لم تكن النهاية المأساوية لوزير الدولة عبد الله بها الأسبوع الماضي وحدها التي صدمت المغاربة وأدخلتهم في حالة من الذهول والتساؤلات، فعلى مر تاريخ المغرب الحديث يبدو أن للموت طريقة خاصة يتصيد بها السياسيين والشخصيات الفكرية بشكل تراجيدي تطبع معه ذكراهم في الذاكرة المغربية المشتركة.
ويعج تاريخ المغرب في العقود الأخيرة بعشرات القصص لمسؤولين وسياسيين مازال موتهم التراجيدي يستفز الذاكرة الجماعية للمغاربة ويدخلها في بحر من التساؤلات لا تنتهي بدفن الميت، بل تستمر طيلة سنوات في استحضار متواصل لـ «التراجيديا»، تماما كما يراها أرسطو متعلقة «باستعراض أحداث من الحزن ونتيجة مؤسفة في النهاية».
وتأتي وفاة القيادي في حزب العدالة والتنمية ووزير الدولة في الحكومة عبد الله باها بعد أقل من شهر بنفس مكان وفاة القيادي اليساري أحمد الزايدي، الذي فارق الحياة داخل سيارته رباعية الدفع بعدما غمرتها المياه أثناء محاولته المرور من ممر يقع تحت السكة الحديدية لا يبعد كثيرا عن واد الشراط.
«عبد الله باها»، «أحمد الزايدي»، «علال الفاسي»، «الزرقطوني»، «ابراهيم الروداني»، «ثريا الشاوي»، أسماء مغربية وإن اختلفت طرق موتها، إلا أنها انتهت بشكل تراجيدي انطبع في ذاكرة المغاربة بسبب فجائيته وتفاصيله الغامضة والمأساوية.
فلم يتخيل أحد أن الزعيم الاستقلالي «علال الفاسي»، الذي شغل سلطات الاستعمار الفرنسية وأرق وجودها في المغرب، أن يتوقف قلبه في مكتب ديكتاتور من أوربا الشرقية، تماما كما توقف قلب عبد اللطيف السملالي الرجل الذي سهر على الشأن الرياضي في المغرب لسنوات في إحدى المصحات بعدما تعرض لنزيف داخلي بالمخ، كما أنهت رصاصات في الرأس حياة ثريا الشاوي التي كانت أول امرأة مغربية وعربية تغزو مجالات كانت حكرا على الرجل، وتصبح أول طيارة في تاريخ المغرب، وبعد محاولات عديدة لاغتيالها، ترصدها الموت وهي على عتبة منزلها وانتهت بشكل تراجيدي، كما ترسم الرواية الرسمية لموت الجنرال «أحمد الدليمي» صورة تراجيدية لموت الجنرال القوي آنذاك في المغرب تحت عجلات شاحنة مجهولة كانت تسير بسرعة جنونية ولم يوقفها تهشم عظام الجنرال عن الاستمرار في سرعتها الجنونية.
ويأتي الموت التراجيدي لوزير الدولة عبد الله باها والقيادي في حزب العدالة والتنمية ليضيف حلقة جديدة من حلقات موت السياسيين والشخصيات المغربية ويفتح من جديد الباب أمام التساؤلات والتأويلات التي غالبا ما تتزامن مع مآسي مشابهة.
بالنسبة لأستاذ علم النفس الاجتماعي عبد الرحيم عمران فإن الرحيل المفاجئ لعبد الله باها وأحمد الزايدي شكل صدمة للمغاربة بالنظر لمكانة هؤلاء المتميزة ومنهجيتهما في مقاربة العمل السياسي وطريقة وفاتهما التراجيدية. وبخصوص انتشار التأويلات والإشاعات والأقاويل المشككة في حقيقة الرواية الرسمية حول ظروف وملابسات وفاة القياديين، أكد عمران أن العوامل التي تساهم في بناء سيكولوجية الثقة تغيب عن المجتمع المغربي، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام انتشار التأويلات. كما أوضح بأنه علينا ألا ننسى أن المجتمع المغربي تسود به ثقافة تشكيكية سياسيا، في إشارة لتاريخنا السياسي الذي ليس بريئا، بل هو مليء بحوادث الاغتيال، كما حدث مع المهدي بنبركة وعمر بنجلون. فالثقافة المجتمعية والتمثلات والوجدان المجتمعي، ونظرا للظروف التي عشناها مع ما وقع خلال سنوات الرصاص وغير ذلك، جعلت منطق الشك هو السائد.
في هذا الملف تعود «المساء» لحالات الموت التراجيدي لسياسيين وشخصيات مغربية، من مسؤولين وعسكريين إلى شخصيات فكرية طبعت بمسارها الفكري تاريخ المغرب الحديث، وتلقي الضوء على بعض التفاصيل التي جعلت من موتهم موتا تراجيديا بامتياز.
مشاهير مغاربة رحــــلوا بصورة صادمة
غيبهم الموت في أوج اقوتهمب وحكايا رحـــــــــيلهم تناقلتها الألسن ونسجت حولها الروايات
إبراهيم الروداني.. رصاص مجهول يرديه قتيلا أمام المارة
إبراهيم الروداني الذي يحمل اسمه اليوم أحد أكبر شوارع العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء، كان أيضا ممن ظل موتهم التراجيدي عالقا بين تفاصيل روايات مختلفة، المشترك بينها أن إبراهيم أردته رصاصات غادرة أمام المارة وفي شارع بالبيضاء، المدينة التي سكنته واتخذها مستقرا إلى حين رحيله عن الدنيا.
يتحدر إبراهيم الروداني من نواحي مدينة تارودانت قبل أن يرحل في شبابه إلى الدار البيضاء، في العاصمة الاقتصادية للمملكة امتهن العديد من الحرف منها بيع الكتب وميكانيكي وبائع «الخردة»، قبل أن يصبح صاحب معمل لبيع ماء جافيل، وينتقل فيما بعد إلى فتح متجر لبيع اللحوم في الحي الأوربي قرب ساحة «بوندونغ» بشارع محمد الخامس حاليا، حيث أصبحت له علاقات متميزة مع العديد من الأوربيين والمغاربة من أبناء المدينة.
وكغيره من السياسيين الذين طالتهم يد الموت بشكل تراجيدي، التحق الروداني بالحركة الوطنية في وقت مبكر، وكان منزله في الحي الذي كان يسمى درب اليهودي، ملتقى لاجتماعات سياسية تنظيمية متواصلة، كان يحضرها ممن سيصبحون رموز ورجالات الدولة في مغرب ما بعد الاستقلال.
كما أصبح عضوا نشيطا في صفوف حزب الاستقلال، وبالموازاة مع ذلك ربط علاقة وثيقة مع صديقه في العمل المسلح الشهيد محمد الزرقطوني، تركزت العلاقة على التخطيط في إطار العمل السري، وكان الاثنان من المخططين والمنفذين للعديد من العمليات التي استهدفت القوات المستعمرة، في الدار البيضاء على وجه الخصوص وكبدت هذه القوات خسائر فادحة.
ذاق الروداني طعم الاعتقال في سجون المستعمر الفرنسي الذي كان يرى في المناضلين الشباب أكبر تهديد لوجوده، فقد اعتقل بعد موجة الاستنكار التي عمت مدن ومناطق المغرب، بعد أن تجرأت السلطات الاستعمارية على نفي الأسرة الملكية في غشت عام 1953.
