تشتهر مدينة زاكورة بالجنوب المغربي، بتراثها الصحراوي الغني والمتنوع، ومعالمها الأثرية العتيقة، وذلك من خلال بانوراما الكثير من القصبات الطينية التي تنتشر في مختلف المناطق الصحراوية هناك، فضلا عن تراثها الغنائي الموسيقي، المتمثل في فن (احواش)، وفنونها الشعبية، التي تميز إحدى أعرق المناطق الصحراوية هناك، والمحاذية لضفاف مدينة محاميد الغزلان الرملية الساحرة.
وإلى جانب الفنون الموسيقية الشعبية، والتراث اللامادي، والزوايا الدينية والصوفية، التي تشتهر بها المدينة، أضيف خلال السنوات الأخيرة إلى المنطقة، احتفاء خاص، بفن السينما الوثائقية، حيث أقدمت مجموعة من فعاليات المجتمع المدني، على تأسيس جمعية أطلقت عليها اسم جمعية المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي، وذلك بهدف، تكريم هذا اللون السينمائي الجميل، وخلق دينامية ثقافية وفنية وسينمائية بالمنطقة، فضلا عن خلق حوار مُتمدِّن بين مختلف السينمائيين والمهتمين بالفيلم الوثائقي وثقافة الصورة السينمائية كحركة ثقافية وإبداعية، تروم في الأساس النبش في مجال السينما الوثائقية، والبحث لها عن موطئ قدم، في هذه المنطقة الصحراوية، التي تُشكِّل أحد المشاهد التلقائية لسينما وثائقية قادرة على تقديم الفرجة للجمهور، وتحقيق روح التواصل وتبادل التجارب والخبرات والرقي بروح السينما الوثائقية وطنيا وعالميا.
تكريم السينما الوثائقية العربية
في هذا الإطار، شهدت المدينة خلال الفترة الممتدة من 20 إلى 23 من شهر نوفمبر الماضي، تنظيم الدورة الثالثة من المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي، وذلك بمشاركة عدد من البلدان العربية والغربية، وبدعم من المركز السينمائي المغربي ومحافظة زاكورة والمجلس البلدي، وشركاء آخرين، وهي الدورة التي شكلت لدى العديد من المتتبعين تحديا كبيرا، بعد تأجيلها، وذلك لظروف مالية صعبة، كادت تعصف بهذا المهرجان، الذي يسعى في العمق إلى خلق مزيد من الإشعاع للمنطقة وفك العزلة عنها ثقافيا وفنيا، وتكريم السينما الوثائقية العربية والدولية في أبهى التجليات.
وشهدت فعاليات الدورة، التي أقيمت بفضاء دار الثقافة، فقرات خصبة ومتنوعة، من ورشات، ولقاءات مباشرة مع المشاركين، ليسدل الستار عليها بإعلان الفيلم الفلسطيني (ناجي العلي في حضن حنظلة) فائزا بجائزتين الأولى، جائزة زاكورة الكبرى للفيلم الوثائقي، وهي أرفع جائزة يمنحها المهرجان، لفيلم وثائقي حظي بإعجاب رئاسة لجنة تحكيم المسابقة الرسمية، وقدرته على تقديم معالجة خلاقة للواقع، وذلك من خلال تسلسل الأحداث، وفق رؤية سينمائية جميلة وشاعرية، تعتمد على حسنات وجماليات الصورة وروعتها، مصاغة في قالب فني مشوق مؤثر، يسمو بقيم إبداع السينما إلى الأعلى، ويجعل الفيلم الوثائقي، نصّا إبداعيا حالما، تتوفر فيه مواصفات الفرجة الحقيقية، وتُقدِّم للجمهور والمتلقي انجذابا واعيا إلى كل ما هو واقعي وتاريخي وإنساني ووجداني ممتع وجميل.
كما فاز هذا الفيلم، الذي اختير ضمن 82 عملا أجنبيا وعربيا توصّلت به لجنة التنظيم للتباري ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان، بجائزة لجنة النقد كذلك التي ترأسها الباحث الجامعي أيوب بوحوحو، ما منحه نجمتين إضافتين في سماء السينما الوثائقية الفلسطينية والعربية، بعد تتويجات، وإيضاءات أخرى مشعة بتظاهرات ومهرجانات سينمائية عربية ودولية.
