هل راكمنا تقاليد حضارية حقيقية ؟
حتما يوجد فرق شاسع،بين التقاليد والفولكلور، الخطاب والواقع، القائم والممكن،الحلم والمعطى،العمق والسطح،الراسخ والعابر،الصلب والهش،التصميم والارتجال،التبصر والخبط العشواء،الحقيقة والزيف،السيليكون والطبيعة،العفوية والتصنع،البهرجة والجدة،الجدية والتخربيق،إلخ.
أقصد بالتقاليد هنا مختلف التراكمات،التي بلورها بنجاح، مجتمع معين، على امتداد عقود طويلة من العمل القصدي،بخصوص قضية من قضاياه المصيرية،التي بحكم عامل الزمان، حسب جدليات الكمي والنوعي،ثم ارتباطا بالتطور الفكري والقيمي للمجتمع،لن تبقي تلك التقاليد،طبعا وفق انسياب طبيعي متجرد عن التوظيف الإيديولوجي المضلل،سوى على سياق مبدع بالضرورة وخلاق بالمطلق.بناء عليه :
نتوفر في المغرب،على أحزاب يتجاوز عددها الثلاثين، أي أكثر من الثلاثة بعشرات الأضعاف،ومهرطقين بالجملة يستظهرون صيفا وشتاء،كل الفذلكة السياسية من شرق الدنيا إلى غربها،يشنفون أسماعنا،أنه ينبغي علينا التباهي بكوننا نجاري أرقى الديمقراطيات على وجه البسيطة،بل وأفضل منها،فصار بمقدورنا أن نصدر لمجموعاتها البشرية،من الحداثة إلى الدلاح،ومن الأنوار إلى السردين… .السؤال الطفولي البسيط،هل نتحسس حقا،مجرد ألفبائيات تجليات ممارسة سياسية،قابلة أن تقنع ذاتها،قبل سعيها إلى إفحام الآخر؟.
دأب المغرب على الإسراع، إلى احتضان تنظيم مهرجانات فنية تتوخى الكونية،فيتعبأ المسؤولون، بكل ما أوتوا من عشق لعوالم ألف ليلة وليلة الرغدة والسهلة،وادعائهم بفطنة لاتضاهى بخصوص غنائم مقتضيات الماركتينغ،في إطار فهلوة التسويق والبيع والشراء. تسويق، صورة فوقية لامعة “غير مهترئة”،عن الجواني للبراني،لأنه والعهدة على عتادهم اللغوي :السينما سياحة والموسيقى سياحة والتبوريدة سياحة والفكر سياحة والسياسة سياحة والدبلوماسية سياحة والسياحة استراحة.مامعنى السياحة؟أن يطل علينا أي آخر، عبر نشرة إخبارية،مصرحا للميكروفون، أننا شعب متسامح،نشيد يمنة ويسرة،جغرافية من الكسكس وننحت في عمق الصخر تاريخا بالشاي المنعنع.لكن السؤال البسيط،القابل للترجمة الفورية إلى كل اللغات،هل تؤطرنا واقعيا تقاليد فنية وجمالية؟فتغدو السينما والموسيقى والدبلوماسية والسياحة…،مؤسسات ثقافية،بالمعنى المجتمعي للمفاهيم، وبناءات سوسيو-تربوية تعكس احتياجا بيولوجيا يوميا.
جميل أن يؤلف كتابنا نصوصا،ويكتبون هنا وهناك، كل في مجال أبحاثه،غير أن الارتسام العام،الذي يستشف من داخل تلك الأوساط المثقفة ذاتها، قبل العامة،كون تآليفهم في الغالب الأعم بدون صدى يذكر. وبغض النظر، عن الجواب الجاهز المتمثل في انعدام الجينات الحيوية الموروثة،جراء غياب مشروع ثقافي متكامل للدولة ،منذ بداية الاستقلال،فلا شك أيضا، أن عدم مراكمة المثقفين أنفسهم لتقاليد معرفية بهذا الصدد،مقارنة مع الغرب،لعب دورا مؤثرا سلبيا، وكرس عوائق لاواعية،جسدت حائلا أمام المسارات السليمة،مثلما تستفسر المجتمع برمته عن التقاليد العلمية ؟
إذن،انتفاء أفق مفصلي من هذا القبيل،وبجانب طبعا تبعات نتائج ضراوة الصراع السياسي بين التوجه الرسمي الرجعي ثم دعاة التحديث،طيلة عقود خلت.فلا يجب أيضا التغاضي،عن آثار منظومة قيمية وإبستمولوجية ورثناها،عن النزوعات الذاتية لجيل الرواد أوأصحاب المشاريع المعرفية الكبرى.
بوسع أي متتبع الجزم،كما بدا واضحا،بعد حكايات أفرزها رحيل بعضهم،وكذا استنطاق نصوصهم،أن الجابري والعروي والخطيبي وطه عبد الرحمن ومحمد أركون…،لم يكن الواحد منهم،يكترث حتى على سبيل الاستئناس بما أدلى به الثاني،فأقاموا جزرا منعزلة،مع أن سماؤهم واحدة.يكفي،أن نستحضر في الإطار ذاته ،كنموذج مقابل، على سبيل التمثيل فقط، الثالوث الفرنسي الشهير :فوكو، دولوز، ديريدا.
على ضوء ماقلت،أخبرني مفكر مغربي من الجيل الثاني لهؤلاء،كان مدرسا للفلسفة بجامعة محمد الخامس، أنه بالرغم من تراكم إصداراتك، فنادرا مايشعرك زميلك في التدريس،بأقل اهتمام نحو ما أنجزته، ولما لا انكبابه من باب التقييم الأولي،على اكتشاف مضمون ماكتبته، ومحاورتك باستلهام روح الأغورا اليونانية،حيث الفكر صداقة.
غياب تقاليد التناظر تلك،أفسح المجال واسعا لأخرى متخلفة جدا،هيمنت على تحديد مجريات سياقنا الثقافي،فأصابته بالتسطيح والبهرجة الفارغة،أقصد الدواعي الدوغماطيقية التي تجسدها مقتضيات الحزبية والأسروية والطائفية والقبلية والعرقية والجنسية والإخوانية… . تقاليد بالية، اجتثت التقاليد الحضارية التي تتفتق معها حوارات الأجيال ،فتنمي بالتوالي، الوضع الاعتباري والرمزي للمثقفين،أكثر من ذي قبل،مع تأصيل وضعهم في قلب المنظومة المجتمعية.