ويعد إبراهيم الروداني من مؤسسي الاتحاد المغربي للشغل، في مارس 1955، إلى جانب المحجوب بن الصديق، والطيب بن بوعزة، غير أن الموت لم يمهله طويلا، فكان «ضحية مجهوده لتوحيد صفوف المقاومة» كما وصفه القيادي أيت يدر.
تربص الموت بإبراهيم الروداني بشكل تراجيدي في أحد أحياء الدار البيضاء، حيث أقدم مسلحون على تصفيته جسديا بالرصاص الحي، وفي تفاصيل الموت أن المهاجمين انتظروه حتى خرج إلى الشارع الذي كان يمر منه، وبعد أن ظهر أطلقوا عليه النار ولفظ أنفاسه الأخيرة جراء الرصاص الذي اخترق جسده، كما مات شقيقه أيضا متأثرا بجراحه، وطال رصاص المهاجمين بعض المارة أيضا، إذ تكشف الروايات التي أرخت للهجوم أن الرصاص أصاب أحد المارة وأرداه قتيلا، وفي رد فعل سريع على الهجوم المسلح، رد مرافقوه على المسلحين، ونجحوا في قتل أحد المهاجمين بينما تم القبض على الثاني وفر الثالث من مكان الجريمة، قبل أن يعثر عليه أصدقاء الروداني ويردونه قتيلا بسلاح إبراهيم الروداني نفسه.
الدليمي.. نهاية مأساوية للجنرال القوي
ترسم الرواية الرسمية لموت الدليمي صورة تراجيدية لموت الجنرال القوي آنذاك في المغرب تحت عجلات شاحنة مجهولة كانت تسير بسرعة جنونية، ولم يوقفها موت الجنرال عن الاستمرار في سرعتها، أحمد الدليمي الجنرال الذي كان قائدا ميدانيا في صفوف القوات المسلحة الملكية المغربية المتمركزة في الصحراء لا يخرج موته عن قاعدة الموت التراجيدي للسياسيين والزعماء حسب الرواية الرسمية التي أذاعها البيان الرسمي الذي بثته التلفزة المغربية في سنة 1981. بالرغم من تعدد الروايات القائلة بأنه قتل بعد أن حاول القيام بانقلاب ضد الملك الحسن الثاني، أو أنه قد قـتل لتنامي قوته ونفوذه بدرجة تهدد العرش.
ولد الجنرال الدليمي سنة 1931 في مدينة سيدي قاسم، وسرعان ما أصبح أحد أقوى رجلين بالمغرب مع إدريس البصري وزير الداخلية، وذلك مباشرة بعد إعدام قائده المباشر محمد أوفقير الذي فشل في محاولة انقلابه على الملك الراحل الحسن الثاني في سنة 1972.
توفي الجنرال أحمد الدليمي جراء حادثة سير في مساء 22 من شهر يناير من سنة 1983، وحسب البلاغ الرسمي الذي قدمته التلفزة المغربية فإن شاحنة ذات حاوية دهست بكل قوة سيارة الجنرال في طريق يعبر حديقة مراكش، في الوقت الذي كان فيه الجنرال عائدا من القصر الملكي نحو منزله، وفي التفاصيل أن الجنرال دهس تحت عجلات الشاحنة، كما لم يسلم سائق الجنرال الذي سقط محروقا لتوه، في الوقت الذي لاذ فيه سائق الشاحنة بالفرار.
يومها استنفرت قوات الأمن والقوات المساعدة والدرك الملكي ورجال المطافئ بعد وقوع الحادثة، لتنظيف المكان وطمس كل معالم الحادثة، استمر ذلك طوال ليلة وقوع الحادثة وجزء من اليوم الموالي.
في يوم 25 من الشهر نفسه حضر الملك الراحل الحسن الثاني إلى فيلا الجنرال أحمد الدليمي بالرباط لتقديم العزاء لعائلته، لكن رغم الرواية الرسمية فقد بدأ المغاربة حينها يتداولون في السر أن الأمر يتعلق باغتيال مدبر ومخطط له وليس بحادثة سير عادية كما تم الترويج لها.
وسرعان ما نشرت صحيفة « لوموند» الفرنسية تفاصيل أخرى تشير إلى أن الدليمي تعرض لاغتيال، وأوردت أن شهودا سمعوا انفجارا فأسرعوا إلى عين المكان لاستطلاع سبب الانفجار، حينها رأوا سيارة الجنرال محروقة، بينما كانت شاحنة تهرب من مكان الحادث بسرعة جنونية وأضواؤها منطفئة، وهو ما أدى إلى صعوبة رؤيتها من طرف سائق الجنرال، وحسب رواية الصحيفة فإن الجنرال لما شعر بالخطر، قفز من سيارته حتى لا تدهسه الشاحنة.
باها.. رحيل صادم لـاالحكيم
وزير الدولة والقيادي البارز داخل حزب العدالة والتنمية، عبد الله باها، يلقى حتفه في حادث قطار بالقرب من بوزنيقة، بينما كان بصدد تفقد المكان الذي غرقت به سيارة الاتحادي أحمد الزايدي قبل بضعة أسابيع. هذا الخبر الذي تحول إلى حدث بعد مرور بضع ساعات على اكتشاف هوية الشخص الذي دهسه القطار، أصاب الرأي العام بحالة من دهشة دفعت البعض إلى التشكيك في حقيقة الرواية الرسمية حول ظروف وملابسات الوفاة. فلأسباب مجهولة، قام الوزير بالمجيء لوحده، وترجل من سيارته وراح يقترب مشيا على الأقدام من المكان الذي قضى به الزايدي نحبه، الذي توفي تحت ممر سفلي يخترق السكة الحديدية بعدما غمرت المياه سيارته رباعية الدفع.
وفي اللحظة التي كان خلالها من يوصف بعلبة أسرار بنكيران، بصدد عبور السكة الحديدية مشيا على الأقدام باغته القطار الرابط بين البيضاء والرباط، ولم يترك أمامه فرصة للنجاة بعدما انشطر جسده إلى نصفين تحت عجلات القطار الحديدية. فارق الوزير الحياة على الفور، ولم تتعرف عناصر الدرك الذين حلوا بالمكان على هوية صاحب الجثة إلا في لحظة عثورهم على بطاقة التعريف الوطنية ليتخذ الحادث أبعادا جديدة، ما تطلب إخضاع سائق القطار للتحقيق الأمني.
وحتى حدود كتابة هذه السطور لم يستطع أي أحد إعطاء أي تفسيرات أو حجج قوية حول دواعي تواجد باها، لوحده وبعدما بدأ الليل يسدل أستاره في هذا المكان بالذات. جميع الأوساط والأشخاص المقربين من القيادي داخل الحزب الحاكم يشهدون بأن الرجل جمع بين الكفاءة والحكمة، وهو ما ظهر منذ التحاقه بمعهد الحسن الثاني للبيطرة والزراعة بالرباط في السبعينيات قادما إليه من سوس.
باها، الذي تصفه الصحافة المغربية بالعلبة السوداء لرئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، رأى النور في وسط أسرة سوسية سنة 1954 بمنطقة جماعة إفران الأطلس الصغير بإقليم كلميم، حصل على شهادة الباكالوريا سنة 1975 بثانوية يوسف بن تاشفين بأكادير، وأكمل تكوينه العالي بمعهد الزراعة والبيطرة، ليتوج مشواره التعليمي بالحصول على دبلوم مهندس تطبيق في الهندسة الغذائية في العام 1979.
