أنا و جدي و الوطن
في قريتي كل شيء له طعمه الخاص مراً أحيانا و حلوا في أحيان كثيرة، لم أرى في حياتي شيء أكثر وفاءا لبلدة من جبال تحرسها و بضع أغراس نخل لم تبخل على الأهل بتمر يرفع رأسهم و يشفي ألم جوعهم. و بخَلَف يضمن استمرارية الإنتاج. لكني رأيت الكثير من ناكري الجميل، ذلك الإنسان الذي ما إن يستنشق جرعات هواء مدينة أخرى حتى يتقاطر لسانه سبا و شتما في حق وطنه الصغير الذي رحم ضعفه يوما، و ستر عيبه أياما كثيرة، و أنشأه خير تنشئة. وطنه الصغير. زاكَورة التي لو تحدثت لبكت طويلا فأتذكر شعر الشافعي و أنسج على وزنه ” نعيب أوطاننا و العيب فينا و ما لأوطاننا عيب سوانا ونهجوا ذا الوطن بغير ذنب ولو نطق الوطن لهجانا”.
جدي شيخ في الثمانينات من عمره يحفظ جيدا تواريخ المنازل الفلاحية بشكل مضبوط يعرف بدقة متناهية مواقيت “السمايم” و “الليالي” و “البكَيرة”… إلى غير ذلك مما تعلمه عن أجداده، يحفظ العديد من الآيات والسور القرآنية بل و يستطيع القراءة و الكتابة بخط رديء. رغم أنه لم يرى أبداً شكل المدرسة من الداخل و لا أحس بالمقعد الخشبي الذي جلسنا عليه جميعا و نحن ننصت بخشوع للمعلم.
جدي لا يحب الحديث بشكل مطول كما باقي الشيوخ. فهو مثال جيد للحكمة التي تقول – خير الكلام ما قل ودل- نال الزمن من صحته و أخد بعض من سمعه أيضا. لكنه لم يستطع أن ينال من عزمه و آماله. أذكر جيدا حكاياته الواقعية التي كان يطربنا بها وكما لكل مقام مقال. فلكل حدث حكاية و لكل حكاية عبرة حتى أنني أشك ما إذا كانت كل تلك العبر قد استفاد منها جميعها. حكاية لم ترد أن تفارق خيالي كانت عن طائر جميل اصطاده أحدهم و باعه لأحد الملوك فوضعه في قفص من ذهب معلق في باحة خضراء. لكن العصفور ظل ينادي ” وكري وكري” لم يستسغ الملك الأمر فأطلق صراحه و أمر بتتبعه فوجده يسكن في عش معلق بجانب وادي لا يكف العش عن الحركة ليل نهار حيناها فهم الملك ما أراد جدي أن يفهمني أن الرجوع إلي الأصل أصل. وفي نهاية القصة لم يتوانى عن ذكر العبرة منها. فكانت أجمل شيء تعلمته حينها الوفاء للأرض و الوطن.
كل ما تأملت وجه جدي أرى سنوات المعانات قد نقشت بأحرف بارزة علي جبينه أقرأ تاريخ موطني الصغير بكل تفاصله أرى الطمأنينة التي تسكن قلبه رغم كل “المعانات”. حيث أنني ما أراها معانات ، فغياب مستعجلات مثلا تشكل مشكل بالنسبة إلي، أما بالنسبة لجدي فالمستعجلات لا تحمل أي معنى و بالتالي فغيابها ليس مشكل. كل ما تأملت وجه جدي تحضرني صورتي وأنا شيخ في مثل سنه أو أصغر قليلا وحفيدي يتأملني و يقرأ ما قرأت أنا في تجاعيد الوجه و النظرات المصحوبة بحسرة بالغة. حسرة ربما عن ما مضى من الوقت دون أن يُغيرَ من الواقع شيئا. كبر جدي و هذا الوطن لم يكبر. أو ربما حسرته عن أشياء لا يريد أن يبديها عملا بمبدأ “لا تسألوا عن أشياء إن تبدى لكم تسؤكم”. ليس مهما أن نبحت فما أخفي بين النظرات و اللحية التي كساها الشيب عن آخرها. بل الأكثر أهمية بالنسبة لي أن نستيقظ من أحلام اليقظة التي بات الجميع يتقنها و ننقد هذا الوطن من تخلفنا وممن خلفنا عن من سبقنا.
جميل أخي السباك . لنقل أنه ليس المشكل أن نهجر وطننا الأصلي ولكن الإشكال هو أن ننسى فضله علينا .