انتصار غزة… إسرائيل و بداية النهاية
كم كان “دافيد بن غوريون” أول رئيس لإسرائيل ذا حدس سياسي حاد وذا بعد نظر مستقبلي ثاقب, عندما قال في تصريح منسوب له بأنه غير مسموح لإسرائيل أن تخسر أي حرب في مواجهاتها مع العرب لان أول حرب ستخسرها إسرائيل ستكون هي بداية نهايتها, ومن ينظر اليوم لمجريات الأحداث على الساحة الفلسطينية سيدرك بالتحديد وسيستوعب ماذا كان يقصد بن غريون من كلامه.
كانت البداية من حرب لبنان الثانية في يونيو 2006 والتي كانت بمثابة ورقة التوت التي كشفت عورة جيش قيل انه لا يقهر, إلا إن بضع رجالات من جماعة حزب الله تمكنوا من إلحاق هزيمة نكراء به شكلت صدمة ومفاجئة كبيرة ما زالت أثارها وتداعياتها سارية إلى اليوم, رغم أن الكثيرين حينذاك حاولوا التخفيف من هول الصدمة وسعوا إلى تبخيس انجاز المقاومة اللافت وحدود تأثيره في ميزان القوى وكل حسب ذرائعه, إلا أنه و ربما شكلت تلك الحرب بداية للعد التنازلي لنهاية دولة إسرائيل كان كما نظر بذلك رئيسها ومؤسسها الأول بن غريون.
بعد ثماني سنوات من حرب لبنان ها نحن اليوم أمام كتابة تاريخ جديد للمنطقة, ولن نبالغ إذا قلنا أننا أمام معادلة جديدة ستغير تاريخ و مسار الصراع الفلسطيني في مواجهته للاحتلال الصهيوني, فالجيش الذي قيل عنه أنه لا يقهر والجيش الأقوى في الشرق الأوسط والرابع على المستوى العالم مع كل أجهزته الأمنية والاستخباراتية (الموساد, الشاباك, أمان, فرقة 8200..) وغيرها من كافة الأجهزة ,مع غطاء وتواطئ صارخ ومخزي من أنظمة غربية تقدم نفسها كراعية لحقوق الإنسان, وعربية تقدم نفسها كمناصرة للقضية الفلسطينية, مع كل هذا إلا أنها منيت بهزيمة نكراء ستظل خالدة كأحد أكبر الملاحم العسكرية في تاريخ الصراع بين فلسطين والاحتلال , نعم فلقد تمكن رجال غزة البسلاء من إلحاق احد اكبر الهزائم العسكرية في تاريخ هذا الجيش المحتل وباعتراف صريح من إعلامه وعملائه .
إننا اليوم أمام تاريخ وواقع جديد يعجز معه حتى كبار المحللين العسكريين وكبريات المعاهد ومراكز التحليل السياسي والعسكري في تصديقه أو حتى إيجاد تفسير له ,فرجال غزة بكافة فصائلهم وبمعداتهم وأسلحتهم البسيطة وذات الصنع المحلي بعقول وأنامل فلسطينية, تمكنوا من مواجهة اكبر واقوي جيوش المنطقة تسليحا وتجهيزا وعتادا, وألحقوا به إحدى اكبر الهزائم في تاريخه, وتمكنوا بذلك من قلب كل المعادلات والحقائق الحربية المعروفة.فرجال حماس الذين بدأوا بالحجارة والسكاكين وكانوا مدعاة لسخرية الحانقين والحاقدين أصبحت اليوم تشكل قوة توازن استراتيجي حقيقي مع إسرائيل وآلتها العسكرية.
نعم غزة انتصرت بفضل رجالاتها ونسائها ومقاوميها الأشداء, لكنها كشفت لنا أيضا عن وجه أخر للصراع ,حيث لم يعد هناك صراع عربي إسرائيلي كما كان يتصور لأنه ببساطة الحرب على غزة كشفت لنا زمرة من الأنظمة العربية –المتصهينة- والتي ما فتئت تقدم نفسها في ثوب الأخوة ودعم القضية, والتي تاجرت في القضية وخدعت الشعوب لسنوات قل أن تكشفهم هذه الحرب حقيقتهم ,ويا ليتها صمتت كما كان حالها دائما ,إذ إن الصمت الذي كنا نخاله خوفا هو في الحقيقة تواطؤ ودعم غير معلن للعدو الإسرائيلي ,فهذه المرة لم تكتفي فقط بالصمت والتخاذل في نصرة غزة بل إن الأمر تطور لما هو اشد خطورة وأكثر وقاحة من ذلك ,فإسرائيل للأسف دخلت غزة بمباركة وتأييد و تواطؤ مباشر من أنظمة عربية, فالعدوان على غزة بدأت بعد ساعتين فقط من لقاء مدير استخبارات مصر مع نظيره الإسرائيلي,وهو بمثابة الضوء الأخضر لبدأ الهجوم والتنسيق الأمني ضد حماس.
بل حسب ما كشفت عنه بعض المصادر فإن الإمارات تعهدت بتمويل الحرب وذلك في لقاء سري كشفت عنه الصحف العبرية جمع وزير خارجيتها مع نظيره الإسرائيلي في باريس غداة العدوان ,والأمر نفسه مع ملك السعودية الذي اتصل بأوباما وأخبره بأن الأخيرة هي من ستتكلف بتمويل تكاليف الحرب لأنها حرب على (الإرهاب الإخواني) ,كل هذه الأمور واردة جدا بالنظر لاعتبارات عديدة لا يتسع المجال لذكرها حاليا, بل إن نتنياهو اعتبر بان اكبر انتصارات إسرائيل في هذه الحرب كانت في خلق حلف مع دول عربية ضد حماس.
لكن ما يمكن أن نقوله للأسف الشديد و بكل حرقة وغصة في القلب, فبعض العرب اليوم أصبحوا فاعلين وشركاء مباشرين في هذه المجازر على الشعب الفلسطيني.
لكن أيضا بالرغم من ذلك ورغم هذا التواطؤ العربي المفضوح في هذه الحرب, إلا أنها أيضا كشفت للعالم –وهذا هو الشيء الايجابي الوحيد فيها- مدى زيف كل الادعاءات الصهيونية السابقة في سعيهم لتبرير قتلهم للأبرياء, خاصة من الأطفال والنساء والعجائز , وهو ما ساهم بشكل كبير في تأليب الرأي العام العالمي ضد الهمجية والمجازة الوحشية للآلة الإسرائيلية, وخلق رأي عالمي مناهض لسياساتها ,فصحيح أن الصراع كما قلنا سالفا لو يعد عربيا-إسرائيليا إلا انه أصبح صراعا بين الحق والباطل , بين الانسانية والهمجية,وبين التحضر والتوحش.., ومن ينظر إلى كل مظاهرات التأييد وكل الإمدادات والتضامن الإنساني في مختلف البقاع والعواصم في العالم,ومن ينظر إلى كل قوافل المساعدات والتطوع الإنساني الحقيقي و-ليس للاستهلاك الإعلامي- كما هو حال العرب,سيعلم حينها عن ماذا أتحدث.
فشكرا حماس وشكرا غزة ومبروك عليكم انتصاركم للأمة قبل انتصاركم لأنفسكم وللقضية.
ولتموت الأنظمة العميلة بغيظها فغزة انتصرت رغم أنوفكم وأنوف أسيادكم فموتوا بغيظكم..