الأضرحة والزوايا بين التاريخي الطقوسي والسياسي
أولا وقبل الشروع في صلب الموضوع لابد من الإشارة إلى الدافع إلى كتابة هذه الأسطر؛ والمتمثل في قراءتنا لمقال ثم نشره قبل أيام في الموقع الإخباري نفسه “زاكورة بريس”[1]، ونظرا للمكانة الاجتماعية للموضوع، والأهمية العلمية للمقال والتحليل الرصين والدقيق المعتمد في بناءه، وكذا شساعة الموضوع وانفتاحه الكبير؛ تولدّت لدينا رغبة في المساهمة أو إضافة في أحد جوانب الموضوع (وبالخصوص موضوع الفقرة الأولى من المقال)، من وجهة نظر سوسيو-أنثروبولوجية.
وسنعيد الانطلاق في معالجتنا للموضوع من التساؤل الذي بدأ به المقال السابق: “في الوقت الذي تتسابق فيه الشعوب – بدعم من حكوماتها التي تخصص مئات ملايين بل مليارات الدولارات لمؤسسات البحث العلمي…. فإننا نجد الدولة المغربية تصرف ملايين الدراهم في دعم الزوايا والمواسم و الشعوذة والدجل”، وهذا بالضبط ما تقدمه لنا نتائج البحث العلمي وحالة الباحثين والمفكرين من أبناء الوطن من جهة؛ ووضعية الزوايا والأضرحة والمواسم وحالة أحفاد الأولياء الذين يعيشون من رأسمالهم الرمزي (الأولياء) من جهة ثانية.
تعتبر زيارة الأضرحة وتعظيم الأولياء وما يصاحبها من طقوس الدعاء ظاهرة شائعة في الكثير من أنحاء المغرب الكبير؛ فالناس على اختلاف أجناسهم وطبقاتهم يشدون الرحال إلى هذه الأضرحة طلبا للشفاء ورجاءً للبركة والنور، واعتمادا على مجموعة من الدراسات الأنتروبولوجية والسوسيولوجية التي اهتمت بالإنسان داخل نسقه الاجتماعي؛ يتضح أن زيارة وتقديس الأضرحة تعتبر ممارسة (دينية) مترسخة في معظم دول المغرب العربي على الرغم من الخطاب الفقهي المناوئ لها، الذي يرى فيها بدعة تمس جوهر التوحيد الديني للإسلام[2].
إن الباحث لهذا الموضوع يعيد ضمنيا طرح الإشكال نفسه الذي طرحه بول باسكون منذ عقود خلت، عندما تساءل حول أسباب استمرار مجموعة من المعتقدات والممارسات في الطقوس الدينية المحلية بما فيها الزوايا والأضرحة، بالرغم من الحركة التصنيعية الملموسة التي عرفها المغرب في بداية القرن 20 م، وكذا انتشار مظاهر الحداثة كتوسع قاعدة المتمدرسين، وارتفاع مستوى الخدمات الطبية[3]؛ وعندما نضع نحن اليوم مثل هذا السؤال فإننا لا نكرره، بقدر ما نحاول تجديده وتحيينه وتكثيفه.
إن الباحث في معالجته لهذا الإشكال يجد أمامه عدة عناصر للإجابة؛ يمكنها أن تبرر أسباب استمرار الظاهرة ومنها:
- قدم الظاهرة وامتداداتها وأصولها التاريخية:
المغاربة مثلهم مثل العديد من الشعوب يعيشون في ظل العديد من الأنساق والمعتقدات؛ فهناك مجموعة من الطقوس والممارسات السابقة على عهد التوحيد[4]، التي لها امتداد حتى عصر الناس هذا. حيث نجد معظم الباحثين الذين درسوا المغرب في الفترة الاستعمارية (إيميل درمنغن، إدمون دوتي، ديل أيكلمان، هنري باصي، إميل لاووست،…) قد أجمعوا على أن هذه الممارسات هي استمرار لبقايا وثنية. ويمكننا رصد أراء بعض هؤلاء الباحثين حول أصول الظاهرة كالتالي:
- استمرار للبقايا الوثنية داخل المعتقدات الدينية والممارسات المرتبطة بها عند المغاربة (إدوارد فسترمارك).
- نشأة الأولياء يرجع إلى خط التحدر النسبي الذي يعتبر نوع من أنواع الشرعية في الإسلام[5] (إرنست غيلنر).
