يا أخي ماذا تعرف عن العلوم الإنسانية؟

0 481

قبل سنوات ليست بعيدة،وأثناء برنامج تلفيزيوني مباشر،تطرق محوره لموضوع بطالة خريجي الجامعات المغربية،صرح رجل أعمال اشتهر إعلاميا فيما بعد بكونه ديمقراطيا حداثيا،في سياق محاولة تفسيره سبب تفاقم البطالة في المغرب،أن السبب يعود إلى “المدرسة اللي كلخاتهم !!”؟على حد قوله وهو يضرب الطاولة بيديه.المدرسة التي شكلت في أوروبا مهدا أوليا لبناء ذاك المجتمع الديمقراطي الحداثي فعلا وليس قولا،صار بوسعنا هنا، بناء هذا المجتمع ربما بضربة ساحر وليس بالمدرسة.

أيضا،ومنذ أسبوع وأنا أتابع مرة أخرى على ذات التلفيزيون برنامجا استعاد نفس التيمة،خلص “مقاول” مجترا نفس الشتيمة الميسرة،كي يحمل “داكشي ديال التاريخ والجغرافية والفلسفة…”،مساوئ ما يقع؟؟بمعنى أن جميع الأمور في هذا البلد،على أحسن مايرام سياسيا واقتصاديا ومجتمعيا وثقافيا وقيميا وسلوكيا،وأن الآخرين غير هؤلاء يرفلون في النعمة،لذا فمن اختار”داكشي ديال التاريخ والجغرافية والفلسفة” والأدب والمسرح  والتشكيل والموسيقى والصحافة والآثار والتحقيق… ،فقد تعمد ضمنا،مع سبق الإصرار والترصد،وبكامل قواه الذهنية،أن يسلك طريقا مظلما،ينتهي به إلى الانتحار الذاتي.هكذا،يكمن أصل أزمة المغاربة وفق التحليل ومن خلفه دعاية الرسميين، في تلك المعارف،وليس الفشل الذريع للسياسات العمومية،التي تستنزف ثروات البشر والشجر،بطريقة بشعة،لايستسيغها عقل سليم.

ببساطة،أحاديث الناس العادية في الشارع،تؤكد أن أزماتنا الاقتصادية من خلال جوانب كبيرة منها،تبقى مفتعلة ومختلقة،مادام القصد المتحكم في  اللعبة يستهدف ضمنيا توسيع هامش العوز المادي لتأبيد الفقر الفكري،أو كما عبر عنه الاقتصاديون، بمشروع تفتيت الطبقة الوسطى والبورجوازية الوطنية،الناحتة للقيم الكبرى الموجهة للمجتمع  .ولعل،التأفف الدائم للتحالف الطبقي الحاكم من العلوم الإنسانية،عبر شماعة تصنيفها ضمن منظومة العلوم النظرية المتهمة ب”مفارقة الواقع”،والأخير في حاجة فقط كي يتطور، إلى فرد “بريكولور”Bricoleur،صاحب عقل صغير يلاحق احتياجات ساذجة لاتتجاوز أرنبة أنفه،وليس رأسا يحوي أفكارا كثيرة  ومعلومات غنية،يقبض على مصيره. إنه، بدون مشروع وجودي يليق به كإنسان.  

إذن، لنسائل معطى هذا الواقع الامبريقي ذاته، الذي يستندون عليه كنظرية فاصلة،بناء على مايلي :

*أزمة المغرب البنيوية،لاعلاقة لها بتاتا ،ب”داكشي، ديال ليستوار جيو  والفيلو… “،ولكنه بلا زيادة ولانقصان وقبل كل شيء،انتفاء العدالة الاجتماعية،وعدم استفادة الجميع من الثروة،إلا الفئة التي تضرب العقل والتفكير، باسم سدنة الواقع. بالتالي،عندما يتحقق شرط وضع اللبنات المجتمعية، على أرضية صلبة،نواتها المنظومة السياسية الديمقراطية والمنصفة والجدية والمتجددة والعقلانية والخلاقة،حينذاك بوسع التعليلات الموصولة بالعلة المبدأ والأصل والمنطلق،أن تكون خلاصاتها موضوعية ومقبولة بالإيجاب أو السلب.لكن،بما أننا  لم نبلور بعد الممكنات المقبولة في حدودها الدنيا،لأعمدة البناء الأساس،فسنستمر على درب تنميق الافتراء.

