طقوس عيد الذبيحة في خضم سياق ذبح العالم
المشهد الأول: هي محض صدفة من مبتكرات، الزمان البليد؟أم مجرد قصد من قصديات، تدابير السياسة؟بحيث نلاحظ تزامن الدخول المدرسي، مع بداية العد العكسي للاحتفال بعيد الأضحى.طبعا،لا أقصد بالأخير،تلك الشعيرة الربانية الروحية،النبيلة، الخالصة من ناحية التربية القيمية،بين الفرد والله فقط، مثل كل ممارسة دينية. لكن، أشير إلى اللغم الديني مثلما أضحى كناية عن تخلفنا السياسي والفكري والمجتمعي ،والتراجع الرهيب لمؤشرات تمدننا وتحضرنا،ومعها أجمل مابوسع ماهيتنا الآدمية أن تكتنزه. لم يعد الدين راهنا،ممارسة نقية، مترفعة عن كل الصغائروالشوائب، مبعثه ذاك التأمل الصامت العميق،ملؤه السكينة،ومنتهاه الخلاص كي لاندمر الأرض والجسد والآخر والطبيعة،مراكما إلى جوار الفلسفة والعلم والموسيقى والشعر،ممارسات في غاية الطهر والنبل والجمال.التحقق المفترض،لهذا الدين المتهافت،بعد سقوطه المدوي بين براثن موت السياسة عند هذا الطرف أو ذاك،فأخذت تتقاسمه من جهة دعوات الابتذال والتسطيح وما يكتنفها من سلوكات الزيف والرياء والادعاء، تحت سقف مجتمع يلتهمه النفاق.ومن جهة ثانية،أسانيد الهمجية والبربرية، بسبب صنمية العماء العقائدي.
يشرع التلفيزيون، في بث سلسلة روبورتاجات،للتبشير بمدرسة مغربية وموسم متميز ،شكلا وتشكلا وتطلعا،عن سابقيه مادام كل شيء لدينا يتجاوز تصنيف الممتاز بدرجات. !!بعد إعلان المستجد،تغير الكاميرا وجهتها صوب أقرب سوق للأكباش،الذي سيكون بدوره على منوال حظ المدرسة،مبهرا كما ونوعا، بخصوص نوعية القطيع وجودته.الدليل،البيان الصادر عن وزارة الفلاحة،المطمئن لعموم المواطنين بأن العرض بحمد الله،يفوق الطلب،ففائض رؤوس الأغنام على قدر هائل من الوفرة،بالتالي لا نخاف ولانحزن.هو إذن احتفاء خلال الآن ذاته،بتباشير المدرسة وكذا الطلائع الأولى لكرنفالات ذبائح العيد! تآزر وتعاضد بين الأفقين المعرفي و “الكبشي”؟النور أم الظلام ؟الحرية أم الإذعان ؟العقل أم اللا-عقل؟التفكير الذاتي أم الانسياق الأعمى؟التحضر أم التخلف؟… .
المشهد الثاني:في إطار الاستعدادات اللوجيستيكية،تتناسل حزمة من برامج التوعية على شبكات الإعلام المرئي والمسموع،من أجل الإحاطة بجل المقتضيات التي تضمن للمواطن، استيفاء حقه من مدخرات البهارات والفحم والبصل والإجراءات السريعة للحكومة كي نحصل على نصيبنا القومي من “الكمون” و”البزار” و”رأس الحانوت”،دون مجهود بحثي متعب،بناء على شعار : تقريب السوق من المواطنين.
طيلة أيام ومن نهاية النوم إلى بدايته،ثم خلال غسق الليل،تعج البلاتوهات والأستديوهات،بنقاشات حامية الوطيس مع خبراء علم التوابل وجماعة”الشّناقة” و”الكسّابة”،العارفين بأصناف الأكباش ولحمها وشحمها وصوفها وثغائها ومزاجها.جميعهم سيؤكد،بأن سياسيات العلف المتبعة كانت ناجعة، طورت الكثافة اللحمية للكبش الواحد مقارنة مع الموسم الماضي،وأن المجهودات قد تضاعفت بهدف تحسين النسل والسلالات،فمن حق المواطن أن ينعم بكبش يستجيب قوامه لمعايير الحكامة المجتمعية .
المشهد الثالث: على امتداد المدينة المختل هيكلها أصلا،تبنى خيام كيفما اتفق، بالقصب والخشب.يستمر تنصيبها بشكل طارئ، حتى فجر العيد،فتظل مفتوحة ليلا ونهارا،تحت إشراف شباب لم ترحمه البنايات الإسمنتية لسياسات بلده العامة،فحكمت عليه بالعيش دون موارد، على هامش الهامش،لذلك عثر في طقوس الذبيحة،على فرصة سانحة كي يغتنم بعض الدريهمات ولو إلى حين. يعتصمون أو يقبعون داخل الأعشاش البدائية،التي تحول المكان على امتداد البصر إلى مايشبه تجمعات للاجئين،كي يعرضوا على قارعة الطريق أنواع أسلحة الذبح والسلخ،من سكاكين وفؤوس وسواطير وطواجن للطهي وبصل وفحم وخشب وتبن وحشائش، بل وآخر صيحات المواد الكبريتية التي تشعل الشرارة بأقل ومضة ممكنة. أيضا،هم من سيرتقي أغلبهم يوم العيد،إلى مرتبة جزار يتأرجح وضعه بين الهوية والاحتراف،فالقدرة على التشخيص رهينة بحذق كل واحد منهم.يرتدي ثيابا تشع دما،وقد تدلت من جنبات بطنه آلات قاتلة،تتنوع حجما وحدّة. يصنف يومئذ، إلى جانب أعظم الشخصيات التي أنجبتها بطون بعض الأمهات،فخلاص أسر عديدة، يتوقف على قدومه الأسطوري.غير أن سمعته، ستظل مرتبطة بمدى سرعة تخلصه من جثة كبش كي ينتقل إلى الثاني،فيتداول سكان الحي ممكنات تقييماته إيجابا أم سلبا،مما سيضاعف أو ينقص أو يلغي تماما،مسوغات الإقبال عليه خلال السنة المقبلة.
