مقومات البعد الترابي بين رهان الفعالية و عمق الاختلالات القانونية ( الجزء الأول )

0 1٬210

إن تعدد و اختلاف الحاجيات الإنسانية في مجتمع ما يتطلب تدخل سلطة معينة لضبط هذه الحاجيات و تنظيم تدخلات و خيارات الأفراد و الجماعات و تصريفها وفقا لما تتجه إليه مصلحة الجميع، و إذا كان من المسلم به أن السلطة المركزية هي القادرة و المؤهلة على احتواء و تأطير مثل هذه الوظائف فإن منطق العمل و متطلبات المصلحة العامة تفرض على السلطات المركزية التنازل على جزء من اختصاصاتها لصالح مجموعة من الفاعلين على المستوى الترابي وفقا لما تقتضيه الأوضاع القانونية، و في هذا السبيل يبرز البعد الترابي كفاعل موازي لعمل الفاعل المركزي من خلال رسم السياسات العمومية و تدبير الشأن العام على المستوى الترابي. و عندما نخص بالحديث البعد الترابي فالأمر يشمل بالضرورة سياسة اللامركزية و عدم التركيز الإداري باعتبارهما يمثلان القنوات الرئيسية لتصريف الشؤون المحلية في علاقة الدولة بالمستويين المذكورين، إلا أن فعالية الخدمات العمومية التي تقدمها وحدات اللامركزية وعدم التركيز الإداري غالبا ما يصطدم بجملة من العراقيل التي تؤثر سلبا على جودة هذه الخدمات، ويرجع ذلك بالدرجة الأولى إلى النص القانوني باعتباره المرجعية التي تتأسس عليها مختلف التدخلات العمومية.

مكونات البعد الترابي، و سؤال الفعالية.

كما أشرنا في مقدمة هذه المقالة، فإن حجم اختصاصات السلطة المركزية و كثرة المسؤوليات فرض على هذه الأخيرة تحويل جزء من صلاحياتها لوحدات ترابية أخرى لممارستها وفقا لما تقتضيه مصلحة الأفراد و الجماعات و نقصد وحدات اللامركزية الإدارية و عدم التمركز الإداري.

  • وحدات اللامركزية الإدارية كفاعل في رسم السياسات العمومية.

لا حاجة هنا للتفصيل في مفهوم اللامركزية الإدارية و تطورها التاريخي، لذا يكفينا أن نقول بأن القرار يتخذ في المستوى اللامركزي، و بما أن السياسات العمومية الترابية هي قرار صادر عن هيئة عمومية لامركزية يحدد برنامج معين من خلال مراحل مختلفة و يستهدف الإجابة على متطلبات و حاجيات معينة، فإن نظام اللامركزية أيضا بمثابة قرار صادر عن الهيئات المركزية تعترف من خلاله بالشخصية المعنوية و الاستقلال الإداري و المالي لمستوى ترابي ما أو مرفق عام معين من أجل تغطية حاجيات عامة على المستوى الترابي، و عندما يتعلق الأمر بوحدات اللامركزية الإدارية و إشكالية رسم السياسات العمومية  تثار بعض التسؤلات من قبيل :

  • هل وحدات اللامركزية الإدارية قادرة فعلا على رسم سياسات عمومية ناجحة و اتخاذ القرار لذلك ؟
  • هل للقرار اللامركزي المنتج للسياسات العمومية منطق و آليات اشتغلال خاصة به في استقلال عن منطق و آلية اشتغال القرار العام الذي يبلور السياسات العامة الوطنية و المركزية ؟
  • هل المتاح من الموارد المادية و البشرية كاف لتمكين وحدات اللامركزية الإدارية من بلورة سياستها العمومية ؟

لعل محاولة الإجابة على مثل هذه التساؤلات يدفعنا إلى البحث في أسس و مرتكزات وحدات اللامركزية الإدارية بمختلف أصنافها سواء التي تندرج في إطار اللامركزية الترابية أو الإقليمية ( الجماعات الترابية )، أو اللامركزية المرفقية أو المصلحية ( المؤسسات العامة المحلية ) في مجال رسم السياسات العمومية على المستوى اللامركزي. إن المتمعن في مختلف النصوص القانونية التي تنظم اللامركزية الإدارية بالمغرب يخلص إلى أن المشرع  منح للوحدات الإدارية اللامركزية مجموعة من الأسس القانونية التي تعتمدها مرجعا لمختلف تدخلاتها:

  • المرجعية الدستورية لعمل الوحدات اللامركزية.

