المسألة الجنسية بين الإفراط و التفريط
لعل من المعضلات المؤرقة و الكبيرة التي بدأت تخلخل النسيج الاجتماعي في هذا العصر و تقتحمه من حيث لا يدري و لا يحتسب ، إشكالية الجنس ، ومرد ذلك أولا إلى طبيعة الموضوع المعقدة و الحساسة التي يتداخل فيها ما هو نفسي بما هو عضوي فيزيولوجي و ما هو اجتماعي. و يزيد من درجة تعقيده طبيعة القيم و الثقافة السائدين في المجتمع التي تعتبر قضية الجنس من الطابوهات و القضايا المسكوت عنها ، وبين ثنايا هذين البعدين تطل إشكالية متفرعة ، و هي إشكالية التنشئة الاجتماعية و نمط التربية و طريقة تفاعل المربين ( أسر ة ، مدرسة …)مع الموضوع و كيفية معالجته. والحال أن المتتبع لا يجد أدنى عناء أو صعوبة في تلمس آثار و مظاهر المشكلة الجنسية و مدى تفاقمها في واقعنا المعاصر وتشهد على ذلك الكثير من القرائن و الشواهد نسوقها كالآتي:
– أولا: حجم الانتاجات السينمائية و الفيديوكليبات الغزيرة التي تلعب على الإثارة الجنسية من خلال حركة الجسد ، و كثافة الصورة و الرمز الذي تروج له المجلات و المواقع الإليكترونية و الوصلات الإشهارية ذات الحمولة الجنسية .
– ثانيا: يسجل بعض المختصين و السوسيولوجيين أن التعاطي و التفاعل مع مسألة الجنس في مجتمعنا يكشف عن تناقضات غريبة تتأرجح بين الاهتمام الزائد و المفرط إلى حدود الهستريا الجنسية و السعي نحو إرواء الرغبة الجنسية بشتى الطرق و على التو ، و بين التجاهل التام لغريزة طبيعية متأصلة في النفس الإنسانية و اعتبار الحديث عنها” عيب ” و ” قلة حياء” و ” حشومة”.
– ثالثا: لا تخطئ عين المراقب لبعض الظواهر الاجتماعية ذات الصلة باهتمامات بعض الأسر سواء المنحدرة من وسط قروي أو تلك التي تستوطن المدن طريقة تفاعلها مع مسألة الجنس فالكثير من هذه الأسر – مثلا- لا تتورع و لا تجد أدنى حرج في مشاهدة و متابعة مسلسلات مكسيكية أو تركية أو أفلام تعرض لقطات و مقاطع مثيرة جنسيا (تقبيل ، عناق و أكثر من ذلك) لكن تلك الأسر نفسها لا يجرؤ أحد من أفرادها على مناقشة موضوع الجنس و التربية الجنسية و ممارسة أدوار التوجيه لأبنائه أو حتى التلفظ بكلمة حيض أو احتلام أو …في بيته .
و لعل هذه الملاحظة بقدر ما تعكس فداحة التناقض المستشري في أوصال و بنيان المجتمع بقدر ما تنطوي و تخفي وراءها أوحال من الإشكاليات و العقد النفسية التي تهدد توازن الأفراد و الجماعات .
و أمام كل هذا السيل من التعقيد و التناقض و الحساسية و الزيغ الذي يكتنف الموضوع يلزم تحرير و بناء رؤية جديدة جريئة في تناول القضية بهدف الوصول إلى الأهداف التالية:
– فهم المسألة الجنسية على أنها عنصر ينتمي إلى بنية متكاملة يجب أن تنسجم مع بنى أخرى لضمان توازن الشخصية و عدم انحرافها .
– أن الإشكالية الجنسية يجب أن توضع و تدرك في سياقها الطبيعي الأصيل و يتم تناولها في بعديها الحضاري والإنساني بغية إشباع هذه الرغبة في مناخ سليم ملؤه السكينة و الطمأنينة و تقوية علاقات الحب و المودة ، دون إثارة و لا تهييج ودون اختفاء خلف الطابوهات أيضا .
طبيعة الرغبة الجنسية و خصوصيتها.
الرغبة الجنسية أو غريزة الجنس كغيرها من الغرائز (الجوع ، العطش ، النوم…)تنبع من أصالتها و تجذرها في طبيعة النفس الإنسانية الجبلية ، و قد تنحرف و تزيغ عن وضعها الصحيح و العادي تحت تأثير الضغوط و الغواية الناتجة عن التفاعلات الاجتماعية و القصف الإعلامي المستمر كما أسلفنا، غير أن لهذه الرغبة خصوصية و ميزة خاصة تختلف عن باقي الرغبات و نبين ذلك فيما يلي كما بينها د. أحمد الأبيض:
– الرغبات الطبيعية الأخرى كالرغبة في الطعام و النوم تستدعي الإشباع الفوري الآني فلا تقبل الدفع و لا التأجيل إلا لوقت محدود جدا ، في حين أن رغبة الجنس بوسع الإنسان تأخيرها و صرفها باهتمامات أخرى دون أي ضرر صحي كالرياضة و المطالعة و ممارسة هويات أخرى ، أو ما يسميه بعض الفلاسفة بالإعلاء و التسامي .
– أن الغريزة الجنسية – حسب د أحمد الأبيض- يتم إشباعها مع إنسان (رجل+إمرأة) عكس الرغبات الأخرى التي تروى و تشبع مع شيء ، فرغبة الجوع تشبع بالطعام و العطش بالماء وهكذا. بمعنى آخر أن الرغبات الغير جنسية كلها متمركزة حول الذات تبحث عن حاجاتها الخاصة بشكل ذاتي، في مقابل شهوة الجنس التى تحقق رغبة طرفين بشكل يرضيهما معا و يحقق تكاملا و توحدا بينهما باعتبارها تتويجا لمسار و لعلاقة حميمية وممتدة و مؤطرة بضوابط