تسجيل الدخول
تسجيل الدخول
استعادة كلمة المرور الخاصة بك.
كلمة المرور سترسل إليك بالبريد الإلكتروني.
الله يكمل بالخير
الواقع المر بشكل فني ,ماعندي ما نقول,الله يعطيكم الصحة.
زيدو شى حاجة اخرة نضالية لله يعطيكم الصحة bravoooooooooooooooooooooooooooooo
inch2laaah Ghadi Tkoun Chi haja Ktar Men Hadi ! et Merci l2ay Wahed Comonta Ota9 Fiyaaa !!
المجتمع يكشف:أسرار المغارة المظلمة في دولة المخابرات
جرائم الاختطاف والقتل.. وخبايا آلاف الوثائق داخل “الشرطة السرية” بالمغرب
الحلقة (1)
في يونيو من عام 2001 فجّر العميل المغربي السابق في جهاز المخابرات المغربية أحمد بخاري أزمة سياسية في المغرب إثر تصريحات أدلى بها لصحيفة “لوموند” الفرنسية اتهم فيها السلطات باغتيال المعارض المغربي وزعيم الاشتراكيين المهدي بن بركة عام 1965 بالتعاون مع السلطات الفرنسية وأجهزة أمنية أخرى، كما كشف البخاري عن عدة حقائق بشأن ما سمي في المغرب ب “سنوات الرصاص” خلال الستينيات والسبعينيات أثناء المواجهة بين النظام الملكي والمعارضة، والأدوار التي قام بها عدد من الزعماء السياسيين والنقابيين في تلك الأحداث، حيث اتهم عدداً من هؤلاء بالتعاون مع المخابرات والشرطة السرية المغربية.
وقد أثارت تلك الاعترافات الأولى من نوعها الكثير من الجدل وأسالت الكثير من المداد، وانقسمت مواقف الفاعلين السياسيين والرأي العام بين مشكك في تلك الحقائق وبين مصدق لها، وكان من بين هؤلاء.. المعتقلون السياسيون وعناصر الجيش الذين كانوا في السجون السرية مثل “تازمامارت” الشهير و”قلعة مكونة” و”درب مولاي الشريف” الذين بدأوا يطالبون بكشف حقائق الماضي بشكل رسمي من طرف السلطة، وتقديم المسؤولين عن عمليات الاختطاف والاعتقال التعسفي إلى المحاكمة، وتعويض الضحايا عن السنوات الطوال التي قضوها خلف القضبان.
وبالرغم من ذلك الجدل الذي أثارته تصريحات البخاري وكتابه الأول الذي صدر عام 2001 بعنوان “السر”، فقد كانت تلك الاعترافات بمثابة حجر كبير رمي به في بركة ماء راكدة، حيث تتالت ردود الفعل وانحلت بعض الألسنة وشرعت الصحف في نبش حقائق الماضي وتوجيه النقد الحاد إلى مرحلة الحسن الثاني بين 1961 و1999.
وأمام ازدياد وتيرة المطالبة بإصلاح ما حصل في الماضي بادر الملك محمد السادس إلى إنشاء “هيئة الإنصاف والمصالحة” في العام الماضي، وعهد إليها خلال مدة لا تتجاوز ستة أشهر بوضع قائمة بضحايا تلك المرحلة السوداء من تاريخ المغرب وتعويضهم مادياً، لكن البعض لم يرض بهذه الخطوة التي رأى أنها تقفز على مطلبه الرئيس بمحاكمة المسؤولين الذين لا يزال يشغل مناصب مهمة في الدولة، وواجهت الهيئة عدة صعوبات مما حال دون إكمال مهمتها خلال المدة المطلوبة فتقرر التمديد في أجلها دون تحديد سقف زمني معين حتى الآن.
وفي شهر يونيو من العام الماضي كشف أحمد البخاري حقائق جديدة في قضية بن بركة الشائكة في المغرب التي ظلت خلال عقود مغارة مظلمة لا يقربها أحد بسبب رغبة الملك الراحل الحسن الثاني في حظر الاقتراب من هذا الملف، حتى إنه منع أسرة بن بركة المقيمة في فرنسا من دخول المغرب طيلة الفترة الماضية، ولم يرفع هذا المنع إلا في أواخر عام 2003 حينما سمح الملك الحالي لزوجة وأبناء الزعيم الاتحادي بالعودة إلى البلاد.