تجد الوحدات الإدارية اللامركزية أساسها الدستوري في فصول مختلفة من الدستور، حيث نص الفصل الأول من دستور 2011 على أن ” التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لامركزي…” ، كما نص الفصل 135 على أن ” الجماعات الترابية للمملكة هي الجهات و العمالات و الأقاليم و الجماعات…” ، إن التنصيص على هذه الوحدات الإدارية في نص الوثيقة الدستورية يبين المكانة المهمة و الأساسية لهذه الأخيرة كمكون و فاعل محوري في التنظيم الإداري المغربي، كما يعطي لعمل هذه الوحدات شرعيته الدستورية باعتبارها هيئات عمومية مكرسة دستوريا، كما تمت دسترة مجموعة من المبادئ التي ستمارس بناء عليها  اختصاصاتها خاصة و المتمثلة في مبادئ التدبير الحر و مبدأ التفريع.

  • منحها السلطة التنظيمية

بغض النظر عن الإشكالات التي يطرحها مفهوم السلطة التنظيمية و المرتبطة أساسا بالوحدة /  التعددية / سيادة الدولة، فمنح السلطة التنظيمية لهيئة عمومية معينة يفيد قدرتها على التقرير ووضع قواعد عامة و مجردة و مستقلة لتنظيم مجال معيين، و في هذا السياق تنص الفقرة الثانية من  الفصل 140 من الدستور ” تتوفر الجهات و الجماعات الأخرى في مجالات اختصاصاتها و داخل دائرتها الترابية على سلطة تنظيمية لممارسة صلاحياتها “، فبناء على هذا المقتضى الدستوري يمكن الحسم في مسألة وجود السلطة التنظيمية من عدمها، و بهذا نقول و استنادا لهذه الآلية المخولة للجماعات الترابية سيمكنها مبدئيا من بلورة سياسات عمومية خاصة بها في مجال معين، كما تتولد قناعة عامة بوجود مجال محفوظ للجماعات الترابية من خلال التقسيم الإداري يجعل منها آليات تتوفر على هامش كبير لتدبير الشأن العام المحلي من خلال سلطة اتخاذ القرار ووضع سياستها العامة المحلية في استقلال عن تدخل المركز و ليس مجرد امتداد طبيعي و جغرافي للهيئة المركزية.

     توفير الوسائل المادية و البشرية

إن تفعيل الاختصاصات المخولة للجماعات الترابية و المؤسسات العمومية المحلية رهين بتوفر الموارد المالية و الأطر البشرية الضرورية لذلك و في هذا السياق نص الفصل 141 من الدستور على أنه ” تتوفر الجهات و الجماعات الترابية الأخرى على موارد مالية ذاتية و موارد مالية مرصودة من قبل الدولة…” ، إلا أن هذا لا يمنع من التساؤل عن مدى كفاية هذه الموارد في تمويل المشاريع و السياسات العمومية على المستوى اللامركزي، إلا أن واقع الحال يبين قصور الموارد المتاحة للجماعات الترابية  في تنفيذ برامجها التنموية خاصة تلك المنصوص عليها في قانون الجبايات المحلية، مما يفرض التدخل و معالجة هذا الوضع المتسم باللاتوازن بين ضخامة المشاريع التنموية وضعف الموارد المالية المخصصة لتنفيذها من خلال تقوية النظام المالي للجماعات الترابية، كما يتطلب الأمر توفرها على نخبة مؤهلة إيدولوجيا و عمليا على اتخاذ القرار على المستوى اللامركزي و بلورة السياسات العمومية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.