بعض مظاهر التضامن الاجتماعي بمجتمع الواحات
يعيش مجتمع الجنوب الشرقي المغربي حياة خاصة به تميزه عن باقي الجهات المغربية الأخر ى، فمن الناحية الإثنية والاجتماعية مثلا نجده تختلط فيه مجموعة من القبائل التي تختلف فيما بينها فهناك قبائل ناطقة باللغة العربية، ومنها الناطقة باللغة الامازيغية و الحسانية أيضا كما الحال مع قبائل “أعريب” و”أيت أوسى” في منطقة “تاكونيت” و”امحاميد الغزلان”، بل داخل القبيلة الواحدة نجد الاختلاف بين فخدات و أعراش ناطقة بالأمازيغية وأخرى ناطقة باللغة العربية أو بالامازيغية والحسانية و العربية، هذا الاختلاف أيضا لا يكمن فقط في اللغة أو اللهجة بل حتى في الفئات الاجتماعية، فالجنوب الشرقي يعرف تراتبا اجتماعيا واضح المعالم حيث نجد في أعلى الهرم في فترة من الفترات التاريخية فئة الشرفاء و المرابطين، كفئة دينية شريفية تدعي الانتساب إلى النسب الشريف وآل البيت، تليهم فئة العوام من العرب والأمازيغ، عرب المعقل وبني هلال و سليم، تم ايت عطا، ثم فئة الحراطين ذات الثقل الاقتصادي في الواحات و المرتبة الدنيا في بعد فئة العبيد و اليهود، لكن هذا الاختلاف لم يمنع قبائل الجنوب الشرقي من التعايش و التضامن و التكافل فيما بينها، و يظهر هذا التعايش خاصة في فترة الأزمات كما في فترة الأفراح و المسرات، وبعض العادات و الاحتفالات التي بقيت تقاوم رياح التغيير إلى اليوم، على سبيل المثال لا الحصر (عاشوراء، أو باينو و أباينو)، أين تتجلى مظاهر التضامن و التعايش هذه بين فئات مجتمع الجنوب الشرقي؟ ما الذي يفسر هذا التعاون و التكافل بالرغم من الاختلاف؟ ألا يفند هذا التعايش مسألة انغلاق بعض الجماعات و الفئات الاجتماعية على ذاتها في قبائل الجنوب الشرقي المغربي؟
نسعى من خلال هذا المقال إلى مقاربة بعض مظاهر التضامن في مجتمع الجنوب الشرقي، وخاصة في درعة الوسطى، حيث التكافل الاجتماعي يبقى من أهم ميزات هذا المجتمع، في شتى و مختلف مناحي الحياة، بالرغم من التطورات والتغييرات التي عرفتها المنطقة من بروز للفردانية أكثر وتوجه نحو الأسر النووية عوض الأسر الممتدة، فكما سبق أن أومأنا يبرز هذا التكافل أكثر في الأقراح و الأفراح و الأزمات كما حال المجتمع المغربي ككل، وقد اخترنا هذه الظاهرة الاجتماعية الكلية بمفهوم “مارسيل موس” لآنها تنتشر في معظم قبائل درعة، مع الاختلاف الطفيف من منطقة لأخرى.
