آلِ منذوبية السامية للإصغاء وضرورة إحصاء الرُّحل
ظلت المندوبية السامية للإحصاء إلى وقت قريب عاجزة عن تقديم إحصاءات و أرقام دقيقة لفئة هامشية من المجتمع المغربي، هي فئة الرُّحَل التي ظلت خارج السياسة العمومية التي نهجتها جل الحكومات المتعاقبة دون أن تولي أي منها برامج خاصة لهذه الفئة، وقبل الخوض في أهمية إحصاء الرحل في إحصاء السكان والسكنى لسنة 2014 لابد من الاشارة إلى ظروف هذه الفئة من سكان المغرب.
إن الترحال بالمغرب يعتبر ارث ثقافي، مارسته جل القبائل المغربية قبل أن تترك حياة البداوة والانتجاع إلى الاستقرار والتحضر والتمدن. فقد ارتبطت حياة الترحال بتاريخ معظم القبائل لسيما في الجنوب المغربي، فقد حافظت ولازالت تحافظ بعض المناطق على فئات تنتجع وتجعل من الانتقال والترحال من مكان إلى آخر مورد رزقها باعتباره هو الكفيل بضمان الكلأ للماشية. غير أن الترحال عرف بعد الاستقلال تراجعاً نظراً للمعطيات السوسيو-اقتصادية الجديدة، خصوصاً في المناطق التي تركز فيها هذا النمط من العيش ونخص بالذكر هنا شرق المملكة وجنوب شرقها وأقصى جنوبها الذي ظل إلى السبعينيات من القرن الماضي يعج بالقبائل البدوية الرحلية، إلا أن المستجدات التي عرفتها الصحراء ستحد من انتشار هذا النمط من العيش لدى قبائل الصحراء، حيث عجلت حرب الصحراء من استقرار الرحل في المداشر في الصحراء التي شكلت النواة الأولى لتأسيس مدن حضارية بالصحراء، وبالتالي اندمج جل الرحل بالصحراء مع الحياة الجدية تاركين ورائهم حياة البداوة القاسية، في حين ظلت فئة ضئيلة منهم ترتبط بالبداوة كاعتزاز بمورثها الثقافي وليس كضرورة للعيش والبقاء.
ويختلف الحال بالنسبة لرحل الجنوب الشرقي؛ فهذه المنطقة تعد الأكثر احتضاناً لمُصارعي قساوة الصحراء من أجل البقاء، غير أن هذا لا يعني أن المنطقة لم تعرف استقرار في السنين الأخيرة فالاستقرار والتحضر هو حتمية طبيعية لم تتوقف فقد ظلت قبائل درعة السفلى والوسطى دائمة الاستقرار بواحات النخيل كما الشأن أيضاً للقبائل المنتجعة بواحات تافيلالت، كما أن انخراط أبناء هذه القبائل الرُّحلية في صفوف جيش التحرير والقوات المسلحة الملكية في السبعينيات وفر سيولة نقدية لذا بعض عائلات المنخرطين مما عجل باستقرارهم، إلا أنه كما قلنا آنفاً ان الجنوب الشرقي لازال يحتضن بين قفاره رحلاً يصارعون سنوات الجفاف مرتحلين شرقاً وغرباً همهم الوحيد البقاء وتوفير الحاجيات الضرورية للعيش. أما بالنسبة لشرق المملكة فقد ظل النمط السائد لدى القبائل هناك هو شبه الترحال حيث نجد قبائل بني كيل التي تنتجع بالشرق لا تنتقل لمسافات طويلة بل تقتصر على الحدود الشرقية فقط لمسافات جد قصيرة مع مزاولتها للزراعة إلى جانب تربية الماشية.
