سجين أنا بين دفتي لبوليكوب(1)
أنا طالب أدرس، لا يهم في أي مستوى أدرس، انتقلت من الثانوية الى الجامعة، هذه الأخيرة أجهل عنها كل شيء، انتقلت اليها بلا زاد معرفي، كشخص وضعناه في يم شاسع وأمرناه بالسباحة، لا شك أنه إن لم يغرق فسيخرج مشوه الملامح، طالب حصل على شهادة الباكالوريا بالغش والاحتيال، بل تجرأت وهددت الأساتذة المراقبين بالويل والثبور إن هم منعوني من ” نقيل”، بل هناك من أصدقائي التلاميذ من اعترض طريق الأستاذ المراقب ورماه بالحجارة حتى شج رأسه لأنه أراد أن يقوم بواجبه.
الجامعة ذلك المجهول الذي تحن النفس الى خوض تجربة اكتشافه، ذلك المجهول الذي أسير اليه بلا بوصلة حقيقية، أسير اليه كأعمى لا يملك عصا تدله على الطريق الصحيحة، حتى لا يسقط في حفرة ينكسر بسبب هذا السقوط عموده الفقري، وبالتالي الشلل المحقق والنهائي، وللأسف أغلب الطلبة لا يملكون هذه العصا، اذ أنها تتمثل في التوجيه الصحيح الذي يمكن أن يعينهم في الأخير على تحقيق ما يصبو اليه كل واحد منهم.
من فضلكم أيها القراء لا تسألوني عن الطريقة التي اعتمدت عليها في الغش خلال الامتحان، لأن أغلبكم قد انتقل الى الجامعة بنفس طريقتي، وهناك من أصبح يعتمد على طرق جد متطورة من خلال أجهزة تجيب بطرق آلية على الامتحان، بل إن جيشا من الأشخاص أصبحوا يقدمون الدعم الخارجي للممتحنين من خلال هذه الوسائل، إذ قد تجد تلميذ قد خصص لكل مادة من مواد الامتحان شخص يزوده بالأجوبة، وهكذا أصبح النجاح هو الهدف وليس التحصيل العلمي والمعرفي.
هذه الوضعية دفعتني مرارا الى طرح التساؤلات التالية: أين الدولة مما يقع؟ اليس من مسؤولياتها النهوض بالتعليم؟ اليس من مسؤولياتها وضع دراسات ومخططات الهدف الحقيقي منها الدفع بالتعليم الى مصاف الدول المتقدمة؟، لقد مات من سئل عن التعليم في بلادنا فأجاب إجابة معبرة منطلقة من دراية عميقة وفهم حصيف لمجريات الأمور قائلا إن “هذا التعليم ما هو الا كارثة وطنية لن تظهر مخلفاتها الا بعد مرور عشر سنوات” وها نتائج هذه الكارثة الوطنية بدأنا نتجرعها نحن اليوم كسم عزاف، والدولة مكتوفة الأيدي، حائرة في كيفية انقاد هذا التعليم الذي لازال يضعنا في مستوى دول ليس لها ما لنا من مؤهلات وكفاءات من صومال وسيراليون ودول أخرى.
فوزراءنا الذين تعاقبوا على حقيبة هذا المجال الحساس والجوهري في بناء أي حضارة، كانوا منظرون أكثر منهم عمليون، مما جعل كل واحد منهم يقوم بهدم ما بناه سلفه ليبدأ من الصفر، كما أن أغلبهم ولوعوا بتجارب الغرب حتى لو كانت تجارب فاشلة لا تصلح حتى لتربية الكلاب فما بالك بتربية أجيال يعول عليها في الدفع بهذا الوطن المغلوب على أمره نحو التقدم والحضارة.
لقد تمكنت بوسائلي الخاصة من الوصول الى الجامعة دون زاد معرفي وفكري يؤهلني لمعرفة سر نجاح دول وسقوط أخرى، اخترت شعبة ليس لي أدنى دراية عن كنهها ولا ما يدرس فيها, فقط رأيت ابن الجران قد اختارها فاخترتها، عند قدومي للتسجيل وجدت على باب الكلية أشخاص يقدمون المساعدة والدعم المعنوي, يرشدون الطلبة الجدد للأكشاك المخصصة لكل شعبة، هؤلاء الأشخاص يختلف بعضهم عن بعض, فمنهم الملتحي, ومنهم من يرتدي سراويل طويلة على هيئة موظفي الإدارات العمومية ,ومنهم من يردد عبارة “الأخ الكريم”, ومنهم من يرتدي جلابيب وأقمصة طويلة تظهر عليه مسحة صوفية وذلك من خلال كلامه اللطيف.
