الفساد بالمغرب..أشْكاله ومَخَاطره
ترتبط كلمة الفساد بمفهوم الشَّر أو بالنواحي السلبية منذ بداية الخلق والخليقة، وتعني كلمة الفساد، فسد ضد صلح، أي بمعنى البطلان، فيُقال فسد الشيء، أي بطل واضمحل. وعلى الرغم من الاتفاق على ارتباط معنى الفساد بما هو سيء في المجمل، فالنظرة إلى الفساد ومحاولة تعريفه تتأثر بالحقل العلمي للباحث. لذلك لا يتوافر إجماع على تعريف شامل يطال أبعاد الفساد كافة، ويحظى بموافقة الجميع. فالفساد ضُروب وأنماط، ويرتبط وجوده بدرجات متفاوتة في مختلف قطاعات النشاط المجتمعي. وقد اختارت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، أن تُعَرّف الفساد من خلال الإشارة إلى الحالات التي يترجم فيها الفساد إلى ممارسات فعلية على أرض الواقع، وهي : الرشوة بجميع أشكالها في القطاعين العام والخاص، والاختلاس بجميع وجوهه، والمُتاجرة بالنفوذ، وإساءة استغلال الوظيفة، وتبييض الأموال، والكسب غير المشروع..”. وعلى الرغم من تعدد التعريفات حول هذا المفهوم، فإن هناك اتفاقا دوليا على تعريف الفساد كما حددته منظمة الشفافية الدولية بأنه ” كل عمل يتضمن سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مصلحة خاصة”.
وكغيره من دول العالم، يعاني المغرب من الفساد في القطاع العام والخاص، وإن كانت فُرص وجوده في القطاع العام أكثر من غيرها، بسبب حجم القطاع العام، وكثرة الموظفين فيه، حتى أصبحت عبارة “دارْ اعْلاش يْوَلّي” مثلا سائرا، مما جعل حركة 20 فبراير بالمغرب، ترفع شعارا مركزيا ” الشعب يريد إسقاط الفساد “. وقد تجاوب الدستور الجديد مع هذا المطلب من خلال التنصيص على فصل السلط، وربط المسؤولية بالمحاسبة، واستقلالية القضاء، بعد أن أصبح خطاب مكافحة الفساد يحتل الصدارة في الخطاب السياسي المغربي. وقد قَدّر البنك الدولي الخسارة التي يتكبدها المغرب بسبب الفساد في الصفقات العمومية ب 3.6 ملايير درهم خلال سنة 2007 ، أي ما يعادل 0.5 من الناتج الداخلي الخام. وسبق لرئيس مجلس المنافسة أن صرح بأن الاقتصاد المغربي يفقد سنويا ما قيمته 20 مليار درهم، وهو ما يجعل المغرب يفقد حوالي نقطة ونصف من نسبة النمو، بسبب اقتصاد الريع غير المشروع وغياب المنافسة، مضيفا أن التصدي للفساد كفيل بأن يربح المغرب نقطتين من معدل النمو سنويا.
ويمكن تقسيم الفساد بالمغرب إلى نوعين: الفساد الصغير، والفساد الكبير. فالفساد الصغير مرتبط بالرشاوى الصغيرة التي يتقاضاها الموظفون الصغار من ذوي الرواتب المحدودة، نتيجة تقديم الخدمة الاعتيادية. ويدخل ضمن تعريف الفساد الصغير الحصول على مواقع للأبناء والأقارب في الجهاز الوظيفي. أما الفساد الكبير فهو ما يقوم به كبار المسؤولين عن منح التراخيص أو الامتيازات أو الأذونات، أو أشخاص لهم علاقة بالمشتريات العامة، ولهم تأثير في تخصيص الأموال العامة للاستخدام الخاص، وتلقي الرشاوى لمنح الامتيازات لجهة مُحَدّدة. ويرتبط الفساد الكبير بالقدرة على التأثير على اتخاذ قرارات إنشاء المشروعات الاقتصادية وإرساء المناقصات. ومن خلال التجارب، يمكن تحديد خصائص، غالبا ما تترافق مع الفساد الكبير. ومن ذلك أن يكون حجم الصفقة كبيرا، يُغري المسؤولين على سرعة الحصول على عائد. وبشكل عام، يمكن تحديد مجموعة من الأشكال الشائعة التي يظهر فيها الفساد بالمغرب:
الواسطة والمحسوبية والمُحاباة: تنتشر هذه المظاهر في المجتمع المغربي لتقبل الناس لها، باعتبارها من أفعال الخير والمُساعدة، الأمر الذي يُحَسّن صورتها ويُلَطّف من شكلها. وتتشابه هذه المظاهر في الكثير من عناصرها، إلا أنه يمكن التمييز بينها في بعض الجوانب، حيث أن الواسطة تعني التدخل لصالح فرد أو جماعة، دون الالتزام بأصول العمل والكفاءة، مثل تعيين شخص في منصب لأسباب تتعلق بالقرابة أو الانتماء الحزبي، رغم كونه غير كفؤ. أما المحسوبية فيقصد بها تنفيذ أعمال لصالح فرد أو جهة ينتمي إليها الشخص، دون وجه حق. ويجري تعريف المُحاباة على أنها تفضيل جهة على أخرى في الخدمة بغير حق، للحصول على منفعة مادية أو معنوية. وتَبَعًا لذلك، يمكن القول، إن مُحاباة الأقارب مثلا في التوظيف، بالمحسوبية أو بالواسطة، تكون نتيجته إلحاق الضرر بالمواطنين، من خلال تدني مستوى الخدمة الناتج عن وجود شخص غير كفؤ لتنفيذ هذه المهمة.
