مذكرة هامة
وضع أمامه بريده الذي يتولى شخصيا نقله من الادارة المركزية ، وكعادته مسح ورقة المرفقات التي على ظهر البريد بعينيه ، فاستوقفته كلمتا ” هام جدا ” ، تجمدت عيناه بشكل آلي عند الكلمتين ، وهو يعض شفتيه بحركات متسارعة ، فبدأت الأسئلة تتهاطل على رأسه :
– أتكون مذكرة توبيخية له على تقصير في أداء المهام ، وهو بحسب إيمانه من السباقين الى تنفيذ كل ما ينزل عليه من الأوامر ؟
– أتكون مذكرة منظمة لعلاقته بمرؤوسيه ؟ …
وقبل أن تستأثر به الأسئلة وتستولي عليه الشكوك ، امتدت يده تلقائيا الى آلة فك المقابض فانشغلت بفتح الظرف السمين ، ثم بدأ يستخرج أحشاءه في حركة لا تخلو من ارتباك خوفا من مفاجأة غير سارة . ولكنه يحاول أن يخفي هذا الارتباك بتلك الصرامة التي يتصنعها في مثل هذه المواقف وهو يمسك بالفك العلوي للظرف بكل قوة .
انتزع المذكرة ” الهامة جدا ” من بين المحتويات ، والتقط قلم الحبر ودون أن تفارقه الدهشة شرع في التهام الكلمات في قراءة أولية قبل أن يعود في القراءة الثانية الى التسطير تحت العبارات الهامة ، ولن تجد صعوبة لترى ذلك التحول الذي طرأ على الرجل لو عاينته وهو يفتح الظرف والحالة التي اصبح عليها الآن ؛ صعدت من صدره تنهيدة محملة بعبء ثقيل وانفرجت أساريره وعاد الدم ليملأ محياه ، تمنى لو يصرخ ليشرك العالم في سعادته ، وانتقل بحيوية زائدة من مكتبه الى حيث خزانة الوثائق الادارية ، ثم استوى على كرسيه وهو يفرك يديه كمن يستعد لتناول وجبة شهية ، وردد كلمات : هي القاضية ، هذا ما يجب أن يكون لضمان السير العادي للمـؤسسة ، كانت فرحته لا تـوصف حتى أنه حين دخـل عليه أحـد المـوظفين وحيـاه ، رد عليه بكلمة ” القاضية ” قبل أن ينتبه ويعتذر محاولا صرف انتباهه بحديث عن البرد والحرارة والتقلبات الجوية التي أصبحت تميز العالم .
وقبل أن يفتر عزمه وتتلاشى همته استدعى طاقمه الاداري على سبيل السرعة لوضع الخطة المناسبة للتفعيل المستعجل ، ولم يكن مطلوبا غير عقد لقاء لإطلاع بقية الموظفين بفحوى المذكرة “الهامة جدا ” لذا أسرع الى توزيع مذكرة داخلية تدعو الى اجتماع مستعجل ، وقد حرص على كتابتها شخصيا ليضمنها كل الالفاظ التي يجب ان يقرع بها آذان الموظفين :
” الموضوع : اجتماع للاطلاع على مذكرة هامة جدا .
…. ونظرا لما لهذه المذكرة من أهمية في ضمان السير العادي للعمل بالمؤسسة … وحرصا على مصلحة المؤسسة … وتفعيلا لمبدا التراتبية ، فإننا ندعوكم لحضور اجتماع مساء هذا اليوم . وحضوركم ضروري ومؤكد . رئيس المؤسسة “.
كانت كل كلمة في الدعوة تصرخ بالديكتاتورية والأنانية المفرطة . وتعمد أن يكون الإمضاء بخط مضغوط ، وكأنه اكتشف أخيرا أنه رئيس للمؤسسة بالفعل ، وأن السنوات الماضية كان فيها مجرد موظف يؤدي دوره كوسيط بين الإدارة المركزية وبقية الموظفين .
ولم يخف كل من اطلع على هذه المذكرة الداخلية استغرابه وتشاؤمه للسرعة التي جعلت رئيس المؤسسة يدعو الى عقد لقاء ؛ وبهذه اللغة الجديدة ، هو الذي كان يعلن عن مثل هذه اللقاءات قبل أيام من تاريخ عقدها ، فماذا حدث ؟ كل المؤشرات تنذر بحدث جلل برتبة قنبلة .
كان السيد الرئيس هذا اليوم في أوج حيويته ونشاطه ، أشرف على عدة مهام غالبا ما يكلف بها الأعوان دون حاجة لحضوره : تنظيف القاعة وتنظيمها ، تغيير المصابيح المعطلة …وخلافا لكل الاجتماعات السابقة أصر على وضع بساط أخضر على المنصة التي سيكون في صدرها بعد قليل ، ولم يدخر أي جهد لتبدوَ في أحسن حالة فقام بإحضار مزهرية من بيته ، وضعها بعناية في المقدمة وعلى يمينها ويسارها قنينات الماء المعدني ، ثم تذكر بأن المقام يستدعي مكبرا للصوت ، لحاجة في نفسه ، فاستدعى تقنيا أسرع الى تجهيزه … كان الرئيس يقف عند كل كبيرة وصغيرة ولا يتردد في إبداء ملاحظاته ؛ ملاحظات تافهة في أغلبها ولكنها تشعره بأنه موجود ، يؤدي دوره كرئيس .