قبل ذلك كان باها، في مراهقته، شديد الاهتمام بحركة جماعة الدعوة والتبليغ، التي سيصبح أحد أتباعها من دون أن تكون له أية نوايا بالانخراط في العمل السياسي، علما بأن الحياة السياسية بالمغرب كانت على صفيح ساخن في فترة السبعينيات، بسبب التجاذبات بين القصر والتنظيمات اليسارية والإسلامية. رويدا رويدا سيجد باها السند في نشطاء الشبيبة الإسلامية، الذين كانوا يتلقون بصدر رحب كل هموم الشاب السوسي، وهو ما سهل على نشطاء الشبيبة عملية استقطابه وضمه في صفوفهم. شكل هؤلاء النشطاء النواة الأولى لبروز عدد من القادة السياسيين البارزين، كان من بينهم سعد الدين العثماني، ومحمد يتيم، وعبد الإله بنكيران، الذي ستربطه بعبد الله باها صداقة عميقة انطلاقا من هذه الحقبة.
هذه الصداقة ستظل قوية حتى آخر يوم في حياة عبد الله باها الذي ظل رفيق درب بنكيران لأكثر من ثلاثين سنة، كان له خلالها الناصح والأمين على أسراره، حيث كان بنكيران يستشيره في كل كبيرة وكل صغيرة، لدرجة جعلت العارفين بكواليس التنظيمات الإسلامية يؤكدون في العديد من المناسبات بأن بنكيران لا يقدم على اتخاذ أي قرار قبل استشارته.
قبل ذلك، وفي أواخر 1975 سيتم اتهام حركة الشبيبة الإسلامية بالضلوع في تنفيذ عملية اغتيال عمر بنجلون، ليتم اعتقال عدد من أبرز رموزها، في الوقت الذي نجح فيه البعض الآخر في الفرار إلى الخارج، كمؤسس الحركة عبد الكريم مطيع الذي نجح في الوصول إلى المملكة العربية السعودية، وهو ما سيؤدي إلى ترك فراغ بالنسبة للمنتسبين للحركة. أمام هذا الوضع، تم اتخاذ القرار بداية الثمانينيات بتأسيس إطار سياسي جديد هو «الجماعة الإسلامية»، سيترأسه في البداية محمد يتيم، وبعده عبد الإله بنكيران، وسيكون عبد الله باها أحد الوجوه البارزة داخل هذه الحركة.
بعد الجماعة الإسلامية سيشارك باها في العديد من المحطات السياسية التي طبعت المشهد السياسي المغربي، إذ تدرج في تقلد عدة مسؤوليات داخل حركة الإصلاح والتجديد، ثم حركة التوحيد والإصلاح، قبل الانضمام إلى حزب عبد الكريم الخطيب في نهاية التسعينيات، الذي سيولد من رحمه فيما بعد حزب العدالة والتنمية. دخول باها إلى قبة البرلمان جاء متأخرا مقارنة مع عدد من القياديين بالعدالة والتنمية، ففي العام 2002 سيفوز بمقعد انتخابي عن دائرة الرباط شالة، وسيتم انتخابه بسهولة في منصب رئيس لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب، ورئيسا لفريق العدالة والتنمية من 2003 حتى 2006، ثم نائبا لرئيس مجلس النواب من 2007 إلى حدود 2008.
هذا المشوار السياسي الطويل حاز بفضله عبد الله بها من طرف المقربين منه في الحزب عدة ألقاب، تراوحت بين «الحكيم»، و«رجل الظل»، و«المهادن»، و«رجل التوافق والحوار»، و«رجل التوازنات» داخل الحزب، و«علبة أسرار» بنكيران.
كما أن الرحيل المفاجئ والصادم لوزير الدولة في حكومة بنكيران جعل هذه المكانة تتقوى سواء داخل الحزب أو بين صفوف المناضلين ولدى باقي الفاعلين السياسيين وبصفة عامة لدى كل المغاربة.
الزايدي.. رحيل مفاجئ للقيادي الاتحادي
قبل أسابيع على رحيل عبد الله باها المباغت، تفاجأ الرأي العام بخبر موت البرلماني الاتحادي أحمد الزايدي داخل سيارته رباعية الدفع، بعدما غمرتها المياه أثناء محاولته المرور من ممر يقع تحت السكة الحديدية. وقبل رحيله المفاجئ كان الزايدي يعد خصما قويا لإدريس لشكر، الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي، منذ المؤتمر الوطني الأخير للحزب، حيث أسس الزايدي جبهة ممانعة لهيمنة لشكر على المكتب السياسي للحزب، واستقل بمجموعة نيابية عن الفريق الاشتراكي بمجلس النواب.
القيادي الاتحادي الراحل ازداد ببوزنيقة سنة 1953، وكان والده فلاحا. بعد سنوات من الدراسة الابتدائية ببوزنيقة تابع دراسته في ثانوية مولاي يوسف بالرباط، ثم جامعة محمد الخامس، وكلية الحقوق بالجزائر العاصمة، وبعدها كلية الحقوق بالرباط. وبعد تجربة قصيرة بسلك المحاماة، اختار الزايدي ممارسة مهنة المتاعب، حيث اشتغل بالإذاعة والتلفزة المغربية ابتداء من سنة 1974. بعدها سيحصل على تفرغ من أجل الحصول على تكوين في الصحافة بالمركز الفرنسي لتكوين واستكمال تكوين الصحفيين بباريس، ليعود مجددا لمتابعة المشوار، ليحلق عاليا بمكاسب مهنية أهلته لتسيير قسم الأخبار، إذ احتكر الشاشة الصغيرة المغربية في ساعة ذروة المشاهدة لمدة حوالي 20 سنة كرئيس تحرير مركزي ومقدم للنشرة الإخبارية الرئيسية في التلفزيون العمومي. هذه المكانة والتميز في ممارسة العمل الصحفي دفعت أحمد الزايدي إلى تأسيس نادي الصحافة بالمغرب.
وعلى المستوى السياسي بدأ القيادي الراحل مساره من بوابة الكتابة الإقليمية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالرباط، وخاض غمار الانتخابات الجماعية لسنة 1976 كأصغر مرشح باسم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في جماعة بوزنيقة آنذاك. كما شغل منصب رئيس الجماعة القروية لسيدي خديم، التي ستحمل فيما بعد اسم جماعة الشراط، وبعدها نائبا برلمانيا عن بوزنيقة، فنائبا عن إقليم بنسليمان.
ودخل الزايدي قبة البرلمان منذ العام 1993، وتولى من أكتوبر 2007 إلى منتصف السنة الحالية مسؤولية رئاسة الفريق الاشتراكي بمجلس النواب.
الزرقطوني.. حكاية موت رمز المقاومة المغربية
ارتبط اسم محمد الزرقطوني بتاريخ مقاومة الاستعمار في المغرب التي تشبع بها منذ صغره، ولعل حضوره الكبير في كل الكتابات التاريخية التي تناولت الشرارات الأولى للمقاومة جعلته في كل المقدمات وفي كل التفاصيل، مما انعكس على حضور اسمه في الكثير من الشوارع في مدن مختلفة من مدن المملكة، غير أن لموته التراجيدي حضور كبير في كل الشهادات التي تناولت حياته.
يشهد الكثير من المقربين للراحل أنه أتقن فن التنكر، ونجح في جمع كل المقاومين في جلسات سريةـ ليتحول إلى فدائي في صفوف المقاومة المسلحة المغربية.
تتحدر عائلته من بن زرقطوني بضواحي مدينة الصويرة، لكنه ولد سنة 1927 بأحد أحياء المدينة القديمة بالبيضاء، حيث تلقى تعليمه الابتدائي بالكتاب القرآني بحي «السوينية» وكان يتعلم ترتيل القرآن وحفظه قبل أن ينتقل إلى مدرسة الزاوية وعمره 7 سنوات، وحين قدمت وثيقة المطالبة بالاستقلال سنة 1944، كان عمره يومها 17 سنة.