- نتاج عملية “أسلمة” المعتقدات الوثنية القديمة من جهة، والتوحيد المفرط للإسلام وضرورة ظهور الوسطاء من جهة ثانية[6] (إدمون دوتي).
- عقلنة الإسلام للمقدس وإعطاؤه الله كمصدر وحيد فأصبحت القداسة بذلك من نصيب السماء. أما العالم الأرضي الدنيوي فقد رفعت عنه القداسة وألحق به الدنس، وبالتالي فإن الأماكن والأشياء الأرضية لا تستمد قداستها إلا من كونها ذات علاقة معينة مع السماء[7] (إيميل درمنغن).
- أسباب الظاهرة:
حسب أصحاب النظرية الانقسامية يشترط التنظيم القبلي في المجتمعات الإسلامية الإفريقية وجود وسطاء، وهنا يبرز الدور التحكمي الذي تضطلع به المجموعات الدينية خاصة الصلحاء وشيوخ الزوايا لما يتمتع به هؤلاء من حياد إثني (قبلي) وكذا ديني وكذلك لكونهم يعيشون في المناطق الفاصلة بين القبائل لذلك يعملون على ضمان أمن الحدود واحتضان المواسم والأسواق وكذا التحكيم في النزاعات التي تنشب بين القبائل. من جهة أخرى نجد باحثين وطنيين مثل العروي،… وعبد الله حمودي يعيدون التفكير وتحليل طبيعة التراتبات الاجتماعية في المغرب بزعزعة الأطروحة الانقسامية؛ وفي هذا الإطار يأتي النقد الذي وجهه عبد الله حمودي للأطروحة الانقسامية سواء في مؤلفه “الشيخ والمريد” أو قبل ذلك في مقاله “الانقسامية، التراتب الاجتماعي، السلطة السياسية والقداسة”، خاصة عند غيلنر في دراسته حول قبائل أيت عطا وعلاقتها بزاوية أحنصال حيث انتقد حمودي استنتاجات غيلنر المتعلقة أساسا بوظائف الصلحاء وأدوارهم السلمية والسياسية.
- الأدوار التي كان الصلحاء والزوايا يلعبها في الحياة العامة للسكان ومنها:
- تدعيم آليات ضبط القبائل وإخماد صراعاتها والقيام بدور التحكيم في النزاعات والتوسط لفائدة المنهزمين، كما كان يفعل شيوخ تامكروت، وهنا يأتي دور الأولياء ذوي الفعالية من حيث تقديمهم الاستمرارية والإطار المستقر الذي يفتقده بشكل واضح النظام السياسي لجماهير القبائل[8]. وكذلك في مكان الأسواق والحفاظ على أمنها.
- وكذا حفظ الحدود بين القبائل، فكما يقول إرنست غيلنر فالصلحاء ومستوطناتهم يقعون من الناحية المادية على تخوم مهمة.
- مساهمتهم في ضمان ربط الاتفاقات.
- موقعهم على الحدود أيضا يساعد التجار كثيرا فرجال القبائل الذين يزورون الأسواق عند القبائل المجاورة، بإمكانهم أن يمروا عبر مستوطنة الصلحاء،… إذ يقدم المرافق الصالح ضمانا آنيا لسلامتهم من مضيفهم ويضمن في الوقت نفسه سلوكهم الحسن إزاء مضيفهم[9].
- التعويض الروحي والمادي التي تقدمه الأضرحة للأغلبية الساحقة من المغاربة؛ والقرويين منهم على الخصوص التي تصبو وتتطلع إلى تحقيق مبتغى الحج ولا تصل إليه بسبب محدودية قدراتها المالية، فإنها تكتفي بزيارة الأضرحة، هذه الزيارات التي تعد في بعض المناطق بمثابة حج مصغر ذي قيمة محلية أو وطنية تعادل قيمة الحج إلى مكة بالنسبة لغير ذوي الاستطاعة[10].
- يساهم وجود الشرفاء باعتبارهم أول الشهود الذين يذكرون في البيعة بسبب النعمة التي يضفيها عليهم نسبهم، ولا شيء يعقد أو يحل دون مباركتهم ومعلوم أن هذا التواجد أبعد من أن يكون احتفاليا صرفا، فالشؤون الحاسمة للدولة تفرض اللجوء إلى وساطتهم، في نزاعات السلالة الحاكمة، وفي الحروب، وفي الاضطرابات التي تحصل في البوادي والحواضر. وقد وصل هذا إلى حد تدخل بعض السلالات بين السلطان ورعاياه (شرفاء وزان مثلا)[11].