وقد فتحت السلطات القضائية الفرنسية تحقيقاً قضائياً في قضية بن “بركة” إثر اعترافات البخاري، بعد صمت طويل، لكن هذا الأخير منع من السفر إلى باريس مرتين للإدلاء بشهادته، ومنعته السلطات المغربية من الحصول على جواز سفره، وأصدرت إحدى المحاكم المغربية في نفس الوقت حكماً بالسجن بسبب دعاوى تتعلق بإصدار شيكات بنكية بدون رصيد، وهو ما اعتبره البخاري ومحاموه قضية ملفقة للحيلولة دون سفره إلى الخارج وقطع لسانه.
وقبل أشهر أصدر أحمد البخاري كتابه الجديد “مصالح الدول: كل شيء عن قضية بن بركة والجرائم السياسية الأخرى في المغرب”، قدم فيه حقائق مثيرة عن حقبة الستينيات والسبعينيات في المغرب وجرائم الاختطاف والاغتيال والاعتقال والخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان التي حدثت في تلك الفترة، وتورط مسؤولين مغاربة في الأمن والسلطة في تلك الجرائم، وأدوار بعض السياسيين والبرلمانيين وقادة الأحزاب في التعاون مع المخابرات. ويعتبر الكتاب شهادة قاسية عن أحداث تلك المرحلة العاصفة، لم يكتف فيها البخاري بتعرية الحقائق الرهيبة التي قال إنه عاشها، بل ذكر أسماء الشهود وسمى كل شيء باسمه ولم يلتزم بأي تحفظ.
الكتاب صدر في المغرب وسمحت سلطات الرقابة فيه بتوزيعه بشكل محدود، على عكس ما حدث مع الكتاب السابق للبخاري “السر” الذي تعرض للمنع مباشرة فور صدوره، الأمر الذي يؤشر إلى أن النظام في المغرب أصبح واعياً بضرورة السير في طريق المصالحة مع الماضي الكارثي وتصفية الملفات المنسية.
م تقدم لقرائها في العالم العربي على حلقات هذا الكتاب المثير بحقائقه الرهيبة والمخيفة، والأشبه برواية بوليسية لها شخوصها ومنعرجاتها، ضحاياها وجلادوها، لكن الفرق بين ما كتبه البخاري وما كتبته أجاثا كريستي أن روايات هذه الأخيرة من بنات الخيال الواسع، أما ما كتبه البخاري فهو حقائق مُرة كان شاهداً عليها أو على جزء منها، وشخوصه ليست وهمية بل من لحم ودم، لايزال بعضها حياً يرزق، كما أن أحداثها حدثت بالفعل ورسمت وجهاً أسود لماضي المغرب.
تقديم
لن أنسى أبداً ما حدث مع المهدي بن بركة، ولست الوحيد في ذلك. لقد قضيت فترة طويلة في “الكاب1″، الشرطة السرية الأكثر رعباً في تاريخ المغرب، ولقد كان المهدي بن بركة بالنسبة لي ولكثير من الزملاء هدفاً ينبغي “إخماده”، ورجلاً يجب القضاء عليه من أجل مصلحة استقرار النظام والبلاد، لذلك طاردناه ولاحقنا أدق تفاصيل حياته وتحركاته التي لا تنتهي وأفعاله وفكره وشخصيته، وهيأنا مرات عدة مخططات لاغتياله، كنت خلالها معنياً أنا شخصياً سواء عن قرب أو عن بعد، بعدد من هذه المحاولات أو “المخططات”، فمهنتنا كانت تلزمنا بالتصرف من غير طرح أسئلة، لقد كنا مجرد منفذين، إذن، لقد نفذنا.