شكلت المدرسة النواة الأولى لبداية احتكاكه مع العمل الوطني وتفتح وعيه السياسي، ولم يكن يتردد في إعلان امتعاضه من العنصرية الفرنسية التي لم يكن يسلم منها المغاربة.
في سن 18 أصبح محمد الزرقطوني عضوا فاعلا في الكشفية الحسنية التابعة لحزب الاستقلال، وكان وعيه الوطني ناضجا وفي سنة 1948، سيؤسس محمد الزرقطوني فرقة «مولودية بوطويل» بالمدينة القديمة، في إطار خطة وطنية لإنشاء فرق الأحياء.
في سنة 1948 ترسخت قناعة العمل المسلح لدى الشاب محمد الزرقطوني رفقة مجموعة من أصدقائه وزملائه من الوطنيين بالمدينة القديمة، حيث بدؤوا في تأسيس خلية مقاومة مسلحة، وتمكنوا من الحصول على عدد من المسدسات، كما باشروا تدريبهم في غابة وادي «النفيفخ» بضواحي المحمدية.
وبعد عدة تطورات جاءت المرحلة الثالثة والأخيرة، وهي مرحلة توجيه الضربات لمصالح السلطة الفرنسية في محاولة لتكبيدها خسائر كبيرة، وهي المرحلة التي انطلقت بعد 20 غشت 1953، وكان أول عمل قام به هو ورفاقه المجاهدون نسف القطار الرابط بين الجزائر والدار البيضاء.
يعود سبب موته التراجيدي إلى اختياره للموت بتلك الطريقة حتى لا يمكن المستعمر الفرنسي منه ومن رفاقه. واقتنع الزرقطوني أن قدرة الإنسان محدودة في تحمل التعذيب في حال سقوطه في قبضة سلطات المستعمر، لذلك قرر هو وزملاؤه أن يحملوا معهم «حبات سم» يتناولونها في حالة القبض على أي منهم، وذلك حفاظا على تنظيمهم السري، وهذا ما فعله عندما قبضت عليه سلطات الاستعمار الفرنسية، ليسلم الروح في مخفر الشرطة.
المؤدن.. موت على قارعة الطريق
تجتمع في وفاة عبد السلام المؤذن كل عناصر الغرابة بسبب الطريقة التي غادر بها الحياة، بعد أن تم نقله في اتجاه المستشفى للعلاج، ليلقى حتفه في حادثة سير مروعة ببوقنادل في سنة 1992.
عبد السلام المؤذن هو زعيم من زعماء اليسار المغربي، كان يعد من الوجوه البارزة في منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، التي اندمجت في الحزب الاشتراكي الموحد. وسبق أن كان معتقلا سابقا عن حركة 23 مارس، ويجمع أصدقاؤه وبعض ممن تعرفوا عليه عن قرب أنه حول زنزانته في السجن المركزي بالقنيطرة، إلى مكان للكتابة والإبداع ولعل أبلغ ما عبر به عن فترة سجنه هي مقالة كتبها بعنوان «الزنزانة 28» استحضر فيها 15 سنة على اعتقاله، يشهد فيها « أن أخطر ما اكتشفه الإنسان هو السجن كأداة ووسيلة لتدمير قيمة الإنسان». وفي تفاصيل وفاته التراجيدية أنه كان على متن سيارة إسعاف باتجاه المستشفى بعد مضاعفات صحية،
لكن سائق سيارة الإسعاف التي كانت تقله قرر التوقف في مدخل مدينة سلا لشرب كأس من القهوة، بالرغم من أنه يحمل شخصا مريضا، توقف سيارة الإسعاف أثار فضول عبد السلام المؤدن، فما كان منه إلا أن نزل من سيارة الإسعاف ليستطلع بنفسه السبب وراء توقفها تلك المدة الطويلة دون تقديم تفسيرات من طرف سائقها.
لكن الموت كان يتربص به مباشرة خارج سيارة الإسعاف، فما إن نزل بالقرب من السيارة، حتى صدمته سيارة كانت قادمة بالقرب منه وأردته قتيلا. نزل الموت التراجيدي للزعيم اليساري كالصاعقة على رفاقه الذين شككوا في الرواية الرسمية للحادث، كما جعلت جريدة المنظمة التي كان ينتمي إليها منه شهيدا طوال فترة صدورها.
الشاوي.. نهاية تراجيدية لأول طيارة مغربية
تعد ثريا الشاوي من أكثر النساء المغربيات اللواتي طبعن تاريخ المغرب المعاصر، فهي امرأة عنوان لقصة نجاح المرأة المغربية وقدرتها على تحقيق النجاح في جميع المجالات، وبقدر ما كان نجاحها باهرا وتجاوز صداه الحدود بقدر ما كان موتها تراجيديا ومأساويا، بعد أن أنهت حياتها رصاصات غادرة تلقتها من الخلف وهي تهم بالدخول إلى بيت والداتها في الأول من شهر مارس من سنة 1956.
وكان الموت قد أخطأها مرات قبل ذلك، قبل أن تنجح مجموعة أحمد الطويل في إنهاء حياتها بشكل مأساوي أمام بيتها، حيث كانت مستهدفة بسبب وطنيتها وبسبب نجاحها في تكسير عقدة السلطات الاستعمارية.
ففي أوائل نونبر 1954، استهدفها فرنسيون، إذ قاموا بوضع قنبلة بباب الفيلا التي كانت تسكنها، لكن القنبلة انفجرت ولم يصب أي أحد ونجت ثريا من استهداف فرنسي لها، وتكررت المحاولة مرة أخرى في شهر دجنبر، حيث انهال عليها الرصاص وهي رفقة والدها من رشاش أوتوماتيكي، إذ كانت في طريقها إلى المنزل الذي تقطنه رفقة والديها، لكنها لم تتم إصابتها، وتكرر الأمر مرة أخرى في غشت 1955، وفي التفاصيل أن شرطيين فرنسيين توجها نحوها وهي بداخل سيارتها رفقة والدتها وأطلقا عليها النار، لكن سرعان ما لفت المهاجمون انتباه الناس الذين احتشدوا قرب السيارة فهربوا. ولم يكتفي الراغبون في إنهاء حياتها بذلك بل كرروا محاولتهم مرة أخرى في شهر «شتنبر» من سنة 1955، وحسب تفاصيل الحادث كانت في سيارتها عندما اقترب منها شرطيان وأمراها بالوقوف، قبل أن يطلبا منها نقلهما إلى مكان كانا يرغبان في الذهاب إليه، لكنها رفضت طلبهما مما جعلهما يهددانها، لكن سرعان ما اجتمع المارة، وهو ما دفع الشرطيين إلى العدول عن فكرة مهاجمتها، قبل أن يبادرا إلى اتهامها بمخالفة مرورية، وتبين فيما بعد أن الشرطيين مزيفين وأنهما استعانا بزي الشرطة من أجل اغتيالها.
لكن في الأول من مارس من سنة 1956، لم يخطئها الموت ونجحت مجموعة أحمد الطويل التي كانت تابعة للبوليس السري في إنهاء حياتها بشكل مأساوي على بعد خطوات من باب منزلها، حيث استهدفها المهاجمون برصاصات استقرت في رأسها مباشرة وأسقطتها جثة هامدة كما أورد ذلك الكاتب عبد الحق المريني.