إهدار المال العام: كأن يقوم الموظف بإعفاء بعض الشركات، أو بعض المواطنين من الضرائب المستحقة عليهم دون وجه حق، أو أن يقوم المسؤولون بسحب قروض من البنوك المملوكة للدولة بفوائد منخفضة، أو تسهيل حصول رجال أعمال على قروض بفوائد منخفضة بدون ضمانات. ومن أخطر صور إهدار المال العام لجوء بعض الإدارات إلى استقدام خبرات أجنبية ذات تكلفة مالية عالية، في وقت تكون فيه الخبرات الوطنية متوفرة بتكلفة رمزية. كما تندرج في هذا المجال تبديد الأموال العامة في الإنفاق على الأبنية والأثاث، فضلا عن المبالغة في استخدام السيارات الحكومية في الأغراض المنزلية والانتخابية، أو تغطية مصاريف السفر خارج البلاد دون وجه حق، أو إقامة الحفلات الترفيهية في مناسبات التهاني. وتتبعنا جميعا كيف قامت الدنيا ولم تقعد، حينما توجهت المستشارة الألمانية ميركل إلى جنوب افريقيا في طائرة خاصة لمساندة منتخب بلادها في كرة القدم، بعد أن اعتبرت الخطوة هدرا للمال العام !. أما في بلادنا فقد أفادت إحدى الصحف أن مسؤولا كان يقطع عشرات الكيلومترات يوميا بسيارة المصلحة في اتجاه أحد القرى لاقتناء الحليب واللبن.. !!
اختلاس المال العام: إن أخطر مظاهر الفساد هو اختلاس المال العام، الذي أُنشئت الحكومات للعمل على صونه وإنفاقه وفق مقتضيات المصلحة العامة. ويُعَرّف اختلاس المال العام بأنه قيام موظف عمومي بالاختلاس عَمْدًا لصالحه، أو لصالح شخص أو كيان آخر، وذلك عن طريق اختلاس ممتلكات أو أموال عمومية أو خصوصية، أو تملك أراض تعود للدولة بدون وجه حق، أو توزيع الأموال على مؤسسات وهمية، يقوم هذا الشخص بتشكيلها على الورق للحصول على هذه الأموال، أو أي أشياء ذات قيمة عُهد بها إليه بحكم موقعه. و تحدثت بعض الصحف، عن أن بعض المسؤولين، يطمعون حتى في مواد التنظيف، وأوراق المرحاض ومسحوق الغسيل !!. ولا غرابة في ذلك، إذا علمنا، على سبيل المثال، أن 80% من مديونية المغرب، أهدرها الفساد الذي طال الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي وحده، وأن حجم المبالغ المُخْتَلَسة لا يقل عن 115 مليار درهم. وانطلاقا من الدراسات التي سبق أن قام بها عدد من الأطر المختصة في مجموع المبالغ المختلسة، توصلوا إلى أنها تمثل أربع مرات الاحتياطي المغربي لسنة 2001 ، كما تشكل 34% من الناتج الداخلي الخام.