إن هذه الفئة من السكان اليوم محتاجة إلى الاهتمام من طرف الجهات المسؤولة، للحد من معاناتها اليومية فإلى متى ستظل منسية خارجة عن السياسة العمومية؟ و إلى متى تستمر سياسة غض الطرف اتجاهها؟ إن الرحل الذين يسكنون عادة خيام بالية، ومنهم من يتخد الكهوف والمغارات مسكناً، هم مواطنين مغاربة لهم حقوق وعليهم واجباتهم، فأين حقوق أبنائهم المهضومة؟ أطفالهم محرمون من حقهم في الصحة واللعب والتعليم في ظل غياب أي مشارع تستهدف محاربة الفقر والأمية في صفوفهم؟ أطفال يشتغلون كرعاة في ظروف جد صعبة؟
إن الرحل اليوم محتاجين إلى إشراكهم في الحياة العامة ونهج سياسة جديدة توفر لهم أبسط ظروف العيش الكريم، إن هذه السياسة ستنطلق من عملية أولية هي الجرد الشامل واحصاء جل الرحل بمختلف مناطق المعرب، فالمندوبية السامية المشرفة على الاحصاء العام للسكان والسكنى مجبرة اليوم أكثر من أي يوم مضى على تجنيد كل مورادها المادية والمعنوية من أجل إحصاء هذه الفئة دون إغفال أي كان منهم بالرغم من الشتات التي تعرفه هذه الفئة في مختلف مناطق انتجاعها نظراً لأهمية ذلك.
تتجلى أهمية إحصاء هذه الفئة في إنتشار هذه المناطق الحدودية فضبط تحركاتها على هذا المجال ومعرفة عدد الأسر المتحركة عليه، سيساهم لا محال في ضبط الأمن على المناطق الحدودية، فبالاضافة إلى ذلك فإن إحصاء الرحل سيمكن المسؤولين من نهج سياسة تهم الرحل سواء على مستوى المدارس المتنقلة أو على مستوى المساعدات التي عادة ما تشرف عليها وزارة الفلاحة للرحل بتوفيرها للأعلاف بثمن مناسب أوقات القحط والجفاف. يمكن ضبط تحركات الرحل في المناطق الداخلية من تفادي بعض المشاكل التي أصبح الاعلام يتداولها مؤخراً بين الرحل العابرين والمستقرين أهل الأرض.
فالمندوبية السامية عليها أن تتجاوز النمط التقليدي في تعاملها مع إحصاء الرُّحل؛ فهي ملزمة بتخصيص ورقة خاصة بالأسرة الرحالة تتضمن أسئلة تراعي خصوصيتهم ووضعهم الاجتماعي، فعلى سبيل المثال يجب أن تتضمن هذه الورقة أسئلة خاصة بالمسكن، حيث تسئل الأسرة عن ما إن كانت تتوفر على منزل بإحدى المدن إلى جانب الخيمة أو المغارة التي تسكنه عادة في ترحالها. وفي ما يخص التعليم يجب طرح أسئلة بالنسبة للأطفال الذين يتابعون دراستهم أين يتابعونها ؟ هل في مدرسة متنقلة؟ أم عند نفس الأسرة إذا ما كانت الاسرة نصف رحلية أم أنهم يتابعونها عند إحدى أقاربهم المستقرين؟ بالاضافة إلى أسئلة تهم نسبة تمدرس الفتيات والفتيان لدى هذه الأسر التي من النادر جداً أن تلج فتياتهم المدرسة. وللتعرف على مدى هشاشة الأسرة لا بد من وضع أسئلة خاصة بنوع القطيع وعدده، ولضبط تحركاتهم في المجال لابد من طرح أسئلة تهم مكان الانتجاع الاعتيادي الذي يرتبط عادة بمحيط ومجال إقليمي معين، وكذا تحديد أماكن الانتجاع في السنوات التي يجف فيها مكان الانتجاع الاعتيادي. فالاضافة إلى أسئلة فرعية تهم مدى مشاركة هذه الفئة في الحياة السياسية العامة كالمشاركة في التصويت على الدستور، الانتخابات…
فإحصاء الرُّحل اليوم هو إعادة الاعتبار لفئة عانت الأمرين وتخلفت عن ركب تقدم المغرب على جميع المستويات بعد ما تخلفت السياسة المغربية عن إنصافهم.
سعيد الناجي