من بين مظاهر هذا التضامن ما يسمى بعاشوراء أو ليلة عاشوراء، و التي أشار إليها أيضا محمد حمام في منطقة وادي دادس نموذجا[1] وهذا التضامن هو تضامن يخص الأطفال المراهقين أكثر، و هو يكون على شكل تقليد سنوي يتم في الليلة قبل عاشوراء، حيث الأطفال في تلك الليلة يتجولون عبر أزقة الأحياء و القصور مرددين جماعة بصوت عال أثناء تجوالهم هذا، أغنية عاشوراء الشهيرة في درعة مثلا ” بريانو بريانو بريانو واسكر عنو أعطيني شي ولا نكفح الزيت على كرشي” مع الاختلاف من منطقة إلى أخرى في هذه الأغنية، ومن قبيلة إلى أخرى أيضا، حيث يذهب الطفل إلى البستان لكي يأتي بعصا خضراء يقطعها من النخلة، ويأتي بها إلى أبيه لكي يهيأها على شكل جميل قابلة لكي تمسك باليد جيدا ويضرب بها الأرض و يردد الأغنية المشهورة هذه، وتسمى هذه العصا هي الأخرى “ببريانو” أيضا، ويتم في هذه الليلة صنع مجموعة من “القبعات” التقليدية بسعف النخيل تلبس للأطفال الصغار، من أجل الاحتفال بهم هم أيضا، كما أن عاشوراء تصادف فترة جني الثمور عادتا، حيث يقطع عرش النخلة ويصنع منه الأطفال لعبة تسمى محليا ” طرطراق”، يصدر صوتا قويا يرتد صداه على الأذن بشكل كبير، أما هذه الطوبنيميا فيتضح أنها تعود إلى طبيعة هذا الصوت لأن العصا تلتطم ببعضها البعض و تصدر هذا الصوت الذي يعرف محليا ” بالطرطراق” حيث من غير المسموح للبنات أن يلعبن به وإنما هذا من حق الذكور فقط، لاعتبارات اجتماعية و اعتقادية محضة.
نعود إلى ليلة عاشوراء، حيث يتجول الأطفال كما قلنا في هذه الليلة بين الأزقة مرددين هذه الأغنية، حيث تزودهم ربات البيوت بما طاب وتيسر لهم من الدقيق و السكر و اللحم المجفف، و الذي يعرف محليا ” الكديد” أو ” الكرداس” ويطلب منهم ربات البيوت أن يدعوا للمرضى بالشفاء و للنساء الحاملات بالولادة على خير ولمن لا يلدن بمولود قريب، وهكذا تستمر الجولة و التجوال مع القصر كله سواء كان صاحب المنزل فقيرا أو غنيا ولكن الكل يساهم مع الأطفال المراهقين على القدر المستطاع، وقد شاركت أنا أيضا في هذه الجولات منذ وقت ليس بالبعيد حتى سن السادسة عشرة سنة.
تنتهي جولة الأطفال في القصر في ساعات متأخرة شيئا ما بالنسبة لسكان للقبيلة، حيث ينصرف كل شخص إلى حال سبيله، و لكن في اتفاق بينهم على أن يجتمعوا عند أحد الأصدقاء في صباح يوم عاشوراء، لأن الطواف و جمع الزاد يكزن في ليلة عاشوراء، ويجتمعون في منزل كبير لعائلة ممتدة، لأن عدد الأطفال و المراهقين يكون كبيرا نوعا ما قد يتراوح ما بين ( 40 أو 50)، فردا، ويطلبون من إحدى فتيات القصر أن تهيئ لهم الخبز من الدقيق الذي تم جمعوه في ليلة الأمس، موازاة مع هذا يجتمع الشباب فيما بينهم لكي يقتنوا ما يحتاجون إليه، لتحضير مرق فهم يحضرون المرق بأنفسهم عادة، حيث يشتركون فيه جماعة، فهذا مثلا يأتي بالحطب و هذا تأتي بالصحن و هذا يأتي بالزيت و هذا يهيئ موقد النار…
كلن هذا وصفا مختصرا لما يحدث في ليلة عاشوراء في بعض قبائل درعة مع شيء من الاختلاف و التمايز بين قبيلة و أخرى، وإذا أردنا أن نحلل و نوضح أوجه التضامن من في هذا الطقس، حيث يتجلى هذا التكافل بشكل جلي فالاستعداد للجولة يكون جماعيا يشارك فيه كل الأطفال و المراهقين بشكل جماعي ويكون الاتفاق حول وقت محدد لكي يحضر الكل في الوقت، حيث يتجاوز الشباب الاختلافات و الصراعات في هذا اليوم.
[1] حمام محمد، بعض مظاهر التكافل و التضامن بواحات جنوب شرق المغرب واذي دادس نموذجا.