جائزة الجزيرة الوثائقية بأصيلة
وفاز بالمناسبة، ضمن هذه المسابقة الرسمية التي حكمها المخرج السينمائي المغربي داوود أولاد السيد، الفيلم المغربي (همسات العالي) لمخرجه المغربي عامر الشرقي بجائزتين هو الآخر، الأولى، تهم جائزة لجنة التحكيم الخاصة، والثانية تهم جائزة النقد مناصفة مع الفيلم الفلسطيني (ناجي العلي في حضن حنظلة)، كما نوهت لجنة التحكيم التي ضمت في عضويتها الناقد المغربي أحمد سجيلماسي، والممثلة المغربية فاطمة الزهراء أحرار، والمخرجة والناقدة السينمائية البولونية جوانا كراوبيكا، والفنان التشكيلي رشيد رفيق، بالفيلم التونسي(أزول) للمخرج وسيم القربي.
وشارك في المسابقة الرسمية، سبعة أفلام، وهي بالإضافة إلى الأفلام الفائزة، أفلام، (أسير الألم) لمخرجه المغربي بوشعيب المسعودي، و(الختمومات) لمخرجه اليمني محمد بلخشر، و(أمل دنقل) للمخرج المصري مصطفى محفوظ، و(الفرمان الأسود) للمخرج العراقي المقيم بألمانيا شيخاني نوزاد.
ويأتي تتويج فيلم ( ناجي العلي في حضن حنظلة)، سيناريو الدكتور الحبيب الناصري رئيس المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بخريبكة، وإنتاج شركة غروب ميديا، بعد تتويجه بالمغرب أيضا، وذلك بحصوله على جائزة الجزيرة الوثائقية خلال الدورة الثالثة لمهرجان أوروبا الشرق للفيلم الوثائقي، الذي احتضنته مدينة أصيلة شمالي المغرب من 10 إلى 13 من شهر سبتمبر الماضي، فضلا عن تتويجه بالجائزة الثانية في مهرجان مسقط الدولي وحصوله على الخنجر الفضي، خلال شهر مارس الماضي، وبجائزة أحسن فيلم وثائقي في مهرجان الإسكندرية الأخير.
وثيقة حية تُمجّد القيم الوجدانية والإنسانية
ولعل اختيار لجنة التحكيم التي ترأسها المخرج المغربي داوود أولاد السيد، منح الجائزة الكبرى لهذا الفيلم، اختيار منطقي وموضوعي، وذلك لما قدّمه الفيلم من انبهار إبداعي رقيق، لقضية ما تزال تؤرق بال الضمير الجمعي الإنساني، بعد اغتيال الفنان الساخر ناجي العلي في لندن، حيث بقي وسيبقى ناجي العلي الفنان رغم رحيله، رمزا، وشهيدا حقيقيا، في سبيل القضية الفلسطينية
ويعالج فيلم (ناجي العلي في حضن حنظلة)، في هذا المهرجان، قصة، ناجي العلي الفنان الفلسطيني المغتال، المبدع الكاركاتوري الرائع، ناجي، الإنسان والمناضل والتاريخ، الذي استطاع بريشة رقيقة هزم لعلعات البنادق الغادرة، وصوت المدافع وهدير الطائرات الحربية الإسرائيلية، التي ما تزال من حين لحين تغير على شعب أعزل فتدك الأرض، وتقتل وتشرد. إنها قصة درامية أبكت الجمهور وهو يتابع أطوار الفيلم، حكاية مؤثرة شارك في صنع ملحمتها نخبة من المثقفين والشعراء والفنانين، الذين سردوا بكل تلقائية، ما عايشوه، وما استشعروه تجاه ناجي العلي وإبداعاته، ورسماته، هذا الهرم الفني الكبير، الذي سخّر حياته للقضية الفلسطينية، ولمختلف القضايا العربية ومن خلالها قضايا إنسانية عادلة، لتكون لرسوماته، ولرمزه/ حنظلة الطفل الذي لم يكبر، السلاح الفني المسالم، لكنه ينفذ بسخريته اللاذعة إلى الأعماق، من خلال فيض من الدلالات والإشارات، التي هزّت الكيان الإسرائيلي وكشفت عن بشاعة اعتداءاته، ومخططاته الصهيونية لإبادة شعب اغتُصبت حقوقه، ومصادرة أرضه وصوته وحياته دون أدنى حق.
