نحن شعوب لاتعيش الحياة بحب!!
-“إني أفكر في الهجرة إلى أمريكا
سألته مندهشة :
-أمريكا..لماذا أمريكا؟
-لأنه،في استطلاع أخير،جاء أن الأمريكي هو أكبر مستهلك لكلمة”أحبك”.تصوري أنه يلفظها بمعدل ثلاث مرات في اليوم،كأنه يتناولها مع وجباته الثلاث.أريد، أن أهاجر كي أسمعها ولو مرة في حياتي.هنا قد يموت المرء ولايسمعها حتى من أمه برغم أن كل شيء يشي بحبها له…”(أحلام مستغانمي :الأسود يليق بك.ص-36).بإيحاءات هذا المقطع،رصدت الروائية مستغانمي، الحلقة المغيبة، بين طيات جغرافيتنا العربية المثقلة بالعنف الرمزي والمادي،هي السهل الممتنع، أو ذاك الوهم الكبير في حياتنا،فنظن أننا نحب مانقدم عليه ،دونما حاجة إلى الإفصاح عن ذلك لغويا وبصوت جهوري،لكن سرعان ما يتضح أننا فقط نتوهم ،مادمنا نتمثل الحياة مع النظام العربي الرديء ، تحت وقع الجبر والاضطرار والاقتضاء واللزوم، باسم مجتمع ليس بالضرورة على صواب، واحتراما لما جرى من العادة والمعتاد.
صحيح،لا ننتبه إلى هذا الجفاف الجواني ومن تم اللغوي فالعلائقي والحياتي،فلا نعلن بأريحية عن مانضمره بكلمتي أحب أو لا أحب،بالتالي أريد أو لا أريد،مما يجسد بكل وضوح حقيقيتي، ككائن مكتمل التحقق:أحب نفسي،وزوجتي والآخر والمجتمع وعملي،أحب هويتي بتعدديتها وماضي ومستقبلي،إلخ،الحب كإحساس صادق منطلقه الحرية ومنتهاه الإرادة.
بدل هذه الكلمة التي تختزل كلية الجوهر الإنساني،بناء على كونه تحققا حرا،منفتحا على ماهيات لانهائية،فإننا تحت سقف الجغرافية العربية المسربلة بالإكراه،لا نختار مانريده، لكننا مجرد موضوعات، لما أريد لنا،فتنتهي الأغلبية الساحقة إلى مقت نفسها ومجتمعها وآخرها وحالها الفائت والآني والمحتمل،مما يشرح في جانب كبير،مآلات الجنون التي تسود مناحي يومياتنا،نستيقظ وننام على القتل في أبشع تشكلاته.
علاقة العربي بالسلطة السياسية، قهر وامتثال وخوف وبهتان لاغير،وبالمجتمع عادة،وبالدين طقوس عامة مكرورة،وبوالديه واجب ديني قبل أن يشكل حبا في ذاته،وبزوجته فقط حزمة أولاد وتبلور لحس مهووس بفحولة فولكلورية،وبوظيفته لقمة خبز ومصدر للعيش وبالآخرين مصلحة،إلخ،بمعنى غياب للحب بكل مساحاته وحلول للإكراه والإرغام،فكان التطرف وتقهر ذكاء المجتمع وارتفاع نسب الفشل الزوجي واستفحال الشيزوفرينيا الأسروية،كما أن سقف إنتاجنا الفردي والقومي،يعتبر الأضعف عالميا مقارنة مع الغربيين والآسيويين،لأننا لانفعل مانحبه. ،النتيجة، لن نحب ماأرغمنا على فعله.
صدفة، يصبح هذا الشخص زوجا وأبا،والصدف وحدها ستتلقف ذاك الطفل،مادامت الأوطان العربية رهينة الصدفة وحدها،ثم يتدرج مراحل عمره الأولى بالصدفة،أنظروا كم هي شوارعنا حبلى بأطفال ! لايعرفون من أين أتوا وماذا ينتظرهم؟ سيحتل هذا الموقع أو ذاك بالصدفة،المهم قد يكون أو لايكون؟لذلك،فنحن أكثر الشعوب التي يتداول أعضاؤها خلال الوجبات الثلاث،مصطلحات الحظ، وفي أحسن الأحوال القدر،وأول مجموعة بشرية تراهن في سعيها على الصدفة وضربات العصا السحرية،ربما لأن واقعنا المادي نفسه،قلب المنطق الواقعي لصالح آخر سوريالي :بإشارة صفقة هلامية تغدو غنيا،وبجرة مكالمة تلفونية تصبح مسؤولا مهما ،وببهرجة دعائية يتم تكريسك رمزا أسطوريا. كم، في المنطقة العربية المشبعة عنفا،من يعلم منذ صغره ما يريد، فتأتى له فعلا إدراك ما أراد؟النتيجة، قلة قليلة جدا،من تمارس لدينا الحياة بحب،بحيث ترى ماتريد وتحقق ماتريد.