في ذلك الوقت كنا قد تعرفنا جيداً على بن بركة، وربما أكثر مما كان يعرفه المقربون منه، ولكننا انتهينا عبر تلك المعرفة إلى احترامه، بل إلى الإعجاب به كأي شخص يحب وطنه ويقدم كل يوم الدليل على ذلك بنظافته وتفوقه وشجاعته. هذا هو بن بركة الذي عرفناه، أنا والآخرون، من الجانب الآخر للحاجز. مثل هذه الأفكار يمكنها أن تثير الاستغراب أو حتى الصدمة، لكن ذلك غير مهم بالنسبة لي حيث أنا الآن، فأنا أنام بطريقة هادئة وضميري أكثر اطمئناناً منذ أن قررت الكلام. إن مرور 35 سنة على رحيل بن بركة ليس كثيراً، ولقد وطنت نفسي على تحمل جميع الأخطار، بما فيها أن تُفهم بطريقة مغلوطة وأن يتم خداعك. لقد فكرت مرات عدة في الماضي في الخروج عن الصمت والتحفظ، وفي العديد من المرات كنت أتردد لأن الشجاعة كانت تخونني ببساطة. لكن يجب القول بأن الظروف السياسية في البلاد لم تكن تسمح بذلك، بل على العكس، أما اليوم فإن الأمور تغيرت، وبن بركة يمثل جزءاً من تاريخ هذه البلاد التي أحبها والتي خدمتها، مهما كانت طبيعة موقفي من تلك المرحلة التي قضيتها في “الكاب 1” وفي “شرطة صاحب الجلالة” في فترة مليئة بالتقلبات وقاسية بالنسبة للكثيرين. واليوم لست في عجلة من أمري، فأنا لم أعد ذلك الموظف الأمني الذي كان يكرس حياته لملاحقة “العناصر الهدامة”. لقد كانت مهمتي بالأمس هي مطاردة بن بركة وشركائه، أما مهمتي اليوم فهي تعرية جانب من الحقيقة التي عرفت عن كثب، للأجيال الجديدة. وأنا أرجو من عائلة بن بركة وأصدقائه الكثر أن يغفروا لي صمتي الطويل في السابق، كما ألتمس العذر لدى زملائي السابقين وسلطات هذا البلد لكوني رفعت الغطاء الذي حجب طويلاً مشاهد لا تشرّف تاريخنا في الحقيقة. إنني لست كاتباً ولا مؤرخاً، ولا أزعم معرفتي بجميع الحقائق، لكنني أطالب بحقي في أن يتم الاستماع إليّ لأنني أمثل جزءاً من فئة عريضة من المنفذين والجلادين والضحايا والفاعلين في التاريخ الحديث للبلاد، التاريخ الذي يهمنا جميعاً بشكل كبير.
إن هذا الكتاب يريد أن يكون شهادة صادقة عن الماضي الذي عشته، بعيوبه ولغوه وأخطائه ونواقصه وحدوده. ولاتستند شهادتي فقط إلى حياتي الشخصية اليومية كما عشتها داخل “الكاب1″، ولكن أيضاً إلى آلاف الوثائق والأرشيفات، سواء في “الكاب1” أو “مصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس” أو “المخابرات العامة” الفرنسيتين، علاوة على “إدارة مراقبة التراب الوطني” (المخابرات المغربية) الحالية. هذه المصادر قد لا تقدم ربما كل الحقائق، ولكنها بالتأكيد مليئة بالحقائق، وقد قضيت أعواماً عدة منهمكاً في تلك الأرشيفات أقلب فيها بمعدل أربع ساعات في اليوم رفقة شخص يدعى “مارتان” كان يعمل عقيداً في المخابرات المركزية الأمريكية، وأنا أتمنى من فاعلين آخرين أعرف المئات منهم أن يسهموا هم أيضاً في الكشف عن جوانب أخرى من الحقيقة، فهناك الكثير مما يجب قوله وفعله من أجل التصالح مع ذاكرتنا وتاريخنا ووضع الأمور في نصابها.
وإذا كنت قد حملت القلم مجدداً اليوم فلأنني أصبحت مقتنعاً بأن إمكانية تقديم شهادتي بشكل مباشر وكامل، سواء أمام القضاء الفرنسي أو المغربي، قد أصبحت شبه مستحيلة، وأن الوقت يمر. وقد استنفدت جميع الوسائل ولا أريد أن تنتهي حياتي مليئة بالحسرة. ومرة ثانية ألتمس المسامحة من كل أولئك الذين مسستهم بأذى، بالأمس أو اليوم، فأنا لا أريد أقضي ما تبقى لي من العمر في انتظار يتكرموا عليّ بمنحي جواز سفري، وأن يتفضل أحد قضاة التحقيق بطرح الأسئلة عليّ والاستماع إلى إفاداتي، وأن يخرج زملائي الآخرون الذين تطحنهم الحسرة عن صمتهم.