دائما وتحت مبرر واقعهم الذي يعلو ولا يعلى عليه،فالطفل قبل الكهل،يردد في واضحة النهار ولم تعد الفكرة بالاكتشاف العجيب،بأن بلدنا تنخره موجات عارمة من الفساد والتسيب وتهريب الأموال والاختلاسات والتبذير والصفقات العمومية السهلة والسوداء والريع والرشوة والزبونية والتحايل والتطاول… مع تلكؤ  القانون. هي الأسباب الحقيقية لبطالة الخريجين وغيرهم ،لأن الشغل كرامة لكل مواطن،وليس نتيجة”داكشي ديال التاريخ والجغرافية والفلسفة…”.  

*إن تغاضينا وسلمنا معهم،برجم العلوم الإنسانية،وتحميلها كل المساوئ،فلا أتبين في المقابل،نجاة  زملائهم أصحاب العلوم الدقيقة والمختبرية والطبية.الحجة،أغلب خريجي تلك الحقول،يعانون بدورهم البطالة المكشوفة أو المقنعة أو الموت البطيء أو الاستنزاف اللامباشر.هكذا،قد تصادف كل صباح،وبأقل من السهولة المحتملة،على متوج بأعلى شهادة جامعية،ليس في “داكشي ديال التاريخ والجغرافية والفلسفة ” حسب رؤية “موهوبي” المال والسلطة،لكنه فيزيائي أو كيميائي أو بيولوجي وفي الرياضيات،متسكعا أمام البرلمان،لطلب الوظيفة،أما إن أسعفه الحظ نسبيا،فعلى وجه الاحتمال ملتصقا بكرسي تسنده رجل واحدة وأمامه طاولة من العهد البيزنطي،منكبا على تصحيح الإمضاءات….بتعبير ثان،إذا كان “داكشي ديال الأدب والشعر والكتبة والقراية… “،فقواعد المنطق العملي البسيط،تقتضي أن يحظى أهل التخصصات المفترض فيها “الواقعية”،بكامل الرعاية والاحتضان والتقدير،ووضعهم في قلب التفكير المجتمعي كي يشكلوا نماذج للمتعلمين.

*أخيرا، بالله عليكم ! هل، مايروج داخل الجامعات المغربية،ويصنف من طرف المقررات التعليمية الرسمية وتوجيهات خبرائها،يستحق نعته بالعلوم الإنسانية؟مامستوى، الحضور النوعي لهذا الدرس المشع حاضرا ومستقبلا،في تطوراته الحديثة والمعاصرة،بين جنبات فصول مدارسنا وكلياتنا ومعهما كل فضاءاتنا العمومية؟أين نحن، من أجواء متانة الدراسات التاريخية والفلسفية والأدبية والتيولوجية ،كما أدركتها الجامعات الغربية والأمريكية واليابانية،لأنها تجسد مختبرات التفكير البحثية فيما يتعلق بالإشكالات التي يطرحها التطور المجتمعي؟كم راكمنا، من المتون  السوسيولوجية والسيكولوجية والأنثروبولوجية والاتنوغرافية والعمرانية والدينية والسياسية ؟ثم يلتقطها خبراء الشأن العام لدينا واستثمارها، في وضع برامج ذات المدى المتوسط والبعيد.

أيضا وكجواب ضمني على الأسئلة،نعلم بأن الدولة تعمدت منذ زمن بعيد،تفريغ مباحث العلوم الإنسانية من مضامينها التأويلية،والتضييق على العقول التي نبغت في المجال،والانتهاء إلى معارف بسيطة على منوال حكايات جدتي.التفسير الواضح،أنها لم ترد قطعا،مواطنا مدركا لحاضره ومستقبله بمنظور كوني،لكن يكفيها “بريكولورعلى قد الحال” يتم توجيهه حسب المقاس.

إذن،وكأني اسمع المعري يقول “هذا ماجناه أبي علي ، وما جنيت على أحد”،والاستطراد الموصول للنتيجة بالمقدمة،فكل الأمراض التي نكابدها اليوم ولن تزداد حتما إلا استفحالا :الإرهاب،الجريمة،العنف،الشيزوفرينيا،الجنون،ضعف النخبة،الخواء الفكري،بؤس السياسة والسياسيين،موت الضمير… ،مردها اجتثاث الروح التأملية النقدية  للعلوم الإنسانية،كما يراكمه الدرس العلمي ل”داكشي ديال الجغرافيا والتاريخ والفلسفة والأدب والموسيقى والشعر والتشكيل والمسرح والسينما…”على حد التوصيف الناقم.

 *ياأخي اتركوا العلوم الإنسانية لأهلها الحقيقيين،أهل العقل والخيال والحكمة والتأمل والتبصر، وحاولوا أن تكتفوا بلملمة شظايا يومياتكم الصغيرة،ربما تفلحون؟.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.