تأملات أستاذ

4 446

عندما يتمكن الطالب من اجتياز مباراة الدخول إلى مراكز التربية والتكوين ، يشعر بارتياح شديد ، و زهْـو لا مثيل له ، هو الذي كان يؤمن أن باب التوظيف قد أغلق بأقفال وأُلقيت المفاتيح في البحر…  ها هو باب الأمل ينفتح  في وجهه من جديد ، وهاهي دماء الحياة ضُخت في عروقه الجافة ، وكأنه وردة ذابلة في رمَقها الأخير تتلقى أخيراً قطرات الحياة المنعشة ، و ها هو شبح البطالة ولّى الى حيث لا رجعة ، ثـم يبدأ خيـاله فـي بناء صرح مثالي لأسرة محترمة مكونـة مـن أم و طفلين : أنثى وذكر يقوم بتربيتهما أحسن تربية ، ويسعى في سعادتهم ليجنبهم البؤس والقهر اللذين جثما على صدره لسنوات عجاف اغتصبت  كل حلم من خياله …. الآن فقط كل الطموحات والأماني يمكن ان تتحقق لان مفتاح السعادة أصبح بين يـديه : رقم تأجير خاص ، محلُّ عمـل محتـرم يليق بالشهادة الجامعية التي سهر الليالي للظفر بها … عطلٌ سنوية تتخلل موسما دراسيا يؤثثه بالمعرفة والثقافة والمحاضرات و أصوات التلاميذ وهم يناقشون ويتطارحون الأفكار في جو من الهيبة والوقار… مقامُك يسمح لك أن ترتدي معطفا على المقاس وتضعَ ربطة عنق زاهية الألوان … من حقك أن تحلم ، القنديل السحري بين يديك ، وعبد القنديل خادمك ، ينتظر أوامرك ولسان حاله يقول : شُبيك لُبيك خادمك بين يديك …

   وبعد شهر أو شهرين من الممارسة داخل الفصل الدراسي ، تبدأ الصورة المثالية في الانحسار عن واقع مُر مؤلم : أقسام مكتظة يضيع وسط ضجيجها صوتُ الأستاذ … تلاميذ منفصلون عن الواقع ، تتدلى على أكتافهم محافظُ تكاد تلامس الارض فتحسبهم يجرونها كما يجر الحصان المنفلت من عقاله الحبلَ والوتدَ التي يُشد إليها … تلاميذ بارعون في اقتناء سراويل لكشف العورة لا لسترها ، فتزيل كل وقار ضروري لطقوس التعليم والتعلم ، كما هم بارعون في اقتناء وسائل التجميل من مساحيق و” كْريمات” واستعمالها دون خجل أو حياء … تلاميذ غير مكترثين وكأنهم يساقون الى المدرسة حشْرا . وهم بالإضافة الى هذا وذاك تراهم ينظرون إليك وهم لا يسمعون ، وإذا سمعوا فهم لا يعقلون وكأني بقلوبهم  قد أفرغ عليها القِطْـر ، فلا حياة لمن تنادي …  برامج دراسية جافة ، قاحلة ، تصيبك بالتخمة والاسهال بعد أن انتهت مدة صلاحيتها ، وحتى عندما تتجدد لا تأخذ من الجِدة والمعاصَرة إلا جوانبَها السلبية ، أما المضمون فما زال زيد يضرب عمرواً …

    ساعتها يشعر أستاذنا أن اختياراته كانت خاطئة وتتحول أحلامُه الى كوابيس مفزعة بالليل ، مزعجة بالنهار. يحاول أن يتراجع فتحاصره معاناة الماضي المريرة ، لقد وقع في المستنقع  حيث “العدو” أمامه وبحر البطالة وراءه وليس له الا القتال أو الموت . وتبدأ رحلة العذاب مع المذكرات الوزارية والاكاديمية والنيابية التي تُلزمه بأن يكون متسامحا محترِما لحقوق الانسان المتعارف عليها عالميا حتى لو تعرض هو لإهانة من قبيل الشتم أو الضرب ، وكأنه ليس إنسانا يحس ويتألم …عليه أن يمسك الجمرة المحرقة ويسبِّحَ مع المسبحين بحمد التلاميذ المشاغبين أن أبقوا على جلده سالما . عليه أن يـرفع شعار ” مصلحة التلميذ فوق كل شيء ” ولو تطلب الأمر أن يُقطع عضو من جسمه لإجراء تجربة ، لأنه بهذا الفعل سيسمو الى مرتبة القديسين الذين يهبون حياتهم فداء لخلاص الآخرين ! عليه أن يحتفل بكل الأيام والأسابيع الوطنية والدولية ويعمل على تجسيدها في الواقع ، فمن اليوم العالمي لمحاربة الرشوة الى اليوم الوطني للبيئة ثم للمرأة  ثم … فأسبوع الفرس وهلم جرا أياما وأسابيع تستحضر كلَّ الكائنات وتُكرِّمها إلا ذلك الأستاذ كان غائبا عندما كانت توزع أيام السنة . 

     لقد حولت المهنة “الشريفة ” أستاذنا الى موظف متهم تتربص به أعين الأهالي ، تراقب تحركاته في الصباح والمساء ، تنظر اليه كوكالة بنكية متنقلة ، وحينما تراه يمشي في السوق ليتسوق الطعام له أو لأهله ، تبادره بالسؤال الوجودي الماكر : هل أنت في عطلة أم في إضراب ؟ يبتلع المسكين ريقه وقد يبتسم ابتسامة بلهاء دون أن يجيب لأنه أدرك ، من كثرة أسئلة الفضوليين ، أنها أسئلة تمهيدية للدخول في تفاصيل هو في غنى عنها .