لقد فجئت لتلك السمفونية الرائعة التي شكلتها الشعارات الرنانة التي كان يرددها أفرادا يشكلون حلقات متقاربة، ذكرتني بحلقات جامع الفنا، لم أكن أعرف ما سر تواجد هذه الحلقات في الجامعة بالضبط، وليس في الساحات العمومية التي يرتادوها السياح المحليون والغربيون، اعتقدت أنه أسلوب جديد في الاحتفال بالموسم الدراسي الجديد، لكن عرفت فيما بعد ماهية هذا المشهد وسر تشكله في الحرم الجامعي بالضبط.
أما السكن فقد كان أهم شيء شغل بال مختلف الطلبة الجدد قبل قدومهم الى المدينة المستقبلة، وخاصة لكون الكثير منهم أبناء البوادي والقرى المتناثرة على ربوع وطننا الحبيب، المهم حصلت على سكن وبدأت أتعود على الجو العام للكلية والحياة الجديدة التي بدأت أنخرط فيها، ورويدا رويدا بدأت أخرج من صدمة الطهطاوي الباريسية باكتشافي لعالمي الجديد.
اندهشت لتلك القاعات الكبيرة التي كانت ذات مدرجات كمدرجات ملاعب كرة القدم، ولذلك العدد الكبير للطلبة الذي يدرس في هذه القاعات، أما المحاضر فغالبا ما أكون بعيدا عنه لأن مختلف المدرجات القريبة منه قد تم حجزها من طرف طلبة سبقوني بزمن ميتافيزيقي طويل، فالمحاضر غالبا ما يكون رجلا -أو امرأة-بلغ من العمر عتيا دفعني سنه هذا الى طرح سؤال: من سيكون بديله بعد تقاعده أو موته لا قدر الله؟ هل سأكون أنا أو أنت أيها القارئ الكريم؟ لا أعتقد ذلك، فمستوانا الدراسي وزادنا المعرفي لا يؤهلنا لندرس مستوى الحضانة فما بالك بالمستويات الجامعية العليا، فأنا وأغلب القراء كنا ولا زلنا مسجونين بين دفتي «لبوليكوب” لا نتجاوزهما البتة.
وما أثارني كثيرا هو كون الكتاب يكاد ينعدم في المقررات الدراسية الجامعية ,حيث أن المحاضر ما إن تبتدأ الدراسة بأيام قليلة حتى يرشدك الى مكتبة من المكتبات المتناثرة على جنبات الجامعة لكي تقتني ملخص صغير بدأ يحتل مكانة الكتاب ويطيحه من على عرشه يسمى بلغة أجنبية أريد لها أن تحتل بدورها مكان اللغات المحلية ’’البولكوب’’ ,هذا المحتل الجديد ليس الطلبة من يقوم بإعداده حتى تكون الاستفادة أكبر وإنما الأساتذة المحاضرون من يسهر على اعداده وتقديم بالتالي للطلبة البلادة على طبق من ذهب.
نعم لقد اقتنيت الكثير من هذه لبوليكوبات ليس من أجل الاستفادة من المعلومات الفقيرة التي تحتويها بين طياتها وانما من أجل الاعتماد عليها في عملية الغش في الامتحانات اللاحقة، إنه الغش الذي نشأت عليه وسأظل أعتمده في مختلف مناحي حياتي لكوني ضعيف الشخصية وليست لي ثقة كافية في مؤهلاتي الفكرية والمعرفية والحياتية..أتدرون من أكون إنني طالب مسجون بين دفتي لبوليكوب وسأظل كذلك ان لم تتدخل الدولة لإنقاذي مما أنا فيه من تخبط وضياع ,انها واهمة هذه الدولة التي تعتقد أنها تستطيع أن تعتمد علي في الدفع بها الى التقدم و أنا أفتقد الى زاد معرفي يسمح لي بذلك.
يتبع