إن الفيلم المتوج، طيلة 47 دقيقة من المشاهدة، قدّم للمتلقي شهادة حية على عمل سينمائي وثائقي قوي، يستحق التتويج، استطاع برؤيته الفنية الممتعة، بسط مشاهد متنوعة لقضية المبدع ورمزه التاريخي، وشهادات مقنعة، حول حياة وذاكرة ناجي العلي، فضلا عن قراءات تأويلية وعاشقة لحنظلة / الرمز والإشارة، واللغة الفنية السيميولوجية، لهذه الشخصية الفنية الأسطورية التي صنعها ناجي العلي للتعبير بها عن قضايا عدة ورؤى متعددة، ومواضيع وطنية وقومية وعربية وعالمية. وبهذا يكون هذا التتويج لفيلم فلسطيني مغربي مشترك كتابة وإخراجا، هو تكريم واعتراف بكل قضية إنسانية عادلة، واحتفاء خاص بالراحل ناجي العلي، ورفيق دربه سميح القاسم الذي تحدى المرض، وشارك في الفيلم بشهادة حية وقوية حول، هرمين فنين، الأول يعيش في وجدان من أحبوا رسمات ناجي العلي، طفل حزين مهموم لم يكبر، يفكر دائما ويداه إلى الوراء، والثاني ناجي، الذي رسخ روح النضال الشريف، حتى تتحقق للإنسان حقوقه، وتحقق الشعوب العربية والمضطهدة مراميها وأهدافها.
الصورة مكوناتها هي فن الحقيقة
وأكد مخرج الفيلم فائق جرادة في تصريح سابق مع الجزيرة الوثائقية حول قيمة ترسيخ روح مقاومة الكلمة والصورة والرسمة، من أجل فلسطين من خلال الفيلم، أنه “رغم كل ما يحدث هنا في فلسطين بشكل عام، من استيطان وطرد وجدار فصل عنصري، وطرق التفافية في الضفة الغربية، وهنا في غزة مدينة الصمود والألم والجرح، رغم كل هذا إلا أننا ما زلنا نحب الحياة رغم التدمير الممنهج ورغم الحرب والمجازر، التي ارتكبت بحق أهلها ما زلنا نحب الصورة ونعشقها لأن الصورة هي فعل الحقيقة ولا شيء سواها، وإذا كانت السياسة فن الممكن، فإن الصورة الآن بكل مكوناتها هي فن الحقيقة، والصورة اليوم بكل مكوناتها الفنية هي الفعل الحقيقي، ولولا الصورة ما استطعنا توثيق ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، وأكاد أقول بأن الولادة السينمائية الفلسطينية هي ولادة وثائقية، بحكم الصورة الفلسطينية. وقد استطعنا نحن الفلسطينيين بحكم الواقع المعاش أن نشتهر بالفيلم الوثائقي، وأن نجعل منه مادة إدانة للمحتلّ الإسرائيلي، فالتوثيق لنا هو نضال آخر ضد الاحتلال وهو مثل الفنون الأخرى (الكلمة والشعر والرسم …الخ ) يناضل من أجل الحقيقة ومن أجل رسالة مفادها أن على هذه الارض ما يستحق الحياة.”
وشدد جرادة على الحاجة للفيلم الوثائقي، أكثر من أي وقت مضي ليكون شاهدا على كل ما يحدث في الوطن العربي وفي فلسطين وفي كل العالم. ولأن الفيلم الوثائقي هو المعالجة الخلاقة والفنية للواقع، على قاعدة أن الواقع لا يمكن ولا نستطيع تحريفه، لذلك يجب أن تكون معالجتنا للواقع بطريقة بصرية ونمتلك الأخلاقيات الواجبة تجاه هذا الواقع، وأن تكون المعالجة مصاغة بشكل فني جميل. كما أن للفيلم الوثائقي أهمية في إعطاء المعلومة ومضمونها بطريقة فنية جذابة وممتعة وبالتالي التعامل مع الفيلم الوثائقي، هو تعامل مع لغة بصرية وعند التعامل مع اللغة البصرية يجب أن تتوازي المعلومة مع الشكل الفني، إنه هو شرط من شروط الوجود والتعبير بشكل صادق ـ يضيف جرادة ـ ، وإلا تم الوقوع في الهم التجاري للفيلم، لذلك لا بد من بناء قاعدة الموهبة المبنية علي الخطاب الذي نريد أن نوصله وينبغي أن نصنع أفلاما وثائقية ليس من أجل المال فقط ولكن من أجل الحقيقة لأن الفنان دائما يعيش مع أفكاره ومفاهيمه.