  أما الصحافة بأنواعها ، فقد استنفرت كل وسائلها و إمكانياتها : كاميرات / أقلام / عملاء .. لتُحول البراءات الى إدانات في حق مربٍّ ينظر الى تلامذته كأبناء . لقد أصبح المسكين موضوعا دسِما لقُصاصات الأخبار ومادة إشهارية للرفع من مبيعات الصحف : أستاذ يتحرش بتلميذة في عمر الزهور …. اغتصاب تلميذة على يد أستاذها … أستاذة تقتلع أسنان تلميذها … ضبط أستاذ يتاجر في المخدرات … اتهامات بالجملة تجد طريقها الى النشر فتنتشر مدويةً  كما تنتشر النار في الهشيم ، فيضيع صوت البراءة وسط أبواق الدعاية المغرضة . 

  هذا هو واقع المهنة كما عشته و قرأت عنه ، لقد نجحت السياسات التعليمية المِزاجية المتبعة في تلطيخ سمعة النخبة التي طالما حملت عبء التنوير وحلمت بالتحليق بالوطن في عالم الرفاه والمثل العليا . لقد عملت دون كلل على كسر شوكتها بشتى الطرق ، بالترهيب والترغيب :

  • زرعت بذور الفتنة فيما بينها بالعمل على تفريخ النقابات وتوفير حضانات لنموها …
  • استمالت “المشوشين” و قلدتهم أوسمة التفرغ النقابي ، فنفضوا أيديهم من هموم إخوانهم و انخرطوا بكل همة يقايضون على المصالح العامة في سوق الزبونية والمصالح الخاصة …
  • مزقت أوصال البرامج التعليمية حين فتحت أمام المتعلم مسالك ودروباً ومتاهات ينتقل عبرها باحثا عن شهادة قد يحصل عليها وبذمته ديْن وحَدة Module أو وحدتين .
  • مرَّغت هيبة ووقار التعليم و رجالِه في الوحل بإقحام “فعاليات المجتمع المدني” ، الذين لا علاقة لهم بالتعليم ، في تدبير الشأن التربوي من خلال المجالس الصورية (مجلس التدبير / مجالس الجهة …) ، فعثوا في جسم المنظومة التربوية نهشا وتخريبا .

اغتالت أحلام الترقي والطموح الى الأرقى في نفوسهم من خلال فلسفة “الكوطا” و “التمييز” بين الموظفين في الحقوق والواجبات …

4 تعليقات
  1. إدريس باموح يقول

    تحية عالية للأستاذ عبد الكريم. كلمات و تأملات جد قيمة.. انصبت كلها حول لب الإشكالية التي تنخر جسد التعليم ببلدنا الحبيب.
    قدمت لنا في البداية تلك الأحلام الجميلة التي كان يحلم بها العاطل عن العمل و الطالب الذي كرس حياته للدراسة تاركا و راءه عائلة لكي ينقذها من اعتداءات الفقر. لينتقل بعده إلى الطالب الأستاذ الذي يَدرُس في مراكز التكوين، و لذي تتقادفه كل البيداغوجيات بشتى تلاوينها، وهو تائه بينها. لكن مع ذلك يستمر في بناء أحلامه الوردية.. و القناعة تم على المشاركة في تحسين مستوى التعليم ببلدنا، و يتذكر قولة ربما لأحد المكونين: أنتم الشباب من يستطيع تغيير وضع التعليم. و يستمر في بناء أحلامه إلى جانب تحسين وضعيته المادية بطبيعة الحال.. و في الأخير يدخل لميدان العمل ليتنتهي الحكاية…
    تحياتي لك مرة أخرى.

    1. كريم غبالي يقول

      تحية أخي باموح ، شكرا على التعليق ، وجعل الله مسارك في المهنة مفروشا بالورود وان كنت على يقين ان هذه الورود مستحيلة ان لم يتم سقيها بدماء المقاومة والتحدي والنسيان …نسيان الكلمات الطائشة التي تصدر من هنا وهناك داخل الصف …

  2. ali baba يقول

    تحية عالية للاستاد الفاضل.لقد تالمت بقدر تاملاتك و تشخيصك بحال التعليم و الاستاد,اما اعلام هدا الزمان او قل الاقلام الماجورة المبصبصة للساسة تملقا و تزلفا, فقد فقدت ادنى الاخلاقيات و داست كل مواثيق الشرف فزيفت وعي الجماهير و نشرت الاراجيف ,,و اما التعليم فصار يفتي فيه رجل الشارع,,,وإن الحقيقة التي لا يمكن أن نغفل عنها هي أن المعلم متى كان مقدرًا وظيفيًا، وممكنًا من الأدوات التي تسهم وتعزز دوره التعليمي والتربوي من خلال المؤسسة الراعية له، ستجعل أي تأثير خارج المنظومة من السهل التعامل معه وبمقدور المجتمع التربوي رفضه، وبالمقابل فإن الشعور بعدم التقدير من الجهة الحاضنة هو أشد تأثيرًا على المعلم ,,,

    1. كريم غبالي يقول

      تحية عالية للاستاذ الكبير بابا . رغم المعاناة هذا قدرنا وسوف ينبلج الصبح عن يوم سعيد عندما نرى ما زرعناه ورودا يانعة في كل مكان . نحن ندق النواقيس فقط عل الرسالة تصل الى ذوي الاختصاص

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.