- السياسة الدينية للدولة:
يعد الاعتقاد في القدرات الخارقة للأولياء والتعلق بأضرحتهم، أحد أبرز هذه الأشكال الدينية التي حضيت وتحضى بدعم أجهزة الدولة الرسمية، لضمان استمراريتها والمحافظة على إشعاعها، ويمكننا التمييز بين ثلاثة أوجه رئيسية لهذا الدعم نجملها فيما يلي: السماح بالوجود، العون المادي الملموس، والاعتراف بشرعية الوجود.
- السماح بالوجود: ويعتبر وجود هذه المنشآت الدينية والمعتقدات والممارسات المرتبطة بها، من منظور كل الجماعات الدينية الإصلاحية قديمها وحديثها (سلفية، تبليغية، عدلية،…) بدعة تمس جوهر العقيدة، وتجانب الإسلام الصحيح، وبالرغم من هذا الاحتجاج “الأصولي” الذي يشكك في شرعية كافة التقاليد الدينية المحلية، فإن السلطات الرسمية تسمح لهذه المؤسسات الدينية بالبقاء وممارسة أنشطتها، في الوقت الذي تضيق فيه الخناق على عدد من أنشطة بعض الجماعات الإسلاموية، ويرى عبد الله حمودي أن الأضرحة بالمجتمع المغربي، كأمكنة ترسو بها طاقة القداسة والعبادة المنذورة لها، قد استعادت قوتها انطلاقا من سنوات الستينيات بفضل التشجيع المادي والمعنوي الذي قدمته لها السلطة المركزية”[12].
- العون المادي المباشر: تخضع الأضرحة لوصاية وزارة الأوقاف باعتبارها منشآت دينية، وبناء على هذا الأساس، فإنها ملزمة على تقديم المساعدات المالية لها؛ بيد أن هذه الوزارة تخص هذه المنشآت بامتيازات أخرى وتكتفي هذه الجهة الرسمية في وصايتها على الأضرحة، بإشراف عام لا يمنحها أي نصيب من مداخيل الضريح المالية، بينما تلزم نفسها بضرورة التدخل لسد أي عجز مالي ممكن لتسييرها، كما تسارع لتقديم المنح المالية التي تهدف لتوسيع بنايتها أو صيانتها، أو الرفع من مستوى تجهيزاتها، وقد شكلت عودة المواسم السنوية الكبرى التي يحتفل بها حول أضرحة الأولياء الكبار في البلاد، مشهدا (بالمعنى المسرحي) كذلك ينشط فيه الأعيان ويتلقون فيه الدعم العلني من السلطات الرسمية[13]. وحتى يضل “أولاد السيد” أو الشرفاء المقاولون على حد تعبير محمد الطوزي[14]؛ دائما أقدر الناس على فهم شبكة العلاقات الموجودة بمجتمعاتهم المحلية، وأكثر تحكما فيها واستغلالا لها، ولج العديد منهم غمار الانتخابات الجماعية والبرلمانية بتشجيع من الجهات الرسمية[15].
- الاعتراف بشرعية الوجود: إذا كانت الدولة تسمح بوجود هذه المنشآت الدينية، وبأنشطتها المثيرة للجدل عند البعض، وتعمل على دعم الزعامات الدينية التي تقف وراءها عن طريق إدماجها في نظام الامتيازات التي تحظى به بعض النخب المحلية والأعيان، فإن أقصى درجات هذا الدعم وأوضحها في الوقت نفسه هي تلك المتعلقة بتنظيم المواسم التي يستقطب البعض منها عشرات الآلاف من الزوار الوافدين عليها من مختلف مناطق المغرب، بفضل الدعاية القوية التي تقام لها من طرف أجهزة الإعلام الرسمية[16]. إذ أصبح لهذه التجمعات السنوية التي تقام حول أضرحة الأولياء الكبار مظهرا شبه رسمي، حيث يزورها وزراء وموظفون سامون[17]. ويقول أيضا عبد الله حمودي في هذا الصدد “وتتلقى الاحتفالات التي تقام حول أضرحة الزوايا تشريفات السلطات العليا، وكثيرا ما تتضمن تنقلات السلطان زيارة الأضرحة المهمة”[18]. وتعرض القناتان التلفزيتان الوطنيتان كل سنة صورا من الحفلات التي يقدم فيها مستشار عاهل البلاد أو وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، الهبات الملكية النقدية السخية للشرفاء في مختلف ربوع الوطن (الأمغاريين، الأنصاريين، القادريين،…)، وصورا من حفلات الافتتاح التي يقدم خلالها عملاء الأقاليم القربان الحيواني (ثور)، والهبة المالية السنوية لورثة الولي دفين الضريح[19].