الإنسان حالة ورغبة،حب يريد وإرادة عاشقة،أي الشخص في صدقه ووضوحه وانسجامه الذاتي مع قناعاته،فيكون السياسي حالة والمثقف حالة والمواطن عموما حالة،هكذا تتلاشى الهوة السحيقة التي تكلست مع ثقافات التنميط ،بين الإنسان كحالة،وهو الوضع الأصلي، الشفاف،ثم الإنسان باعتباره زيفا لغويا،لاأقل ولا أكثر.ينبغي عليه أولا،أن يحب نفسه ووجوده ومشروعه في الحياة،كي يستطيع إغناء الآخر ومحيطه ومجتمعه والعالم قاطبة،بمشاعر الحب.
لامكان للمصادفة ضمن مدارج الحب،لأنه نوتات موسيقية موزونة على إيقاع الطبيعة.الحب ،بناء متماسك جدا، ذكاء عاطفي، في غاية التركيب المنطقي المنسجم.لذا، حينما تحب شيئا، يستحيل عليك قطعا أن تكرهه،فتنتصرلديك تطلعات الحياة على ارتدادات الموت.
-عندما يحب زوج زوجته،وكان زواجهما حبا،وليس لأن صدفة من الصدف أرادت لهما أن يتزوجا،بالتأكيد سينجبان طفلا،يعكس نتيجة إيروسية لحبهما المتبادل،وليس لأنهما اضطرا للزواج والإنجاب تحت طائلة القيل والقال ومحاكم التفتيش،المؤثثة لمنظوماتنا وأنساقنا التربوية المتآكلة.إن طفلا،هو ثمرة حب،لن ينمي حتما، سوى كائن سوي من الناحية السيكولوجية.داخل مجتمعاتنا المترهلة رقابة وتلصصا،فالناس لاتتزوج مثلا عن حب،بل كي تشرعن الجنس في مناحيه البيولوجية الفيزيقية،سواء حضر الحب أم لم يحضر، مع أنه فيزيقا وميتافيزيقا وإيتيقا،جسد وروح،وجيولوجية نوعية للمجتمع.
-عندما يحب الطفل المدرسة في ذاتها،فهو حتما مشروع عالم،وليس مجرد شخص،التقط سريعا معلومات من هنا وهناك،فيغادر المدرسة، سعيا وراء إقرار مؤسساتي،لذلك اندثر أفق العلماء في منظوراته الشمولية،أمام مقتضيات أداتية جد تقنوية،في غاية البؤس والفقر المعرفي.
في السياق نفسه،نلاحظ بأن الاعتراف بالحب بقول “أحبك”،يصعب حتى على أفراد الجماعة المصنفة ضمن النخبة،المنتجة للأفكار والمتموقعة اقتصاديا ومجتمعيا،الداعية باستمرار إلى فلسفات للفرد.فالكلمة الخفيفة على اللسان والثقيلة في ميزان البناء المجتمعي،ستتوارى لديهم وراء ستائر اللغة،بالهروب إلى تعبيرات اللغات الأجنبية،لاسيما الفرنسية والانجليزية،بدعوى أن العربية عاجزة دلاليا عن نقل وإيصال الشحنات العاطفية والوجدانية،مع أن الأمر ليس كما يدعون، بل يتحايلون على المكاشفة المباشرة.الالتجاء،إلى التعبير بلغة غير اللغة الأم،عن مفهوم يعتبر أول جسر نسلكه نحو العالم،من خلال حب الأم ،يماثل الاستعانة ببلاغة التورية والتضمين.
طبعا،قد يرد قائل،بأن المهم ليس التصريح بما يجول في الخاطر،لغويا،لكن تكفي دلالات الإيماءات والإشارات وعضلات الوجه وبريق العين وازدياد ضربات القلب… .لانختلف،لكن كل ذلك في جهة،وكلمة أحبك السابحة في الهواء، وحدها تطوي مختلف الجهات.