هذا الكتاب هو إذن المحاولة الثانية لتسليط الضوء على عدد من الملفات المظلمة والحاسمة من تاريخنا: قضية المهدي بن بركة، والمخربين الفرنسيين المختفين بالمغرب، وتورط السلطات المغربية، ومشاركة مجموعة من الأطراف كفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية و”إسرائيل” من خلال توفير الدعم والمساندة، وأحداث مارس 1965، وقضية عباس المساعدي… إلخ.
في يوليو عام 2001 قمت بجولة في حي السويسي بالرباط (أحد الأحياء الراقية للذوات والأثرياء وكبار موظفي الدولة)، قريباً من المعتقل السري الشهير “دار المقري”، وقد لاحظت في ذلك اليوم أن أعمال البناء كانت قد انطلقت على وجه الاستعجال لزيادة علو السور المحيط به، وكانت هناك في نفس الوقت خلف السور أعمال الحفر والتنقيب من أجل تقوية سمك الأرض في عدة مواقع لتطهيرها، وبطبيعة الحال لجمع بقايا العظام البشرية، وخلال أسابيع قليلة اختفت إلى الأبد آثار العشرات من الجثت المدفونة في ذلك المعتقل بين 1960 و1973.
وفي عام 2002 سنحت لي الفرصة للسفر بقصد الاستراحة لأمر غير بعيد عن المقابر الجماعية التي دفن بها المئات من شباب المغرب بشكل جماعي في مارس 1965 على الطريق السيار بين الدار البيضاء ومطار محمد الخامس. وتبدو تلك المقابر الجماعية في هذه الأيام شيئاً مرعباً لا يمكن تصديقه، لأن تلك الجرائم كانت مروعة، لكن ذلك كان جزءاً من تاريخ “الكاب1” ومغرب تلك المرحلة.
كيف يمكن نسيان هذه الوقائع الرهيبة وأخرى غيرها؟، وكيف يمكن الربط بين هذه الوقائع وبين القضية الرئيسة، قضية المهدي بن بركة التي لم ننته منها بعد؟
لقد كان السلوك الفرنسي في هذه القضية من الوقاحة على قدر كبير، وإهانة لذكاء الشعب الفرنسي بالدرجة الأولى، ذلك لأن مسؤولية الدولة الفرنسية كانت واضحة، فمنذ 29 أكتوبر 1965 لم تفعل فرنسا شيئاً لكشف الحقيقة، بل على العكس قامت بوضع العراقيل للحيلولة دون الكشف عن الحقيقة، ومعظم السياسيين الذين حكموا فرنسا طيلة العقود الماضية كانوا وراء “ترسيخ” هذه العراقيل التي لم يستطع أي قاضي تحقيق فرنسي تجاوزها منذ تلك الفترة، كما هو الحال بالنسبة للمغرب، وقد حان الوقت لإحداث صدع في هذا السجل وتحديد المسؤوليات وترك العدالة والمجتمع يقولان كلمتهما
الفصل الأول المهدي بن بركة في أرشيفات “الكاب1”
ولد بن بركة حوالي العام 1920 بالرباط من أسرة متوسطة يدير عائلها دكاناً لبيع المواد الغذائية. لم يكن التصريح بالمواليد الجدد في مغرب تلك الفترة إلزامياً، إذ كان يترك ذلك للأسر التي تصرح بمواليدها أياماً أو أسابيع أو شهوراً أو حتى سنوات بعد ذلك، ولم يصبح التصريح بالمواليد إلزامياً إلا في عام 1952.
كان والد بن بركة رجلاً متديناً شديد التدين، يصر على أن يحفظ أبناؤه القرآن الكريم في المدارس القرآنية الصغيرة التي كان يطلق عليها اسم “المسيد”، كما كان الأمر لدى جميع الأسر المغربية التقليدية في ذلك الزمن، حيث كان على الأبناء أن يحفظوا الأحزاب الستين من القرآن الكريم قبل أن يتفرغوا لممارسة أعمال آبائهم نفسها عند بلوغ سن الشباب، دون الذهاب إلى المدارس. فقد كان الأبناء يزاولون الأعمال نفسها التي يزاولها آباؤهم، وفي غالب الأحيان كان ذلك يقتصر على التجارة أو الصناعة التقليدية، حيث يبدؤون بمساعدة آبائهم، وبعد سنوات يحلون محلهم. كانت مناشط اللهو في الفترة ما بين 1920 و1930 غير موجودة بالمغرب تقريباً لأن حياة الأطفال كانت مبرمجة على نمط محدد، بين البيت و”المسيد” حيث يتلقون القرآن، وورشة رئيس الأسرة حيث يمارس مهنته كتاجر أو “صانع”.
