يوميات معطل مغربي 4 / 11

0 391

طاقي محمد
قبل تخرجه من الجامعة، ذهب عبد الرحمان لخطبة حبيبته “سهام”. كانت سهام تدرس بكلية الحقوق وقد تعرف عليها في سنته الأولى من ولوجه سلك الماستر.. لما رآها لأول مرة فاوض قلبه على أن هذه الفتاة هي من أسرت مشاعره، ارتاح لعنفوانها وعفويتها وطيبتها.. قبلها قلبه قبل أن يتعرف عليها عقله. ففي الحب لا يوجد استئذان أو سابق إنذار.
في البداية أعجب بها كفتاة كاملة الأنوثة، وكأن أنوثتها فاقت جنسها النسوي.
فكم من امرأة ليست بأنثى، يجمعها بالنساء سوى أنها من فصيلة الجنس ذاته. لكنها امرأة في الشكل مترجلة في السلوك والمعاملة، ذكر في صفة امرأة.
يعشق الرجل الأنوثة، فطرته تجعله يخضع لنصفه الطبيعي. فالمرأة نصف الرجل كما الرجل نصف المرأة يكملان بعضهما البعض.. لا يريد الرجل أنثى تزاحمه في الذكورة، بل أنثى تعوضه الحسن والليونة. يكفيه نسخ الرجال أمثاله واستنساخ المجتمع بتفضيل الثقافة الذكورية.
في المرأة صنفان من النساء، امرأة أنثى وامرأة مترجلة.. الأولى تظهر على سجيتها وتتعامل وفق طبيعتها من حنان واستحياء ورفق، فلا تشعر بنقص أو ضعف. والثانية تتقمص قناع الرجولة، تتعامل بصلابة الفحولة، وتقلد الرجل صفة التجاذب والتعامل، فهي تحاكيه لتملأ الفراغ بمعاوضة عقدة النقص التي تسكنها.. لعلها مهووسة بالخشونة.. وتستحي من أنوثتها التي لطالما اعتبرتها من صفات الضعف والعجز.
تبع عبد الرحمان الطالبة “سهام” للمدرجات فحضر معها حصة القانون الدستوري، لاحظ تحركاتها وابتسامتها وقامتها وسلاستها. لاحظ طيبتها ووقارها ورصانتها.. عشق تلك السكينة والهدوء الذي تتميز بهما. نادتها إحدى صديقاتها بصوت منخفض: سهام أسهام ..
التقط اسم من شغفه الفضول في معرفتها، لقد عرف “سهام” فدخل سهم إعجابه بها في قلبه.. لها قبول غريب وارتياح فريد. استدارت بابتسامة بهيجة لمناديتها. نعم عزيزتي.
أصيب عبد الرحمان بنوع من الرعشة، إحساس لأول مرة يمتد في كيانه.. هل هو الإعجاب أم هو الحب؟ هل يعقل أنه وقع في حب تلك الفتاة من أول نظرة.. أليس الحب ألفة وتخاطر وتجاوب وقرب.
قرر عبد الرحمان أن يتعرف على الطالبة “سهام”، كي يقرأ فكرها، ويلمس معدنها، ويتآلف مع شخصيتها، ويشفي فضوله منها.. يتساءل في نفسه: كيف تكون سريرتها أهي نقية طاهرة أم هي حانقة متكدرة ؟ هل هي بذلك الصفاء والعفوية والطيبة التي تظهر عليها أم أنها عصبية ونكدية مدعية بتلك الشخصية الودودة ؟ !
نفسية عبد الرحمان ليست سهلة للوقوع في شباك العواطف، وعاطفته لا تعترف بسهولة لمن ينجذب نحوها، وذوقه في اختيار المرأة صعب.. وليست كل فتاة تخطف خاطره وتسلبه فؤاده وتميل بكيانه.. نعم فعبد الرحمان ارتاح إليها من سهم النظرة الأولى، فأعجب بها وحاله في حيرة. شعر أنه التقى توأم روحه وكأنه التقى بنفسه.
كانت اللحظة لحظة شرود، بل لحظة خلود. لم تكن مصادفة، بل لحظة قدر موعود. وَدَّع معها جثمان عاطفة عزباء، فتزوجت عاطفته بعاطفتها البكر.. فكيف السبيل إليها؟ وإلى قلبها؟
حلم عبد الرحمان بالفتاة التي تناسب هيامه، لكنه لا يريد استباق الأحداث. فإن أعجبته هامتها فلا يعني أنها كاملة الأوصاف.. كما لا يعني أنها فازت بدرجة الاستحقاق. لا زال أمامه اختبار ثقافتها وشخصيتها ومعاملتها وخلقها. فليس بالحب وحده يعيش الأزواج. لأن الحب قد يخلق تلك الشراكة المثالية، والميثاق الاجتماعي، والاستثمار التآلفي، لكن الحياة أعقد من أن تستمر بالعواطف. إنما تحتاج ذلك التفاهم بين روحين إلى تناغم الحاجة وتواؤم الثقافة وتكافؤ المعيشة وتقارب المستوى وتقابل الطباع.