السملالي.. نزيف حاد في المخ أنهى حياته
لم يسلم عبد اللطيف السملالي أمين عام حزب الاتحاد الدستوري بدوره من لعنة الموت بشكل تراجيدي الذي تربص بعدد من السياسيين المغاربة. وفي رواية موته الرسمية أن عبد اللطيف السملالي وهو في عقده السابع تعرض لنزيف حاد في المخ، بعد أن ظل يعاني منذ سنوات من مرض السكري، وتوفي السملالي في الدار البيضاء حيث أعلن الأطباء أن زعيم الاتحاد الدستوري توفي سريريا.
تولى عبد اللطيف السملالي منصب وزير الشبيبة والرياضة خلال الثمانينيات، ويعد أحد قدماء حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي انسحب منه في الستينيات مع الراحل «المعطي بوعبيد» لتأسيس حزب الاتحاد الدستوري سنة 1983.
وتولى السملالي قيادة الاتحاد الدستوري إثر وفاة زعيمه الراحل المعطي بوعبيد سنة 1996، وكان في بداية الثمانينيات وزيرا للشباب والرياضة، حيث اشتهر بشغفه بالرياضة، وسبق له أن ترأس
مكتب الرجاء البيضاوي لكرة القدم سنوات عدة، كما استضاف المغرب في عهده دورة الألعاب المتوسطية في الدار البيضاء.
ويعتبر السملالي من الأعضاء المؤسسين للاتحاد العربي لكرة القدم الذي شغل فيه منصب النائب الأول للرئيس منذ1974 إلى تاريخ وفاته، فضلا عن تقلده منصب النائب الأول لرئيس الاتحاد العربي للألعاب الرياضية.
يتحدر من أسرة متواضعة من مدينة أزمور، وكان المعطي بوعبيد قد أقنع الملك الراحل الحسن الثاني بأن عبد اللطيف السملالي رجل مناسب للسهر على المجال الرياضي في المغرب، وذلك في أعقاب الهزيمة القاسية التي تلقاها المنتخب المغربي ضد نظيره الجزائري في بداية الثمانينيات.
وحصل المغرب خلال الفترة التي أشرف فيها على الشأن الرياضي المغربي للمرة الأولى على ميداليتين ذهبيتين في الألعاب الأولمبية في صيف 1984، من طرف العداءة نوال المتوكل، والعداء العالمي سعيد عويطة.
كما شهدت فترة إشرافه على الرياضة في المغرب تشييد العديد من المنشآت الرياضية في مدن مختلفة، لعل أبرزها يبقى المركب الرياضي الأمير مولاي عبد الله.
علال الفاسي.. ذهب إلى رومانيا وعاد في صندوق الموتى
لم يتخيل أحد يوما أن تنتهي حياة الزعيم الاستقلالي «علال الفاسي» بتلك الطريقة التراجيدية، التي مازالت عالقة إلى اليوم كلما ذكر «سيدي علال»، فالرجل الذي شغل القاصي والداني وأرق سلطات الاستعمار الفرنسي، انتهى بأزمة قلبية في مكتب ديكتاتور من أوربا الشرقية.
بعد أن نال المغرب استقلاله، عاد علال الفاسي إلى المغرب بعد أن غاب عنه لعشر سنوات قضاها في العاصمة المصرية القاهرة، ليعاود نشاطه من جديد، حيث تولى رئاسة حزب الاستقلال، واختير عضوا رئيسيا في مجلس الدستور لوضع دستور البلاد، ثم انتخب رئيسا له، وقدم مشروع القانون الأساسي، وشارك في وضع الأسس الأولى لدستور سنة 1962م.
بعد وفاة الملك محمد الخامس تولى علال الفاسي وزارة الدولة للشؤون الإسلامية قبل أن يستقيل منها بعد ذلك، لينضم بحزبه إلى صفوف المعارضة، ويرجع له الفضل كما يقال في إنشاء مشروع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية.
في يوم الاثنين من شهر ماي سنة 1947 باغته الموت وهو في ضيافة رئيس رومانيا، حيث كان في زيارة للعاصمة الرومانية بوخارست، إذ كان على رأس وفد حزب الاستقلال الذي ذهب إلى رومانيا في إطار الدبلوماسية الموازية، حيث التقى الرئيس الروماني، لشرح قضية المغرب وصحرائه، ونضال الشعب الفلسطيني في سبيل نيل حريته وأرضه.
كان على موعد مع رئيس رومانيا «تشاوشيسكو» لإقناعه بعدالة قضية المغرب، بعد أن سبق أن زار الكويت ودولا عربية أخرى في طريقه إلى رومانيا، دون أن يدري أن الموت كان يتربص به داخل قصر تشاوشيسكو.
توفي علال الفاسي بأزمة قلبية باغتته وهو في مكتب الزعيم الروماني الذي كان يساند البوليساريو، وكان علال الفاسي يرغب في إجلاء الغشاوة عن عيون الديكتاتور الروماني، غير أن الموت كان له رأي آخر وشاء أن تنتهي حياة الزعيم الاستقلالي بعيدا عن تراب الوطن.
علي يعتة.. سيارة مجنونة أنهت حياته على باب مقر جريدته
علي يعتة زعيم سياسي آخر صدم ذات يوم المغاربة بموته بشكل مفاجئ، وترك الكثيرين يطرحون السؤال تلو السؤال في محاولة لفهم موت من لقبوه ذات يوم بالحاج الشيوعي.
لم يكن «علي يعتة» يتردد في أن ينهي تدخله في البرلمان المغربي بالآية الكريمة «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم» رغم تشبعه بالفكر الشيوعي، وهو ما ميزه من بين أكثر الشخصيات السياسية، غير أن تفاصيل موته طغت فيما بعد على كل ذلك، وأصبحت عالقة في أذهان مقربيه وخصومه على السواء. وفي الرواية التي انتشرت بعد وفاته، أن الزعيم الشيوعي كان على موعد مع الموت بطريقة تراجيدية قرب جريدة الحزب التي كان يعتبرها منبرا لإيصال رسالة الحزب النضالية، فقد اختطفه الموت ذات صيف بعد أن كان ضحية حادثة سير مؤلمة أمام مقر جريدته سنة 1997، وتزامن ذلك مع الحركة الانشقاقية التي قادها بعض أعضاء الديوان السياسي في حزب التقدم والاشتراكية.
في صبيحة ذلك اليوم ترجل «علي يعتة» من سيارته، متوجها إلى مقر الجريدة في الجهة المقابلة من الشارع، لكن سيارة قادمة من الاتجاه الآخر باغتته وصدمته بقوة بسبب سرعتها لترديه قتيلا.
علي يعتة ولد في طنجة من أب جزائري هو « سعيد يعتة» يتحدر من منطقة القبايل الجزائرية، درس والده في الأزهر وغادر الجزائر بعد خضوعها للاستعمار الفرنسي، وتزوج من مغربية ريفية هي فاطمة بن عمار، واستقر في طنجة سنة 1911 قبل أن تصبح محمية إسبانية – فرنسية ليصبح فيما بعد مترجما بالمجلس الدولي للتبغ.
ولأن الحادثة تزامنت مع الاستحقاقات الانتخابية فقد خلق موت الزعيم الشيوعي صدمة كبيرة في وسط المشهد السياسي المغربي، بل هناك من أثار شكوكا حول وفاته، على اعتبار أن السيارة التي دهست الراحل، الذي لم يكن قد وضع رجليه بعد في الشارع حيث يركن سيارته، امتدت إليه وهو على الرصيف المقابل لمقر جريدة الحزب.