كان عدد الأسر التي تسجل أبناءها في المدارس العمومية قليلاً جداً، إذ لم يكن عدد الأطفال الذين يذهبون إلى المدارس يتجاوز نسبة ال10%، وفي المقابل كان عدد الأطفال الذين يذهبون إلى “المسيد” عند بلوغهم الخامسة كبيراً جداً لأن ذلك التقليد كان مترسخاً منذ قرون عدة، حتى أولئك الذين كانوا يتعلمون في المدارس كانوا يغادرونها مبكراً بعد حصولهم على “شهادة الدروس الابتدائية” لمساعدة آبائهم في أعمال التجارة أو الصناعة التقليدية.
كانت الأسر في هذه الفترة شديدة التوجس من سلطات الحماية الفرنسية، فقد كانت تخشى على أطفالها من المدارس العامة التي يقوم بالتدريس فيها مدرسون فرنسيون يحملون الجنسية الفرنسية ويدينون بالديانة الكاثوليكية ويذهبون إلى الكنيسة ولا يعرفون شيئاً عن القرآن أو عن أخلاق المسلمين وعاداتهم ويدخنون ويشربون الكحول ويأكلون لحم الخنزير ولا يربون أبناءهم، ويمنحون زوجاتهم وأطفالهم الكثير من الحرية.
لكن المهدي بن بركة وشقيقه عبد القادر كانا من بين الأطفال المغاربة القلائل الذين تابعوا دراستهم في التعليم العمومي حتى حصلوا على البكالوريا، وقد قدم والدهما تضحيات كبيرة من أجل أن يوفر لهما الوسائل لإكمال تعليمهما، فكان يقوم بعمل إضافي في المدارس القرآنية كقارئ للقرآن مقابل الحصول على أجر زهيد يتلقاه نقداً أو عيناً.
بعد الحصول على البكالوريا رحل المهدي بن بركة إلى الجزائر لإتمام تعليمه بفضل منحة دراسية من لدن السلطان محمد بن يوسف، حيث حصل على الإجازة في الرياضيات. وعند عودته إلى المغرب شغل منصب أستاذ للرياضيات في ثانوية “غورو” الشهيرة بالرباط، التي أصبحت تدعى بعد 1961 “ثانوية الحسن الثاني”، ثم في إعدادية القصر الملكي حيث كان من بين تلامذته الأمير مولاي الحسن، الذي سيصبح الملك الحسن الثاني فيما بعد.
في ثانوية “غورو” تميز المهدي بن بركة بلباسه التقليدي، الجلباب المغربي والطربوش والبابوج التقليدي عوض الحذاء، وهذا جعله شخصاً معروفاً في وسط بورجوازي حيث جميع الأساتذة من جنسيات فرنسية. وفي بداية الأربعينيات أصبح هذا “الأستاذ الشاب في مادة الرياضيات ذو القامة القصيرة الذي يشبه البهلوان بطريقته في اللباس” مثار سخرية الجميع، ولكنه كان مع ذلك موضع احترام بين زملائه الفرنسيين لأنه فرض نفسه عليهم بنبوغه وجديته ودقته في المواعيد ونظافته وثقافته الواسعة وتربيته وكرمه.
اهتمام مبكر بالسياسة
في مغرب الأربعينيات كانت الساحة السياسية موزعة فيما بين حزبين: حزب الاستقلال الذي كان يقوده علال الفاسي، وحزب الشورى والاستقلال الذي كان يتزعمه محمد بن الحسن الوزاني، وكان زعماء وقادة الحزبين معاً ينتمون إلى أوساط البورجوازية المغربية المنحدرة من فاس ومراكش.
