الإضراب العام… رؤية هادئة في حدث كبير
قليلة هي المرات التي ينفذ فيها إضراب عام في تاريخ المغرب، إذ حدث مطلع الثمانينات والتسعينات وكانت له أبعاده وتداعياته ومآلاته؛ ولازال المغاربة يحتفظون بذكرى مؤلمة عن الإضراب العام في 20 يونيو 1980، وما رافقه من احتجاجات واعتقالات خاصة في مدينة الدار البيضاء، في سياق أزمة اقتصادية واختبار للقوة بين السلطة السياسية والمعارضة اليسارية. أما محطة 14 دجنبر1990، فمن بين ما أفضت إليه تشكيل الكتلة الديمقراطية وتقديم وثيقة النداء الديمقراطي التي مهدت لحكومة التناوب الديمقراطي برئاسة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي. في حين أن الإضراب العام ل 29 أكتوبر 2014، كان فريدا في مدخلاته وحيثياته ومركباته، محترما للدستور وللقانون في تنفيذه، وسيكون له ما بعده.
إن هذه الموقعة الكبيرة تستلزم التحلي بقيم الصدق والموضوعية في التناول، فالإضراب عام ووطني في المسمى والمبتغى والحمولة النظرية، لكن لم يكن كذلك بالفعل والممارسة، وكونه مكفول بالدستور، فمن شاء أضرب عن العمل لاعتباراته، ومن شاء أضرب عن الإضراب لقناعاته ومارس حقه الدستوري في العمل. رغم ما يقال هنا أو هناك من إجبار على العمل او على الإضراب، ومن عدم احترام بعض القطاعات النقابية لقرار المركزيات التي تنضوي تحت لوائها.
فالنسب كانت متفاوتة من قطاع لآخر ومن العام إلى الخاص،. ولعل الأجراء والموظفين يتساءلون عن مخرجاته بعدما تابعوا وعلموا طبيعة مدخلاته التي سال فيها مداد كثير بسبب العديد من العناصر المركبة والمعقدة. ولعل أبرز ما يميز الحدث يمكن إجماله في النقط التالية:
– أول إضراب عام وطني منذ ربع قرن، وبعد الحراك العربي، وبعد ثلاث سنوات من عمر حكومة الأستاذ عبد الإله بنكيران التي اشتغلت على ملفات شديدة الحساسية ومثيرة لكثير من الجدل.
– القطع مع الممارسات والذكريات السيئة التي رافقت محطات مماثلة، والتوجه في مسار دعم الحريات وترسيخ ثقافة الحقوقية لدى المواطن(ة).
– تعامل الحكومة مع هذه المحطة باحترام المقتضيات الدستورية والقانونية، واستعدادها لتحمل مسؤوليتها في الأمن وحماية الأشخاص والممتلكات وضمان الحقوق والواجبات.
– تقاطع اهتمامات النقابيين وهواجس الفاعلين السياسيين، وأن ما يجمع الفئتين هو الارتباط التنظيمي ومواجهة سياسية الحكومة، رغم أن العمل النقابي يجب أن يكون عامل استقرار وتوازن كما في تونس وفرنسا، وألا ينجر للاصطفافات ولا إلى خدمة طموحات الفاعل الحزبي.
– محطة الإضراب العام تأتي في غياب قانون الإضراب وقانون النقابات، مما يثير أسباب ودواعي التأخير الطويل في إخراج منظومة قانونية لتنظيم هذا المجال بما يقتضي احترام مبادئ الديمقراطية والشفافية وتجديد النخب وخدمة مصالح الشغيلة.
– مطالب النقابات ارتهنت بالأساس إلى آثار إصلاح أنظمة التقاعد على المنخرطين، والحكومة ترد أن الدواعي غير مفهومة وأن ملف التقاعد غير نهائي بل سيعرض للحوار.
– دعوة ثلاث مركزيات نقابية فقط لهذه المحطة، مما يدل على أن تحالفات اليوم قد تكون مرحلية وزائلة وتؤسس لتحالفات مستقبلية مستقرة وثابتة ستؤثر لامحالة في مغرب الغد.
– انضمام ومساندة الإضراب من طرف حوالي ثلاثين هيئة نقابية وسياسية بالإضافة إلى جماعة العدل والإحسان الإسلامية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مما يدفع للبحث أساسا عن نقط الالتقاء على مستوى الأهداف الناظمة بين جميع المساندين.
– مشاركة مركزية الاتحاد المغربي للشغل (UMT) لأول مرة في تاريخها في حدث مماثل، مما يأخذ المتتبع للسؤال عن المتغيرات الدافعة لاتخاذ هذا الموقف من طرف نقابة المحجوب بن الصديق رحمه الله.