هذا بالإضافة إلى مجموعة من العناصر الأخرى التي لا يتسع المجال لذكرها؛ والتي يمكنها أن تعطي تفسيرا للظاهرة[20].
وعلى سبيل الختم فإن الدولة لازالت تدعم آليات وجود واستمرار الأضرحة، باعتبار الأضرحة نواة مركزية داخل المجتمع، ومهدئ يسكّن آلام مجتمع يتخبط في المعاناة والتناقضات، فما تقدمه الدولة هو تدعيم لشبكة المعتقدات الدينية. وما عسانا أن نقول؛ كيف سنقوم بنقد أفكار ومعتقدات الشريحة التي تتردد وتعتقد في الأولياء والأضرحة، ونصنفها في طور دائرة التخلف طالما الدولة هي القدوة والمثال للمجتمع والجهاز الأمثل، صاحبة القرارات والفكر تدعم الأضرحة وتأطرها بعدة آليات للسماح بالوجود والاستمرارية.
[1] على الرابط التالي http://www.zagorapress.com/details-20093.html
[2] منديب، عبد الغني. الدين والمجتمع . دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغرب. منشورات إفريقيا الشرق. الدار البيضاء. 2006.ص: 149.
[3] – بول باسكون، الاساطير والمعتقدات بالمغرب، المجلة المغربية للإقتصاد والإجتماع، العدد165-166، يناير 1968، صص: 71-85.
[4] بول باسكون، الأساطير و المعتقدات بالمغرب، المجلة المغربية للاقتصاد و الاجتماع، العدد 165-166 يناير 1968،ص:71-85 .
[5] غيلنر، إرنست. مجتمع مسلم. ترجمة أحمد أبو بكر باقادر، دار الدار الإسلامي. الطبعة الأولى يناير 2005. ص: 226.
[6] منديب، عبد الغني. الدين والمجتمع : دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغرب. منشورات إفريقيا الشرق. الدار البيضاء. 2006. ص: 30.
[7] Emile Dermenghen : les culte des saints dans L’Islam maghrebin . gallimard. Paris 1954, p: 34.
[8] غيلنر، إرنست. مجتمع مسلم. ترجمة أحمد أبو بكر باقادر، دار الدار الإسلامي. الطبعة الأولى يناير 2005. ص: 234.
[9] غيلنر، إرنست. مجتمع مسلم. ترجمة أحمد أبو بكر باقادر، دار الدار الإسلامي. الطبعة الأولى يناير 2005. ص: 235.
[10] Mohamed tozy in paul pascon: la maison d’iligh et l’histoire sociale du tazrwalt. Op. cit. p: 174.
[11] حمودي عبد الله، الشيخ والمريد، النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة، ترجمة عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، الطبعة الرابعة، 2010. ص: 88.
[12] حمودي عبد الله، الشيخ والمريد، النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة، ترجمة عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، الطبعة الرابعة، 2010. ص: 176.
[13] حمودي عبد الله، الشيخ والمريد، النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة، ترجمة عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، الطبعة الرابعة، 2010. ص: 56.
[14]– Mohammed tozy in poul . pascon: la Maison d’ illigh. op. cit. p: 176.
[15] – منديب، عبد الغني. الدين والمجتمع : دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغرب. منشورات إفريقيا الشرق. الدار البيضاء. 2006.ص: 193.
[16] منديب، عبد الغني. الدين والمجتمع : دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغرب. منشورات إفريقيا الشرق. الدار البيضاء. 2006. ص: 193.
[17] حمودي عبد الله، الشيخ والمريد، النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة، ترجمة عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، الطبعة الرابعة، 2010. ص: 176.
[18] حمودي عبد الله، الشيخ والمريد، النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة، ترجمة عبد المجيد جحفة، دار توبقال للنشر، الطبعة الرابعة، 2010. ص: 113.
[19] المختار الهراس وإدريس بنسعيد، التحولات الاجتماعية والثقافية في البوادي المغربية. منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط. ص: 153.
[20] كطبيعة البنيات الاجتماعية والثقافية للمجتمع المغربي، والوضعية التي توجد عليها الزوايا والأضرحة بالمغرب، الطابع الديني الذي تتميز به الظاهرة،…