تزامنت الوفاة التراجيدية لعلي يعتة مع الاستعداد الذي عرفه المغرب لحكومة التناوب في أول تجربة بالمغرب، تزامن جعل الكثير من الأسئلة، تماما كما وقع مع غيره من السياسيين، تطرح في العديد من المواقع، بين واصف للموت بالقضاء والقدر، وبين لاجئ لنظرية المؤامرة.
ويقول أحد المشككين في الرواية الرسمية التي انتشرت ساعات بعد وفاته «إنه عندما توفي علي يعتة كان المغرب يستعد يومها لتجربة «التناوب الحكومي» التي قادها الزعيم الاتحادي عبد الرحمان اليوسفي، غير أن الموت التراجيدي لم يمهل «الحاج الشيوعي كما كان يلقب حتى يشارك في الحكومة التي ترأسها عبد الرحمان اليوسفي ودعمتها أحزاب الكتلة».
عزيز بلال.. شيوعي التهمته النيران بـاشيكاغو الأمريكية
عزيز بلال شيوعي آخر قضى بشكل تراجيدي بعيدا عن أرض الوطن، ولم يتخيل أقرباؤه أن الرجل الذي اشتغل طويلا بشكل سري ستنهي حياته النيران بأحد فنادق أمريكا بشكل علني، وكان موته موتا تراجيديا مازال يشغل إلى اليوم العشرات من رفاقه ومقربيه، وتراودهم العشرات من الأسئلة التي مازالت تبحث لها عن أجوبة في الكلمات القليلة التي حملتها قصاصة إخبارية صغيرة تعلن عن وفاته.
ولد عبد العزيز بلال أو عزيز كما كان مقربوه ورفاقه ينادونه، بمدينة تازة بتاريخ 23 ماي سنة 1932 وسط عائلة متواضعة، وبعد أن حصل على شهادة الباكالوريا التحق بالرباط ليتابع دراسته ويحضر إجازته في العلوم الاقتصادية ابتداء من سنة 1951 إلى 1953، وبعدها التحق بتولوز الفرنسية حيث حصل على دبلوم الدراسات العليا.
انضم في التاسعة من عمره إلى الحزب الشيوعي المغربي الذي كان يشتغل وقتها بشكل سري، قبل أن يتحول إلى حزب التحرر والاشتراكية ثم إلى حزب التقدم والاشتراكية، ليصبح أحد أبرز قيادييه كعضو بديوانه السياسي ويقوده نضاله بالحزب إلى تولي الشأن العام بالعاصمة الاقتصادية للمملكة.
كما شغل منصب الكاتب العام لوزارة التشغيل في حكومة عبد الله إبراهيم التي تعرف بحكومة الائتلاف الوطني، درس الاقتصاد في كلية الحقوق بالرباط وعمل على إنشاء القسم الخاص باللغة العربية وكذا تأسيس النقابة الوطنية للتعليم العالي.
عزيز بلال الذي التهمت النيران جسده في أمريكا، لم يكن في الولايات المتحدة الأمريكية من أجل عطلة شخصية أو رحلة علاج، فقد كان في مهمة رسمية بصفته في موقع المسؤولية في مدينة الدار البيضاء.
بلال توجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية للمشاركة في احتفالات التوأمة بين شيكاغو والدار البيضاء كنائب رئيس لبلدية «عين الذياب»، قبل أن يتوفي في حريق شب بفندق «كونراد هيلتون» بشيكاغو في 23 من شهر مارس من سنة 1982.
لا يعرف عن تفاصيل موته التراجيدي الشيء الكثير اللهم بعض الشذرات التي يرويها بعض المقربين منه، وبعض من رفاقه في رحلته الأخيرة تلك إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
عمر بنجلون.. اغتيال النقابي المزعج
يبقى حادث اغتيال اليساري عمر بنجلون أحد أكثر المواضيع إثارة للجدل داخل المغرب، فبعد مرور قرابة 39سنة على حادث تصفية الزعيم اليساري مازالت قضية المناضل اليساري تثير الكثير من الحزازات بسبب تورط عناصر من الشبيبة الإسلامية في تنفيذ عملية تصفيته.
وإذا كان حادث اغتيال عمر بنجلون قد وافق السنة التي انتخب فيها عضوا في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، فإنه قد سبق له قبل ذلك تقلد مسؤوليات عدة كترأسه بفرنسا أثناء متابعته لدراسته الجامعية لجمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا بين 1959 و1960، واشتغاله كمحامي ونقابي.
ابن قرية بركم الواقعة نواحي جرادة بدأ مشواره بتلقيه التعليم حتى المستوى الثانوي بمسقط رأسه، قبل أن ينتقل إلى وجدة، حيث سيبدأ أولى خطوات العمل النضالي من خلال الالتحاق بالتنظيمات الحزبية للشبيبة المدرسية بالمدينة نفسها، ليشارك في أكتوبر 1955 في وقفة مع عدد من الطلبة احتجاجا على بعض التصرفات التي كانت تبذر عن المدرسين الفرنسيين.
بعد حصوله على شهادة الباكالوريا التحق بكلية الحقوق بالرباط، لينتقل بعدها سنة 1957 إلى باريس، حيث سيلتحق بالمدرسة العليا للبريد والمواصلات، بموازاة دراسته بكلية الحقوق في السنة الثالثة.
مع عودته إلى المغرب شهر يونيو من العام 1960، سيتقلد منصبا كبيرا داخل المديرية الجهوية للبريد بالدارالبيضاء، ما سيفتح أمامه المجال للالتحاق بالعمل النقابي من بابه الواسع، حيث سيصبح حضوره فاعلا داخل جامعة البريد المنضوية تحت لواء الاتحاد المغربي للشغل. إلا أن الدور الكبير الذي لعبه عمر بنجلون داخل جامعة البريد وحضوره الوازن داخلها سيجعله يصطدم مع قيادة الاتحاد المغربي للشغل، وهو ما سيؤدي كذلك إلى اختطافه.
واصل نشاطه النقابي داخل جامعة البريد بعد انتقاله في العام 1962 إلى العمل بالمديرية الجهوية للبريد بالرباط، وأصبح ناشطا كذلك داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. كما عاد خلال السنة نفسها إلى باريس لاجتياز امتحان نيل دبلوم الدراسات العليا في القانون العام. وفي ماي 1962، أصبح عضوا في اللجنة الإدارية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، إثر انعقاد المؤتمر الثاني للحزب.
وفي يناير 1963 تم انتخاب عمر بنجلون كمندوب للمؤتمر الثالث للاتحاد المغربي للشغل، إلا أنه سيتم اختطافه من أمام مقر المؤتمر، حيث سيتعرض للتعذيب طيلة يوم كامل، إلى جانب عدد من المحسوبين على جامعة البريد.
بمناسبة الإعداد للانتخابات البلدية والجماعية، سيتم اعتقاله يوم 16 يوليوز 1963 في اجتماع اللجنة المركزية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالدار البيضاء، بعد اتهامه بالتخطيط لتنفيذ مؤامرة ضد النظام، وصدر ضده حكم بالإعدام في مارس 1964، بتهمة تهريب أسلحة من الجزائر إلى المغرب. حصل على العفو الملكي في 14 أبريل 1965، إلا أنه سيتم اعتقاله مرة أخرى في 16 مارس 1966، ليتم إطلاق سراحه في 21 شتنبر 1967، بعدما أمضى سنة ونصف السنة داخل أسوار السجن.
