المغرب: تبخيس أفق المعرفة ثم هشاشة الأفق

0 433

قد يسارع أحدهم منذ البداية، إلى الإجهاز على المطلوب،مدعيا، أنه حتى فرنسا النموذج التاريخي الأمثل الأقرب لنا،كي نقزم ما أمكن الهوة بين الكائن والممكن،تعيش منذ حقبة ليست بالقصيرة،تراجعا فيما يتعلق بقوة نخبها الفكرية ومن خلفها السياسية.هكذا،إذا التقيت واندمجت حاليا في حديث ودي مع فرنسي،لنفترض تحديدا في عقده الخامس،فبالتأكيد، سيكشف لك عن حنين خاص إلى نوعية المدرسة، التي أفرزت جيل مابعد الحرب العالمية الثانية،متحسرا في المقابل،على ما آلت إليه حاليا،ثم يستدعي بلهفة حارقة الأجواء العلمية والمحددات السوسيو-ثقافية، التي عرفتها فرنسا طيلة عقود الستينات والسبعينات،ومدى إشعاعها فلسفيا وأدبيا،قياسا للتقهقر الآني.

بهذا الخصوص،قرأت منذ مدة ملفا أنجزته جريدة لوموند، عن دلالات المفهوم القديم-الجديد،المرتبط بالثقافة العامة،وانتباه المسؤولين الفرنسيين إلى حتمية إعادة وصل الأجيال الحالية المتراخية،بالأسس المتينة للتثقيف الموسوعي،كي يستعيدوا آثار المسالك التي أنجبت في السابق نخبا فرنسية عتيدة،لذلك يتحتم أيضا على المتبارين لولوج الأقسام التحضيرية،معرفة بنصوص بلزاك وروسو وسارتر… .

في المغرب ،لن يختلف شخصان،إلا الانتهازيين طبعا،والجوقة المنتفعة، بخصوص الترهل الفظيع للنخبة السياسية،المؤثثة لآليات المشهد،بحيث أريد لها قصدا،ثم أرادت طوعا، أن تكون ضعيفة ضعفا مثيرا للشفقة،مادامت تتباهى بإلقاء أشياء ، تدرك في قيرورة نفسها، أنها غير صحيحة،لايستسيغها عقل راشد وقلب سليم،ومع لعبة التكرار،تألفها صحيحة،مما يحدث لها نوعا من هذيان البارانويا،أي الانفصال عن الواقع.

بالتالي،مع انقراض السلالة الفذة لقادة الحركة الوطنية، من طينة علال الفاسي وعبد الله إبراهيم وانتهاء بجيل أبراهام السرفاتي،التي مارست السياسة كمبدأ ومفهوم وممارسة وحس ومشروع،وفي ظل ضحالة الممارسة السياسية المغربية الحالية،أتساءل من هم رجال السياسة،بناء على المنتوج القائم،المؤهلين مستقبلا كي توكل لهم مهمة تسيير دواليب الدولة،وقد امتلكوا ما يجب امتلاكه من الرؤى الاستراتجية والعمق الفكري والسياسي،كي يجيبوا على التحديات القديمة-الجديدة التي تواجه المغرب؟.

أتركونا من رحبة لغط عكاظ !التي نعاينها أمامنا،فهؤلاء يعيشون خارج منطق زمن،وغير آبهين بمنظومة عصر تتغير أسئلته بين الصباح والظهيرة.والله كم أضحك !حينما أسمع زعيما حزبيا،على سبيل الذكر، يبرر مثلا “تقليدية” ومن تم “تماسك” العلاقة الأمريكية –المغربية،و”التشبث الاستراتجي” للسياسي الأمريكي بالمصالح المغربية،لأن المغرب أول بلد اعترف باستقلال أمريكا!! .لا أعرف، ماذا سيقول البرتغاليون،في هذا الإطار،وكيف سيكون وضعهم ضمن تصورات ساسة واشنطن،مادامت جنسية مكتشف أمريكا “فاسكو دا غاما” تعود إلى البرتغال؟ هذه فقط جزئية صغيرة،أقرب ماتكون إلى الطرفة، ضمن نماذج شتى.

قوة البلد،من وزن ساسته، ومدى الاحترام الذي يحظون به، داخليا وإقليميا ودوليا،وضع لايتأتى عبثا، بقدرة قادر،لكنه ورش تكويني لا يتوقف،ينتقل من جيل إلى جيل،تكرسه قاعديا ثقافة وتربية سياسية،مبناها الديمقراطية ومعناها التحديث،تجديد البنيات السوسيو-ثقافية،طبعا،إذا تمثلنا الحزب بالمفهوم المؤسساتي للكلمة،وهو المطلوب والمبتغى،سعيا لإفراز نخب مؤهلة قلبا وقالبا،لتنمية قيم التمدن،أما توثين النمط داخل أقبية الزوايا والأضرحة،فأظنها فائضة لدينا عن الحاجة،لكن المستقبل لايرحم !اهتموا، ولو لومضة،بإلقاء نظرة خاطفة،حول التحولات المتلاحقة التي يعرفها العالم المعاصر.