نص إبداعي وثائقي يمجد كرامة الإنسان
على صعيد متصل أكد مدير المهرجان رئيس الجمعية المنظمة المخرج السينمائي عزيز الناصري في تصريح للجزيرة الوثائقية، على وجاهة تتويج فيلم (ناجي العلي في حضن حنظلة)، لما يمثل هذا الفيلم من نص إبداعي سينمائي وثائقي جميل يمجد كرامة الإنسان، ويكرس روح العلامة التاريخية والإنسانية والفنية التي يجب تكريمها عبر السينما، مبرزا في الوقت ذاته، أهمية المعالجة القوية للفيلم لتيمة وشخصية فنية عالمية مشهورة، عُرفت بتميز أعمالها ذات الأبعاد الإنسانية والمجتمعية والقومية، وطرحها لقضايا عدة بأسلوب ساخر، إنه فيلم متميز شكلا ومضمونا، ويستحق التتويج، وهو في الأساس تتويج لكل القضايا الكونية العادلة، التي تُسخِّر روحها من أجل حياة الشعوب، وناجي العلي كان واحدا من الذين ضحوا بكل شيء من أجل القضية الفلسطينية في المقام الأول.
وحول المهرجان واهتمامه بالسينما الوثائقية، أضاف الناصري، أن هذه التظاهرة التي تحتفي بالفيلم الوثائقي، في مدينة، هادئة مستلقية على ضفاف الصحراء حيث الفضاء المناسب لسكينة النفس، كانت لعهود طويلة محطات لقوافل متنقلة عبر الزمان والمكان ما بين أوروبا وإفريقيا بحثا عن الأمل والحياة.
وأشار إلى أنه ” في خضم هذه الإشراقات التاريخية والحضارية، والرحلات وأحلام الناس البسطاء، عبروا طريق التحرير باتجاه واحات الأمل، توجد واحات وظلال وأمال الفيلم الوثائقي، بحثا عن تواصل دائم وحوار مستمر بين مختلف الثقافات والحضارات والشعوب، حول ثقافة الصورة، التي تنبعث من ثنايا وسراب الكثبان الرملية وسحر الواحات والقصبات، وامتدادات الحكايات الشعبية والأزليات والروايات الشفوية، ورونق الرقصات التراثية، التي تصنع من مدينة زاكورة الصحراوية، حكاية ترويها مشاهد فيلمية وثائقية بحثا عن معالجة إبداعية لواقع ملموس نريد أن نرسخ أحلام مراميه، في هذا المهرجان، عبر لغة نشعر من خلالها بتواصل سينمائي وثيق ثقافيا وعابرا لسحر الجغرافيا وأصالة التاريخ”.
تنمية الإنتاج السينمائي في شقه الوثائقي
وشدّد على أهمية اهتمام المهرجان بالشباب، وذلك من خلال تمكينهم من آليات الاشتغال على تيمة السينما الوثائقية، عبر تنظيم ورشات يؤطرها متخصصون، وذلك بهدف تحقيق ذاك التفاعل مع الثقافة السينمائية الوثائقية التي تُعدّ إحدى وسائل تهذيب الذوق الفني والجمالي للمتلقي، فضلا عن تنمية الإنتاج السينمائي والسمعي البصري، في شقه الوثائقي والتعريف بالأفلام الوثائقية المغربية والعربية والدولية، والمساهمة في نشر وترسيخ ثقافة السينما الوثائقية وتشجيع المخرجين على إنتاج أعمال لهم، وتطوير قدرات الهواة والمهتمين من خلال ورش، لتحقيق التنمية المحلية والخروج بالمنطقة من العزلة التي تعيشها.
يشار إلى أن الدورة الحالية، كرمت دولة إسبانيا كضيف شرف، وذلك تقديرا لدورها الكبير في اغتناء الحقل السينمائي عامة والوثائقي خاصة، ليس فقط في إسبانيا بل في أوروبا، والضفة الجنوبية للمتوسطي التي يطل عليها المغرب، والعديد من البلدان العربية، فضلا عن تكريم فرقة (الركبة) كوثيقة غنائية عبرت القارات، من خلال تمثيلها للمغرب في العديد من المحافل الدولية، والفنان التشكيلي رشيد رفيق، كما عرفت الدورة أيضا، تنظيم فقرات متنوعة، منها تنظيم ورشات متعددة، لفائدة طلبة ومهتمين حول مواضيع تهم أسرار مهن السينما، وقصص مرئية من تأطير كلٍ من المخرجة البولونية جوانا كراوبيكا، والمخرجة الألمانية آنا سالا، فضلا عن تنظيم ندوة فكرية حول موضوع الانفتاح الثقافي للمغرب، وغيرها من الفقرات الأخرى.