كما نجا عمر بنجلون من محاولة اغتيال في 13 يناير 1973، بعد توصله بطرد ملغوم في ليلة عيد الأضحى، في عملية استهدفت كذلك اليساري محمد اليازغي. ففي اليوم نفسه الذي تم فيه إعدام الضباط المتورطين في المحاولة الانقلابية الثانية على الملك الحسن الثاني، نجا بنجلون من الاغتيال، أما الطرد الملغوم الثاني فانفجر في وجه اليازغي.
وشهدت الثلاثة أشهر الأولى من السنة نفسها اندلاع مواجهات مسلحة في كل من الدار البيضاء ووجدة، وهو ما دفع الحكومة في شهر أبريل 1973 إلى الإعلان عن توقيف أنشطة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وتم إثر ذلك اعتقال عشرات الناشطين وأغلبية الأطر الحزبية، في حين تمكن بعضهم من اللجوء إلى الخارج. تم اعتقال عمر بنجلون في 9 مارس 1973، وتسلم إدارة جريدة «المحرر» يوم 23 نونبر 1974، مباشرة بعد خروجه من السجن.
في يناير 1975 انتخب عمر بنجلون عضوا في المكتب السياسي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وتم تنفيذ عملية اغتياله أمام بيته يوم 18 دجنبر 1975، على يد عناصر يشتبه في انتمائهم إلى الشبيبة الإسلامية.
بنبركة.. الغموض الذي لف رحيل أشهر معارض المملكة
قبل أن يقضي عبد الله باها نحبه بالمكان نفسه تقريبا الذي غرقت فيه سيارة البرلماني الاتحادي أحمد الزايدي، شاءت الصدف أن يشهد واد الشراط القريب من مدينة بوزنيقة محاولة اغتيال فاشلة للمهدي بنبركة قبل ما يزيد عن خمسين عاما. ففي شريط وثائقي أعدته قناة فرنسية حول المهدي بنبركة، كاد المعارض اليساري أن يلقى حتفه لحظة قيادته لسيارته بينما كان يعبر قنطرة لا تبعد عن بوزنيقة سوى بسبعة كيلومترات. وحسب ما ورد في الوثائقي فإن بنبركة، الذي ظلت تتعقبه سيارة تابعة للأمن منذ عودته إلى المغرب، كان متوجها يوم 16 نونبر من العام 1962 إلى الدار البيضاء على متن سيارته من أجل حضور اجتماع تم عقده يوما بعد اتخاذ القرار بمقاطعة التصويت على الدستور، إلا أنه سيتعرض لمحاولة اغتيال بعدما دفعته سيارة من الخلف، ما أدى إلى سقوطه في الهاوية. فرت السيارة من مكان الحادث، وتعرض بنبركة لجروح خطيرة على مستوى رقبة العنق، لكنه استطاع النجاة من الموت.
وإذا كانت هذه المحاولة قد باءت بالفشل، فإن المحاولة الثانية التي جرت بعد ثلاث سنوات كانت جد محكمة ولم تترك له فرصة للنجاة، بعدما تورطت في تنفيذها عدة أجهزة من المخابرات. ففي صبيحة يوم الجمعة 29 أكتوبر 1965، كان المهدي بن بركة على موعد مع مخرج سينمائي فرنسي أمام مطعم ليب في شارع سان جيرمان في قلب العاصمة الفرنسية، لإعداد فيلم حول حركات التحرر. قبل ولوجه إلى المقهى تقدم شرطيان فرنسيان إلى بن بركة وطلبا منه مرافقتهما في سيارة تابعة للشرطة.
ومنذ تلك اللحظة، اختفى بن بركة من الوجود، ولم يعرف على وجه التحديد ما الذي حدث وكيف تمت تصفيته، باستثناء التصريحات التي أدلى بها الشرطيان المتورطان في اختطافه أمام محكمة فرنسية، اللذان أقرا بأنهما عمدا إلى اختطاف بن بركة بالاتفاق مع المخابرات المغربية وأنهما أخذاه إلى فيلا تقع في ضواحي باريس، التي حضر إليها الجنرال محمد أوفقير، الذي كان وزيرا للداخلية في تلك الحقبة، وأحمد الدليمي، رئيس جهاز المخابرات.
ورغم مرور 49 عاما على اختفاء المهدي بنبركة، فإن الحقيقة الكاملة لظروف اغتياله مازال يلفها الغموض، خصوصا مكان دفن جثته. وفي هذا الصدد، ذكر المشاركون في عملية تصفية بنبركة بأنه دفن في البداية في حديقة الفيلا التي تم نقله إليها بعد اختطافه، ليتم بعد ذلك نقل الجثمان إلى مكان يقع بالقرب من نهر السين. أمام هذا الغموض مازالت عائلة بنبركة ورفاقه يطالبون بالكشف عن مصير جثمانه والمكان الذي دفن به أشرس معارض لنظام الحسن الثاني.
عبد الرحيم عمران *: الموت الفجائي والمحزن للسياسيين يجعله حدثا ببعد وطني
قال إن المجتمع المغربي تسود به ثقافة تشكيكية على المستوى السياسي
- ما هي الأسباب النفسية التي تجعل المواطن العادي يطرح تساؤلات حول ملابسات وفاة الشخصيات البارزة في المجتمع؟
ينبغي استحضار المكانة المتميزة لهؤلاء القادة السياسيين والمناصب الهامة التي تقلدوها، وبالنظر كذلك لمكانتهم المتميزة مجتمعيا. كما يتعين ربط ذلك بكون المواطن هو في انشغال دائم ومعني بما يجري على مستوى التنظيمات، وعلى مستوى الحدث وعلى مستوى ما يحدث من تطورات سياسية. وبطبيعة الحال فإن وقع الحدث في حد ذاته مفاجئ وغير منتظر، سيما أن الأمر يتعلق هنا بحالتي وفاة. فوق هذا كله، لا يجب أن ننسى المكانة المتميزة سواء بالنسبة لعبد الله باها أو أحمد الزايدي. كما لا ينبغي أن ننسى أن المواطن يتابع ما يجري عبر وسائل الإعلام بخصوص تفاصيل الحياة اليومية لهؤلاء وغيرهم واللقاءات التي تجريها الوجوه السياسية، كحضور أشغال البرلمان وغير ذلك من الأنشطة الحكومية. الثقافة السياسية هي ثقافة متداولة يوميا. هذه المكانة الاعتبارية تولد نسقا نسميه كمختصين النسق المعرفي-الاجتماعي؛ أي ما هو متبادل ومتقاسم ومشترك على مستوى التمثلات والمواقف وعلى مستوى الارتباط بالحدث. بطبيعة الحال، هناك البعد النفسي والاجتماعي المعرفي، فالمواطن يتداول مجموعة من الأحداث والوقائع والمستجدات التي تهم حياته الاقتصادية والاجتماعية اليومية، ويقوم بمتابعتها بما يسمى بالمرجعية النفسية المعرفية الاجتماعية. ومن الناحية الوجدانية، نتحدث هنا عن حدث له ثقل بارز.
