما يلي: “يتمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها” وفي الفصل نفسه تلتزم الدولة بالسعي إلى تحقيق مبدأ المناصفة بين الجنسين، وتحدث لهذه الغاية هيئة للمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز.
هناك على الأقل، حقيقتان لا ينبغي تجاهلهما: أن المرأة كرمها الإسلام وصان حقوقها، بأن كفل لها حرية التجارة والمساهمة في تدبير الشأن العام. تشكل اليوم نصف المجتمع، ساهمت في مقاومة المستعمر الغاشم وإجلائه، ومازالت تتقلب في المناصب: الفلاحة والنسيج، التربية والتعليم، محاربة الأمية، الصحة والقضاء، الأمن والجيش…إلى تولي حقائب وزارية، هدفها الأسمى صناعة التنمية. وأن السيد بنكيران مهما بلغ من الجرأة، لن يستطيع المساس بمقتضيات دستور البلاد، ما لم يكن وراء الأكمة “عفاريت” و”تماسيح” تدير خيوط اللعبة بإحكام، لخنق الحريات وانتهاك حقوق الإنسان وفق أجندة مرسومة في الخفاء، فيما الرجل مجرد “كومبارس” تعوزه المهارة الكافية لتقمص الأدوار البطولية.
وليعلم هواة لعبة “شد الحبل”، أن قضية المرأة لبنة أساسية في بناء صرح الديمقراطية، وأن نضالات الجماهير الشعبية، ستتواصل لرفع التحديات والقضاء على كل أشكال التمييز وتعزيز المكتسبات، ضدا عن كل العقليات المتحجرة والفاسدة، المعاكسة لأي تقدم وازدهار…