– امتناع مركزية الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب(UNTM) ، من المركزيات الخمس الأكثر تمثيلية، عن المشاركة في الإضراب العام دون تشويش، واكتفت بالتأكيد إن الإضراب لا يعنيها لأنه ذو حمولة سياسية رغم أبعاده الاجتماعية، وهي التي يرأس حليفها الاستراتيجي الحكومة.
– انخراط منابر إعلامية منها ما هو رسمي لأول مرة في تاريخها في الدعاية والحشد للإضراب، ومن المتتبعين من يشير إلى أنها لن تتحرك دون تلقي الضوء الأخضر، وآخرون يؤكدون إنه زمن برهانات جديدة في الإعلام.
– عدم نجاح وساطة السيد نبيل بنعبد الله (وزير وأمين عام حزب التقدم والاشتراكية) في إقناع النقابات بالعدول عن قرار الإضراب، كما تحدثت أنباء عن مساع في نفس الاتجاه بذلتها وزارة الداخلية تجنبا لكلفة الإضراب على الأمن والاقتصاد.
– تأجيل أشغال هيئات بمؤسسات دستورية كجلسات ولجان بالبرلمان، وبعض الجماعات الترابية التي كانت بصدد دورة أكتوبر.
– نسبة المشاركة في الإضراب حسب النقابات الداعية 83,7% في كل القطاعات، و42% في الوظيفة العمومية حسب الحكومة، في حين تقل نسب المشاركة في القطاع الخاص كما جرت العادة لمجموعة من الاعتبارات.
– تسجيل أعلى النسب في قطاعات الصحة والتعليم والعدل ( 69، 66، 50%)، ما يشير إلى مدى جدية المطالب. ومقاطعة الإضراب في قطاعي الداخلية والخارجية، ونسب ضعيفة في الأوقاف والشؤون العامة والسياحة (0,17، 1 و12%).
– دعوة الشباب والطلبة والتلاميذ للانضمام للإضراب ومساندته، اعتمده الداعون له من أجل تعميم الإضراب، لكن هذه الفئة ليست من الأجراء ولا الموظفين حاليا.
– الاقتطاع من أجور المضربين، ترسيخا لثقافة الأجرة مقابل العمل، خاصة وأن المضربين واعون بمسطرة الاقتطاع بعدما أصبح ساري المفعول في حالات مماثلة سابقة.
وبعيدا عن التراشق الإعلامي بين النقابات والحكومة، فهذه الأخيرة تسعى إلى إصلاح بعض الملفات تطبيقا لتوصيات صندوق النقد الدولي كالتحكم في عجز الموازنة إلى 3%، وحصر الدين العام في 60% من الداخل الداخلي الخام، وهو ما دفع الحكومة إلى إصلاح نظام التقاعد وخفض الإنفاق العام، خاصة ما له علاقة بالدعم، وهذا ما أثار النقابات بسبب أداء المواطن لجزء من فاتورة الإصلاح.
إنه أمر يستوجب التوقف عنده، وتناوله بأسلوب يتصف بالعدل والإنصاف والحياد والصدق، سعيا لإيجاد إجابات كافية عن تساؤلات مشروعة؛ هل نجح الإضراب في لي ذراع الحكومة واستئساد النقابات لفرض رؤيتها وأجنداتها في كل حوار مرتقب؟ أم كانت رسائله مصدر قوة وتفويض للاستمرار في معالجة الأوراش الاستراتيجية الكبرى؟ هل تم فعلا القطع مع الممارسات التي تسيء للفاعل النقابي والسياسي؟ وهل المواقف والإجراءات التي تقدم عليها السلطة التنفيذية تستدعى إضرابا وطنيا عاما؟ بل مزيدا من التعبئة ورص الصفوف لمواجهة ما هو آت؟ أم هي حسابات في العمق تستحضر أبعادا محلية وإقليمية ودولية؟ أم توظيف الفاعلين الكبار لأدوارهم في استخدام أساليب العمل السياسي وآليات النضال النقابي؟ خاصة بعد الإحساس بضيق هامش التحرك والمناورة ومحدودية الامتداد الشعبي، لتسجيل نقاط في شباك الشريك قصد ربح جولات استعدادا لما هو آت.
وختاما، يتعين الالتزام بمزيد من اليقظة والوعي قصد التطلع إلى مستوى اللحظة التاريخية التي تتطلب التحلي بالمواطنة القوية والوطنية الصادقة، رغبة في المساهمة الجادة والانخراط الفاعل في البناء الديمقراطي وسعيا إلى كسب رهانات التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.