داخل المجتمع المغربي عادة نجتمع في الأفراح والأتراح. هذا تقليد مغربي يندرج ضمن الثوابت التي تجمعنا، أو ما يصطلح عليه الوجدان المجتمعي. انشغال المواطن المغربي بالحدثين هو بسبب مكانة الشخصين داخل البرلمان، والحكومة، وداخل حزب عريق في تاريخ المشهد السياسي المغربي هو الاتحاد الاشتراكي. الشيء الآخر الذي يميزهما هو مرتبط بما هو نفسي اجتماعي. فكلاهما يمتاز بعدة مواصفات. أولا من الناحية السياسية، وبغض النظر عن الاختلاف في المرجعية وانتماء أحدهما لحزب محافظ والثاني لحزب تقدمي، فإن كلاهما يتقاسمان تلك النزعة الديمقراطية الوسطية الاعتدالية والإنسانية. كما أن الرجلين كانا يحظيان بمكانة خاصة حتى في صفوف الحزبين اللذين ينتميان إليهما. لا داعي في هذا الصدد للتذكير بمكانة الزايدي ومواقفه وحتى صراعه مع إدريس لشكر. أما باها فكانت له مكانة متميزة بحكم قربه من رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران. وبالتالي، إذا استحضرنا هذه المعطيات، مقابل حضورهما المتفرد وطريقة معالجة المشاكل وتفضيلهما الابتعاد عن الصراع، علاوة على فجائية الحدث بالنسبة لكلاهما، فكل ذلك جعل حدث الموت، المحزن بطبيعته، يتخذ بعدا وطنيا.
- بالنظر لملابسات الحادثين، سيما وقوعهما بالمكان نفسه تقريبا، هناك بعض الأشخاص يشككون في ظروف وملابسات وفاة كل من الفقيدين. ما سبب هذا الارتياب والشك؟
الإنسان بصفة عامة، والمواطن العادي لديه تلك النزعة التي تدفعه إلى الرغبة في التحقق من الحدث، وبما أن الحدثين وقعا في ظروف لا يمكن مشاهدتها ومعاينتها عن كثب فمن البديهي أن يدفع ذلك البعض إلى الشك والارتياب. وبالتالي فإن كل ما هو مفاجئ، وإذا أخذنا بعين الاعتبار المكانة السياسية والاجتماعية للفقيدين فذلك يخلف حالة من الصدمة. علينا ألا ننسى أن الزايدي كان في صراع ومواجهة مع جناح القيادة التابع لإدريس لشكر. كما أن هذا الأمر كان يتم الحديث عنه باستمرار في وسائل الإعلام. كيف يعقل أن شخصا بهذه المواصفات، وفي وضع صحي جيد، وفي وضعية نضالية متميزة، أن يختفي فجأة بعدما يقع ما يقع، في ظروف غامضة. علينا ألا ننسى أن المجتمع المغربي تسود به ثقافة تشكيكية سياسيا. فتاريخنا السياسي ليس بريئا، بل هو مليء بحوادث الاغتيال، كما حدث مع المهدي بنبركة وعمر بنجلون. فالثقافة المجتمعية والتمثلات والوجدان المجتمعي، ونظرا للظروف التي عشناها مع ما وقع خلال سنوات الرصاص وغير ذلك، جعلت منطق الشك هو السائد. وهو ما يدفع البعض إلى القول إن حادثا مماثلا لا يمكن أن يقع بدون تدخل الأجهزة أو الأيادي الخفية. وبالتالي فالتساؤلات مردها لهذا الأمر؛ فثقافتنا السياسية غلبت عليها أحداث ووقائع فاجأتنا، وجعلتنا دائما في حالة من التشكيك. ربما يعود هذا الأمر كذلك إلى ضعف الشفافية الديمقراطية بالمغرب، وثقل السنوات التي مر منها المغرب التي كرست ثقافة مجتمعية مشتركة تشكك في أي شيء. وبما أن الأمر يتعلق بقياديين، أحدهما كان في وضعية صراع، توفيا في ظروف وملابسات مجهولة، وهو ما يفتح الباب أمام التأويلات التي تدخل في إطار العقلية التخمينية والتشكيكية. كما أن لدينا ثقافة سياسية تدعم الثقافة الشعبية التي تدخل فيها الإشاعة، ولدينا ما يكفي من الاستعداد السيكولوجي، الذي يسهل ربط الحوادث أو القصص بوجود أيادي تقف وراءها. ويكفي أن يتحدث أي كان عن كون الوفاة جاءت في ظروف غير عادية، وتشرع دينامية نقل الخبر والحدث، ورغبة البعض في التشكيك والحديث عن كون فلان أو فلان لم يفارق الحياة صدفة، بل تم اغتياله، لتتوفر التربة الخصبة لما يسمى بسيكولوجية الإشاعة. سيكولوجية الإشاعة هي صادقة مادام لا يمكن تكذيبها، وهذا يسهل ظهور مثل هذا التشكيك وانتشاره.
- هذا الأمر يحيلنا على سؤال أهم يتمثل في غياب الثقة لدى المغربي إزاء الإدارة. ما سبب ذلك من الناحية النفسية؟
الثقة تتأسس حينما تكون العلاقات التي تجمعنا بالآخر مبنية على المودة والوضوح ووضوح التعاقد والالتزام، وعلى نوع من الاحترام المتبادل. إذا أخذنا بعين الاعتبار هذه المواصفات التي تدعم سيكولوجية الثقة، بما أن الثقة هي سيكولوجية على مستوى الأحاسيس والمعاملات والتمثلات، وعلى مستوى التعاقد، فضلا عن الشفافية، التي هي أحد العوامل الهامة لضمان المصداقية، وربطنا ذلك بتاريخنا السياسي والمجتمعي نجد أن هذا الأخير بني على غياب الشفافية وغياب التعاقد وغياب الوضوح، وانتظم بعلاقة فيها نوع من التباعد، هناك السلطة الحاكمة، سواء سميناها المخزن أو الدولة أو الأجهزة الأمنية. وبصفة عامة علاقة الإدارة بالمواطن يغيب عنها عامل الثقة، علما بأن الإدارة موجودة أصلا لخدمة المواطن. إلا أن الإدارة بالمغرب انتظمت بطريقة متعالية تجعل المواطن يهاب سلبيات الإدارة، وتعاملها مع المواطنين بمرجعية السلطة الآمرة. وبالتالي حينما تتداخل هذه العلاقة المتعالية مع غياب الثقة والشفافية وغياب حقوق المواطن، فإن ذلك يولد حالة من الارتياب والتشكيك تجعل العلاقة القائمة بين الأشخاص والمؤسسات حبيسة سيكولوجية الخوف لدى المواطن وعدم الثقة بنفسه وعدم الثقة بالآخر.
- يعني أننا في لحظة حوادث مماثلة تظهر رواية رسمية تنشرها مؤسسات الدولة ورواية أخرى غير رسمية موازية تقوم على التشكيك والارتياب؟
بطبيعة الحال، وهو ما يعزز استمرارها. حتى نكون صريحين الرواية غير الرسمية تجد الأرضية الخصبة في ظل غياب الشفافية بالمغرب، والشفافية في المجتمعات المتقدمة مرتبطة بالديمقراطية، الديمقراطية كمؤسسات وكحقوق وكممارسات داخل كل المؤسسات. الديمقراطية ليست مجرد شعار، بل هي ناظم يوضح الحقوق والواجبات، بموازاة وجود سلطة ونقيض السلطة، والفصل بين مختلف السلطات. إذا غابت هذه العوامل والمؤسسات بثقافتها وتحولت إلى ممارسة يومية، ستستمر سيكولوجيا هذه الحالة من غياب الثقة، لأن غياب الثقة مردها الخوف، ووجود طرف بيده القرار ومواطن لا صوت له ما عدا الخضوع والمسايرة. في ظل هذه العلاقة المختلة، التي تجعل طرفا له سلطة مطلقة وطرف ثاني عليه التطبيق والمسايرة، فإن ذلك يجعل المواطن دائم التشكيك ولا يتعامل بثقة مع المعلومة.