بعد لحظات سيفتتح الاجتماع ، كل الموظفين حاضرون خارج القاعة في حلقات متفرقة ينتظرون عودة الرئيس الذي لم تمض على مغادرته غيرُ ساعة . كل العيون تتساءل في حيرة عن السر وراء هذا الاستنفار الذي جعل المؤسسة ترتدي حلة بهية : كانت التخمينات كلها تصب في فكرة واحدة لا تنازعها أية فكرة أخرى ؛ سنستقبل شخصية رفيعة المستوى من الادارة المركزية ، فالماء والورد والبساط الأحمر والفرح لا تكون إلا لشخصية رفيعة .
وفي غمرة التساؤلات والتخمينات المشروعة والغير المشروعة ، ظهر السيد رئيس المؤسسة من وراء الجدار الذي يفصل باب بيته بالمؤسسة ، شخصا آخر يرتدي ملابس جديدة كأنما اقتناها للمناسبة ، وحتى ربطة العنق التي لم يكون يضعها ، هاهي تتدلى من رقبته منسابة على بطنه ، وبين الحين والآخر يمرر عليها راحته والابتسامة لا تكاد تفارق محياه … ولم يفته بهذه المناسبة أن يتعطر بعطر قوي يهاجم الأنوف وينعش فيك الاحساس بمعنى الحياة السعيدة …
بعد تحية الحضور بكلمات فيها الكثير من المجاملة ، التي لم تخلُ من إشارات الى بداية حقبة جديدة ، أعطى الكلمة لأحد الأعوان الاداريين لقراءة فحوى المذكرة “الهامة جدا “
كان القارئ يتلو الفقرات بشكل عفوي، غير أن الرئيس لم يُخفِ امتعاضه من هذه القراءة الباردة ، من خلال قسمات وجهه التي تنقبض بين الحين والآخر ، بل إنه كان يحرك رأسه في إشارة الى عدم الرضى ، وهو يجيل بصره بين الحاضرين ، كأنه يشهدهم على هذه الرداءة في الالقاء ، كان ينتظر خطبة عنترية تهتز لها أركان القاعة وصوتا جهوريا يقتحم القلوب فيأسرها ويرعبها . لذا كان يتدخل مقاطعا القارئ ليكرر العبارات التي سبق أن وشمها بقلم الحبر اللماع : ” يقوم السيد الرئيس نهاية كل دورة بتقييم أداء الموظفين ” كان يكرر هذه العبارة ويضغط على حروفها كأنه يخاطب أطفالا صغارا ، حتى ليخيل لمن يستمع إليه لو يردد الحضور خلفه هذه العبارة … ثم يسترسل كخبير في القانون في شرح البند وتوضيحه مبرزا الصلاحيات التي انتزعها بفضل هذه المذكرة “الهامة جدا” .
– “يقوم السيد الرئيس نهاية كل موسم بتقييم سلوك الموظفين وتنقيطهم …”
التقط الرئيس العبارة ورددها بصوت متقطع ثم شرع في التشريح والتفصيل ، وحين لاحظ أن الحضور بدأ يتبرم مما يسمع بدأ بالوعيد : المذكرة قابلة للتنفيذ من اللحظة ، من اليوم قبل الغد ، لقد ولى زمن التهرب من المسؤولية ، دقت ساعة المحاسبة والجد ، مصير انتقالك بين يدي ، ترقيتك بيدي ، حياتك بيدي … كان ينتظر فقط هذه اللحظة ليثور في وجه الموظفين الذين يُخيل إليه أنهم لا يوفونه الاحترام اللائق به كرئيس . ولا شك أنه تذكر أحداثا كثيرة تجرعها بمرارة و خلفت في حلقه غصة ، وفسرها على أنها تصرف لا يليق بمركزه كرئيس .
مد يده المرتعشة الى القنينة وشرب كأسين من الماء ثم عاد يأمر القارئ بمتابعة القراءة وفي نفسه إحساس بالنصر في نزال لم يكن يتوقعه ، ولا حتى تخيله في أسعد أيامه .
– “لم يبق أي حرف من المذكرة إلا ملاحظة كتبت بخط باهت في أسفل الصفحة ” قالها القارئ وهو ينظر الى رئيسه .
وكمن يريد المزيد من الترسانة القانونية لتوجيه الضربة القاضية للخصوم صاح في وجهه :
– لا تدع أيَّ حرف من المذكرة ، لقد وردت تحت عنوان “هام جدا ” أتفهمني ، أيَّ حرف …
انحنى القارئ على الأوراق التي بين يديه وجاء صوتُه متقطعا كمن يغيض عدوا :
– ” يؤجل … تنفيذ …المذكرة …الى …غاية …اتفاق …الأطراف …المعنية …على فحواها “
ضجت القاعة بهمسات الموظفين وضحكاتهم ، فسُقط في يد الرئيس وعقدت الصدمة لسانه ، وكمن يريد تضميد الجراح ، ردد وهو يفك ربطة عنقه :
– مذكرة هامة مع وقف التنفيذ ..
تحية للاستاد الفاضل ايت علي مقال جميل يصور رؤساء المؤسسات التعليمية كصبيان الافران قديما الذين يكلفون بايصال العجين الى الفرن و ارجاعه رغيفا مطبوخا الى البيوت ,,,و لا يحملون من صفتهم الا الاسم (مدير) طبعا مدير مع وقف التنفيذ,,,و حتى لا ابدو متحاملا فهم لا يدخرون جهدا في تعطير قذارات القطاع كي لا تؤذي الانوف و تلميع صورة المنظومة ,,,,دمت و دامت لك الصحة و العافية
تحية عطرة للاستاذ على بابا . تماما كما فهمت القصة من فيض ما ضاق به الصدر ذات يوم