فكر ثم قدر كيف يتقرب إليها؟ فقرر أن يطلب منها محاضرات المواد التي تدرسها، ففي اليوم الآخر حضر حصة القانون الإداري، ثم انتظر إلى أن تنتهي الحصة.. على الأقل عرف الفرق بين الشخصية المعنوية والشخصية الطبيعية ومميزات كل منهما.
تقدم نحوها عبد الرحمان ثم سلَّم عليها بابتسامة عريضة وقد استوقفها شخص غريب، وأحست بقدوم هذا المتطفل يقتحم عليها حدودها الإقليمية وسيادتها الجوية ومياهها البحرية.. وقد سألها بهدوء محاولا طمأنتها أنه مجرد طالب علم وليس بطالب هوى. هل تسمحين لي، فأنا أريد سؤالك بخصوص مقرر هذا السداسي وأحتاج منك بعض المحاضرات لأحد زملائي.. هل من مساعدة إذا سمحت؟ فهمهمت بأي نعم. ليس هناك مانع. تبادلوا أطراف الحديث هم الثلاثة: عبد الرحمان وسهام وصديقتها. وكلف نفسه مصاريف نسخ بعض الدروس.. لا يهم حتى لو خسر مصروف الشهر، على أن لا يخسر فضوله ومتعة انجذابه.
شكرها واستلطف معاملتها الطيبة.. وقد زاد إعجابه بها بل تعلقه بوجودها. فهي الفتاة التي ابتهج لبريق عينها وتدفق ألفاظها وتفننها في الصمت والكلام، عفوية تواصلها أثارت حفيظته الملتهبة.
ربح عبد الرحمان اليوم معركة لقاءها الأول ولم يخسر الكثير من موارده، ولم يتقهقر عن مواقعه. بل حقق إصابة في منطقتها وقد ظفر برقم هاتفها من أجل معرفة المزيد عن المحاضرات أو الزحف نحو ثخوم قلاعها.
بعد أيام قليلة اتصل بسهام يستفسرها عن محاضرات مادة الالتزامات والعقود، فحدد معها موعدا للقاء، لنسخ تلك الدروس. حينما التقى بها وهي رفقة صديقتها “منال”، عزمهما بمقصف الكلية بدل الوقوف على أروقتها.
تبادلوا أطراف الحديث ثلاثتهم وفاحت من حديثهم رائحة الصدق والاحترام. في الحقيقة حديثهما وإن كانت “منال” حاضرة خلال هذا الحديث فهي غائبة. غائبة عن مسرح التمثيلية، ويلزمها مُخرج فني يشرح لها معاني السيناريو ولطائف المشهد وأسرار القصة التي بدأت للتو.
مع مرور الأيام توطدت علاقة عبد الرحمان بسهام. يأمل مثل أي شاب في أن يعيش حياة سعيدة بعائلة سليلة مع أبناء يرضعون مكارم الأخلاق عن أمهم المدرسة. أوليست الأم مدرسة إن أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق..
عاملها معاملة الملوك للأميرات، وناقشها مناقشة المثقفين في قضايا الديموقراطية والثورات العربية والاستثناء المغربي ومطالب حركة 20 فبراير المتصاعدة، شخصوا الاستبداد بليبيا ومصر واليمن. واستبشروا بسياسة حكومة عباس الفاسي في توظيف 4307 إطارا من الأطر المعطلة حاملي الشهادات.. وقد عرفت أنه طالب بالماستر، إذن فهو مشروع معطل بل موظفا بالقوة لما يؤول إليه كافة المعطلين من إدماج في أسلاك الوظيفة العمومية..
عاشا على أمل بيت الزوجية والحياة الهنية. وقد صارحها بإلاعجاب الشديد الذي يكنه لها، واعترف بتربصه العفيف اتجاهها.
تسارعت الأحداث فيما بينهما، فخطبها قبل أن يناقش رسالة الماستر. أراد الفوز بالربحين معا، أولهما قلبها وثانيهما شهادته السحرية للوظيفة.
تخرج عبد الرحمان بشهادتين جليلتين، شهادة علمية وشهادة غرامية..

يتبع

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.