الرشوة: وتعني الحصول على أموال، أو أية منافع أخرى، من أجل تنفيذ عمل مخالف للأصول المرعية، أو من أجل عدم تنفيذ عمل وفقا للأصول. ومع مرور الزمن، تصبح المداخيل الخفية الناجمة عن الرشوة، هي المداخيل المهمة، تفوق في كثير من الأحيان قيمة الدخل الأساسي للفرد، خصوصا إذا ترافق ذلك مع ارتفاع تكاليف المعيشة، وتدني رواتب الموظفين، وعدم محاسبة الفاسدين، الأمر الذي يؤدي إلى شيوع ذهنية تسوغ الرشوة، وتساعد على اتساع نطاق مفعولها. وقد تتنوع أسماء الرشوة وصفاتها، في محاولة للتخفيف من وقعها، كالهدية والتدويرة والقهيوة والتقدير والشكر، وقد تكون مالية أو عينية، وأحيانا تُحْتَسَبُ كنسبة مئوية من قيمة التكاليف، ولكن ذلك لا يغير من جوهرها الفاسد. وقد ترسخت هذه الصورة عند المغاربة من خلال الموروث الشفهي في الأمثال: الهدية مقبولة ولو كانت قد الفولة_ أنا غنية ونْحَبْ الهدية_ ادْهَنْ السير يسير.. واعتبر تقرير صادر عن منظمة الشفافية الدولية، أن المغرب مازال متخلفا عن محيطه العربي والإفريقي في محاربة الفساد، حيث يحتل المرتبة 91 من بين 175 دولة جرى تصنيفها ضمن مؤشر إدراك الرشوة، وهي مرتبة أسوا من مالاوي وزامبيا وبوركينا فاصو. وسجل تقرير مجلس أوروبا لتشخيص مكافحة الفساد، أن الرشوة منتشرة في المغرب، رغم التدابير التي اتخذت لمكافحة الظاهرة. كما خَلُصت “ترانسبرانسي ” المغرب، أن المغاربة لا يبلغون عن الرشوة، لأنهم لا يثقون في فعالية اللجوء إلى الهيئات الإدارية والقضائية.
غسل الأموال: هي العملية التي تتم بموجبها إعادة تدوير الأرباح المُتولدة عن الأنشطة غير المشروعة، لتمكينها من الدخول بشكل مشروع داخل النظام المالي للبلاد، بحيث يصبح من الصعب التعرف إلى المصادر الأصلية لهذه الأموال. وتهدف جرائم غسل الأموال أو تبييضها إلى تحقيق أمرين: أولهما إخفاء الرابطة بين المجرم والجريمة، على اعتبار أن هذه الأموال يمكن أن تكشف عن رابطة ملموسة بين هذه الجرائم ومرتكبيها، وثانيهما استثمار العائدات الإجرامية في مشروعات مستقبلية. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن جرائم غسل الأموال بالمغرب، ترتبط بجرائم المخدرات في الغالب، ويعود ذلك إلى أن أنشطة المخدرات، هي التي أوجدت الوعاء الأكبر للأموال القذرة، بفعل عوائدها العالية. ولم يعد سرا إن القانون رقم 43.05 المتعلق بمكافحة غسل الأموال الذي صدر منذ سنة 2007 أصبح حبرا على ورق، حيث لم نجد أحدا من المسؤولين متحمسا لتطبيقه، وكأن البلاد خالية تماما من الأموال القذرة.
ما يشبه الختم..
جاء في مقدمة مجلة أمل عدد 31/32 أنه منذ حصول المغرب على استقلاله ” استغلت طوائف من الناس فرحة وآمال المغاربة في المستقبل، كما استغلت جهل الأغلبية وسذاجتها لتعوض الفرنسيين والاسبان في مراكز الاستغلال والاستنزاف، وبطريقة أكثر بشاعة وأقل رحمة من الاستعمار نفسه (..) وابتدأ التأسيس للخلل والفساد والنهب، في مغرب ما بعد الحماية منذ سنة 1956 ، وتفاحش في مغرب الستينيات من القرن العشرين، ليصبح حالة طبيعية في السبعينيات، وذكاء ومفخرة في الثمانينيات، وليتورط فيه مطلع التسعينيات وبداية الألفية الثالثة عناصر سياسية ونقابية (..) ومن تبعات الخلل والفساد أصبحت بعض المهن والمهام في المجتمع، لا تحيل عن المهنة في حد ذاتها، وإنما تحيل على الغنى الفاحش (..) وقد نشرت بعض الصحف، الكثير حول حالات الفساد والكثير حول أرقامه وحجمه، كما نشرت الكثير من أسماء المتورطين فيه. وفرضت بعض التحولات الطفيفة التي يعرفها البلد بضغط خارجي_ وليس نتيجة قناعات حقيقية_ إقامة عدد من المحاكمات لبعض المتورطين، إلا أن النتائج لم تخرج عن إطار اللامعقول الذي حكم الخلل والفساد نفسه..” . وإذا علمنا أن للفساد تكلفة اجتماعية واقتصادية وسياسية باهظة، فإن مُحاربته تصبح مصلحة جماعية، مما يُملي بالضرورة أن تكون الوقاية منه شاملة، تمس جميع القطاعات، وتضم الوسائل الممكنة كافة.