المشهد الرابع: تبدو المدينة بانوراميا،جغرافية من الأزبال والقمامة،ومرتع لفوضى عارمة،كأنها تخوض حربا. هي مدينة،حالتها الفيزيائية والسيكولوجية والجمالية،غير سوية تماما بغير مبرر طقوس الذبيحة،لكنها ستدمن الأمر وتتفنن في أساليبه،بحيث يزداد كره الجميع لنفسه وتسلط الجميع على الجميع.ترى الحشد يبصق في وجه الحشد،ويتطلع الحشد لو تخلص من الحشد،ويظهر كما لو أن الأكباش هي التي تحتفل بذبح الإنسان وليس العكس:قوافل جديدة من أصناف اللصوص والمتسولين والمخبرين والوشاة والمتلصصين والجالسين والواقفين والمهرولين والمتجمهرين والمتحلقين والمنبطحين والتائهين والمضللين والعاطلين والمتحرشين والمجرمين والتافهين والمتأسلمين و”القافْزين” واللا-أدريين.يغدو الفضاء أكثر عنفا وقسوة وترديا وظلما وافتراء وجنونا واستلابا.يرتفع منسوب حوادث السير،بما فيها تلك المجانية.حالة عامة من السوداوية ،يتعارك الناس حيثما تواجدوا،شتائم يصدرها الجميع نحو الجميع،هيجان أبواق السيارات، هدير المحركات لايتوقف،سيارة تقفز فوق سيل من السيارات،وكل صاحب سيارة يتوهم أنه يأتي البشرية بالشمس من الغرب.
المشهد الخامس:استهلاك واستهلاك !! الناس يتسوقون ويدخرون بغير هدى،كأنهم يتأهبون لفترة من الحصار غير محددة،يقترضون ويستهلكون، بين طيات آلة جهنمية، لاتتوقف عن الدوران والطحن. سباق غير متكافئ مع العبث،لايعرفون لماذا يمارسون كل ذلك؟يتكدسون يوميا لساعات أمام المحلات التجارية،كي يقتنوا جميعا ذات الحاجيات وليفعلوا الصنيع ذاته،بغير داع أو مبرر،فقط من باب ثقافة عقلية القطيع.يتبادلون الشكاوى،تتباكى عموما جل أحاديثهم،يلقون دائما باللائمة على الآخر،الأخير بدوره يعتبر الآخر جحيما،وهكذا دواليك.كل واحد يظن نفسه بريئا،بينما كل واحد منا متهم،يتحمل نصيبا من مسؤولية مايقع.حقا،هم يشعرون في قيرورة دواخلهم،بأن مشهد التفاهات يتعارض بالمطلق مع الأمر الديني في زهده وبساطته والأهم شأنه الفردي القائم على الوعي والاختياروحرية التصرف حسب المستطاع.
المشهد السادس: يترجل “الأنتلجنسي” من سيارته العصرية،وجهة رحبة الأكباش.يتخذ كامل احتياطه، مستلهما وصية أن عدد النشالين بعدد الحصى المتناثر فوق أتربة أرض السوق.لذلك،يستمر في تحسس محفظة جيبه،ملاحقا في الآن ذاته بعينيه يمنة ويسرة المعروض، ربما يصادف كبشا حسب المواصفات المطلوبة. يتسمر أمام واحد،يخرج هاتفه الخلوي كي يلتقط صورة للكبش المرشح،ويبعث بها فورا عبر الفيسبوك إلى زوجته “الأنتلجنسية” أيضا.في انتظار رأيها،يستفسر البائع عن الثمن.قبل استعادته لصدى الرقم الفلكي الذي تلقاه،وصله جواب زوجته :بورتريه الكبش مرفوض جملة وتفصيلا،لأن خريطة قرنيه بغير الكاريزما المطلوبة.لذلك،تلح على زوجها بالعودة سريعا إلى المنزل،فهي بصدد تفحص مواقع إليكترونية،تبيع أكباشا مبهرة،أو قد تشارك في مسابقة من المراهنات التي تزدهر مع “العواشر”،فتظفر بكبش فحل سمين أقرن،على منوال قرعة الحج المبرور والعمرة الرمضانية المباركة !!ثم يتساءلون بعدها : لماذا تهاوى واقعنا العربي،على هاته الشاكلة ؟؟ .
المشهد السابع :صبيحة يوم العيد،تتأمل صمت الكبش،يرميك بنظرات شزراء،تكتسيك من الأعلى إلى الأسفل،فتتصبب عرقا لإحساسك بالخجل،وكأن ضمير الذبيحة يفحمك، بالآتي:يا رجل ألا تكفيك كل أنهار الدماء،التي صار معها العالم اليوم مجزرة قذرة!ألم تشعرك احتفالات الرؤوس المقطوعة والأطراف المبتورة،بالغثيان والقيء ومغص في الأحشاء وصداع في الرأس!
المشهد الثامن : ظهيرة يوم العيد،تنتهي المدينة إلى بركة آسنة من الدماء والأعضاء الحيوانية والفضلات والقاذورات.كل الأزقة،تشي باشمئزاز، أن وضعا لم يكن بالمرة آدميا،قد حدث هنا.