كان بن بركة قد بدأ يهتم بالسياسة عندما بلغ العشرين من عمره، حيث أصبح أحد الشباب الذين انخرطوا في حزب الاستقلال كما سجلت ذلك سجلات الاستخبارات العامة لتلك الفترة. كان هؤلاء الشباب يشاركون في الاجتماعات العامة للحزب التي كانت تعقد في سرية تامة ويحضرها الوطنيون، الحقيقيون منهم والمزيفون، الذين لم يكونوا يتورعون عن التعاون مع عملاء الاستخبارات العامة. كان الهدف الرئيس للوطنيين الصادقين هو القتال ضد الحماية الفرنسية في المغرب للحصول على الاستقلال، وشكل المهدي بن بركة واحداً من هؤلاء منذ بداية سنوات الأربعينيات، أما المجموعة الأخرى من الوطنيين المزيفين فكانت تتكون من الانتهازيين والوصوليين الذين استخدموا السياسة لتحقيق أهدافهم الخاصة والإثراء.
وفي 11 يناير 1944 وقع قادة حزب الاستقلال على “عريضة المطالبة بالاستقلال” التي وجهوها إلى سلطات الحماية الفرنسية ونشرت في وسائل الإعلام، يلتمسون فيها من الحماية رسمياً منح المغرب استقلاله. ومن بين الموقعين على تلك العريضة برز اسم المهدي بن بركة الذي كان معروفاً قبل ذلك وفتح له ملف خاص عام 1940 لدى إدارة الاستخبارات العامة، ومن بين الأسماء الأخرى كان هناك:
أحمد بلافريج، الذي أصبح فيما بعد وزيراً للخارجية بعد الاستقلال، ورئيساً للحكومة ثم الممثل الشخصي للملك الحسن الثاني.
محمد الغزاوي، الذي أصبح مديراً عاماً للأمن الوطني بين 1956 و1960 ثم مديراً للمكتب الشريف للفوسفاط.
إدريس المحمدي، الذي أصبح وزيراً للداخلية ثم مستشاراً للحسن الثاني.
بين 1956 و1962
في عام 1948 فتحت “مصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس” الفرنسية مكتباً خاصاً لها في الرباط لحماية مصالح فرنسا في المغرب، وتصفية وإسكات الأحزاب السياسية والنقابات، والتحضير للقيام بحرب سرية ضد حركات المقاومة التي انطلقت عام 1953 وجيش التحرير المغربي أو “جيش التحرير الشعبي” الذي ظهر عام 1954 . وقد فتح المكتب التابع لهذه المصلحة ملفاً خاصاً بالمهدي بن بركة في تلك السنة نفسها التي بدأ فيها العمل بالمغرب، حيث تم وصف الزعيم الاستقلالي الشاب باعتباره “شاباً وطنياً يتناول الكلمة في كل اجتماع يعقده الحزب لنقد الحماية الفرنسية بالمغرب ودعوة المغاربة إلى القتال يداً بيد، باستخدام جميع الوسائل، من أجل إرغام فرنسا على منح الاستقلال للمغرب في أقرب الآجال”.
شبكة واسعة من العملاء
وضعت “مصلحة التوثيق الخارجي ومحاربة التجسس” في المغرب شبكة واسعة من العملاء والمخبرين تتكون من عدة أشخاص تم تجنيدهم ليس فقط من بين الوطنيين المنتمين إلى حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال، ولكن من المنتمين أيضاً إلى الحزب الشيوعي المغربي والنقابة العامة للعمال والاتحاد المغربي للشغل الذي يقوده المحجوب بن الصديق.
في كل الاجتماعات التي كان يعقدها حزب الاستقلال، سواء على المستوى المركزي في الرباط أو على المستوى الجهوي في المدن المغربية الأخرى، كان المهدي بن بركة ينتقد بشدة سلطات الحماية الفرنسية، ويتكلم عن فقر الأغلبية من المواطنين المغاربة والأمية وثروات البلاد التي تحتكرها الأقلية الفرنسية، والمزارع والأراضي الخصبة التي استولى عليها منذ 1912 المقيمون الفرنسيون والبنوك والشركات التي يديرها فرنسيون… إلخ. وفي بداية عام 1950 أصبح بن بركة العدو رقم واحد للحماية الفرنسية في المغرب، والسياسي الذي يمثل خطراً على مصالح فرنسا بالمغرب، الزعيم الاستقلالي الذي تجب تصفيته لإخراس صوته في أقرب فرصة قبل أن يفوت الأوان.
يتبع