حينما،انبطحنا إلى بريق منظومة الألقاب الاجتماعية الواهية، والشعارات الفارغة،شرعت الهشاشة تحيط بمختلف حواشينا :يروي زميل،أن ابنة عمه التي توشك أن تنهي دراستها في مجال الطب بإحدى الجامعات المغربية،والتي أسرعت منذ مدة دون أن تنتظر حصولها المستحق للدبلوم ومباشرتها العمل،كي تلصق نعت “الدكتورة” مع الإلحاح إلى لقبها الشخصي،تجد صعوبة مفرطة في الإدلاء بتعليق على فحص الصدى أو بالأحرى كتابة تقرير سليم بلغة فرنسية محترمة،اللغة التي درست بها… .صحيح،فحينما تزور في الوقت الحالي طبيبا منتسبا في تكوينه إلى المنظومة التعليمية الكلاسيكية،ثم تحلق بتفكيرك نحو صنيع الخريجين الجدد مع وجود استثناءات رغم كل شيء،سيتجلى الفرق واضحا من حيث القدرات المهنية والتمكن من الحرفة.يكتسيني،الفزع وأنا أستشرف معطى التقلص التدريجي للكفاءات الطبية في هذا البلد،مع ابتعاد الأجيال المتعاقبة عن هاجس ومنطلق التكوين العلمي الرصين،أولا وأخيرا،انسجاما مع منظومة قيمية، لم تعد تبدي كبير اعتبار، للجد والكد،المهم أن تكون طبيبا؟لكن كيف؟ولماذا؟فهذا،قد انكمش إلى نوع الأسئلة الأنطولوجية، التي لم يكن يقدر على تحمل كنهها غير تأمل الإغريق… .

تلاميذ، في صف الباكلوريا. خلال، أيام قليلة سيأخذون الوجهة نحو مدرجات الجامعة المغربية،والفرضية المهلهلة،كونها مختبرات البناء العلمي،لعقلنا وعقولنا.جهرا،يتداولون بكامل الجدة والجدية وليس هزلا أو تهكما،عجينا، من هذا القبيل : عاش أدونيس في العصر العباسي !!وطه حسين “عمود” الأدب العربي !! ويتساءلون بعد جهد جهيد،من الكتابة والشرح،هل توفي سعيد مهران قبل نجيب محفوظ(سعيد مهران بطل رواية اللص والكلاب) !!أما النقد الأدبي، فيتحول كتابة إلى “النقض ” الأدبي… !!والحبل على الجرار،أي أفق يتربص بهؤلاء ؟ بنا؟ معهم؟ من خلالهم؟عبرنا؟عبرهم؟تقول رواية، لكتبي مراكشي مشهور،أن تلاميذ الثانويات خلال الأزمنة الماضية،كانوا يلتهمون الكتب،وكل أستاذ استدعي كي يلقي محاضرة،إلا وأحس منذ البداية بكثير من التهيب،لأنه يدرك جيدا،من ينتظره في القاعة للاستماع إليه… .

غير، ما مرة،يخبرني صديق، يدير كشكا لبيع الصحف والمجلات،مظهرا استياءه العميق من تصرفات أساتذة جامعيين،وقد تجمعوا حول محله قصد تصفح سريع للجرائد، ثم يعيدونها إلى مرابضها،لكنها غير سليمة، بل، كيفما اتفق.أكثرهم اهتماما ،يضيف،سيلتمس منه استعارة مجلة أكاديمية قد لايتعدى ثمنها في أسوأ الحالات،عشر دولارات،كي يستنسخوا بسنتيمات هذه المقالة أو تلك.أشرد سريعا بكل جوارحي،نحو جاك ديريدا الذي شرح تشريحا أعتى النظريات الفلسفية والأدبية،وجال كل المؤسسات الجامعية العالمية طولا وعرضا،مع ذلك لم يأبه كي يحظى داخل بلده فرنسا ب”تيتر”المدرس الجامعي.أيضا،وأنت تتصفح بيبليوغرافيا ما صنعه مدرسون جامعيون،انتموا إلى زمن آخر، من طينة عبد الرحمن بدوي أو الجابري …،تضع رأسك بين يديك، شعورا بالخجل، حيال مايحدث اليوم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.