شيء من الموضوعية في النقد العربي القديم ( عصر ما قبل الإسلام)

1 642


النقد عموما خطاب ،لغة ثانية يشتغل على لغة أولى هي الأدب، ويستمد جذوره من ذوق المبدع الذي له انعكاس على العمل الأدبي والفني، لكن السؤال هو سؤال الماهية النقدية التي يعتمدها المبدع في إصدار حكم ما على نص ما ، كيفما كان هذا النص وكيفما كان مستواه أو قيمته، ذلك أنّ مسرحية أو رواية يمكن أن تنتمي إلى جنس الأدب شرعا .
إن مسألة الحسم في الذاتية والموضوعية في التراث العربي القديم، أو في الحديث مسألة معقدة جدا ، تنقلنا في غالب الأحيان إلى الرجوع لأمهات الكتب التي مهدت للنقد العربي القديم الذي ذهب فيه عديد من النقاد إلى غياب البرهان في تعليل الأحكام النقدية، فقد روي في كتب الأدب والنقد عن النابغة الذبياني، أنه كانت تضرب له قبة حمراء من جلد فتعرض عليه العرب أشعاره فما ردّه كان مردودا وما قبله كان مقبولا، فأنشدته الخنساء في رثاء أخيها صخرا، فتذوق ما قالته الخنساء فأجابها قائلا: والله لو أن أبا بصيرا – الأعشى – أنشدني لقت إنك أشعر الجن والإنس . إن النقاد حكموا على قول النابغة بالذاتية في مواقفه الشخصية، تاركين الحياة الاجتماعية التي نشأ فيها النقد في تلك المرحلة ، مستبعدين ظروف إنتاج القول و كيفية الحكم عليه، فلا يعدو أن يكون الخطاب النقدي خطابا معرفيا تخلو فيها وسائل التعليل والبرهان، لكن لا يجب أن ننسى أن ما قاله النابغة مرتبط كل الارتباط بفن النقد، وإن كان هذا النقد خاليا من معايير وشروط النقد الذي لا نكاد نجزم توفرها في الحديث ، فإن ما قاله النابغة راجع إلى تلك السلطة التي يمتاز بها في تلك المرحلة، أضف إلى ذلك أن مفهوم القيمة الذاتية بمفهومها القديم كانت مرتبطة بالإعجاب والانبهار، بما قاله غيرنا لا بما قبلناه نحن، إن البحث في هذا النقد يرجع بنا إلى تصنيف هؤلاء الذين قالوا الصناعتين ( الشعر والنثر)، فقد صنفهم النقاد بحسب ظروف قولهم وإنتاجهم راعيين أسلوب حياتهم وابن أساستهم و مأخذهم وعلماءهم ونحو ذلك.. لذلك نجد كتاب ” طبقات فحول الشعراء” لمحمد ابن سلام الجمحي المتوفى سنة 231هــ و كتاب ” الشعر والشعراء” لعبد الله بن قتيبة المتوفى سنة 276هـــ، يترجمان للشعراء و يصنفانهم على حسب الطبقات يقول ابن قتيبة في مقدمة كتابه ” هذا كتاب ألّفته في الشعراء، أخبرت فيه عن الشعراء وأزمانهم ، وأقدارهم ، وأحوالهم في أشعارهم ، وقبائلهم ، وأسماء آبائهم ومن كان يعرف باللقب أو بالكنية” كذلك ابن محمد ابن سلام الجمحي قسم الشعراء إلى طبقات، عشر طبقات في العصر الجاهلي وعشر في الإسلامي، إضافة إلى شعراء الميراثي و البوادي والمدن، إننا في تتبعنا لهذين الكتابين لم يكن الهدف منه هو سرد المادة اللغوية التي جمعها الناقدان، بل لتوضيح مسالة التداخل و طرق انتقاء كل شاعر على أخر، فتركوا شعراء و أخّروا البعض، و تركوا البعض، لا لأنهم أهملوهم أم لم يقولوا الصناعة الشعرية ، أم أنهم اختاروهم لأذواقهم ، بل جعلوا مقاييس ومعايير و ضوابط اشترطوا توفرها في الشاعر، وهذا نلتمسه في ما قاله ابن قتيبة في مقدمة كتابه، أضف إلى ذلك عنوان ” طبقات فحول الشعراء” يبرز البعض خلاف ما نقول ، حيث نجدهم حرّفوا العنوان الى ” طبقات الشعراء” لأن في هذه الحالة سيتوجب على محمد ابن سلام أن يذكر كل الشعراء ، لكن الأصل في عنوان الكتاب” طبقات فحول الشعراء” وبالتالي فلا يمكن لناقد أن يستفسر عن سبب اختيار شاعر عن أخر، لأن ابن سلام استعمل مصطلح ” الفحولة” ، فلكل شاعر توفرت فيه سمة الفحولة داخل في مشروع ابن سلام، وقد يتساءل ناقد عن معرفة سمة الفحولة في الشاعر ، فنرجع ذلك بحمد الله إلى ذوق المبدع من جهة ، وعلى ذكر المشهورين من الشعراء الذين لا يتركهم ناقد أو مؤرخ ما من جهة أخرى.
إن ما قلدناه في الأول لا يعدوا أن يكون إلاّ توضيحا لنظرة بعض النقاد للشعر القديم وللأحكام النقدية فيه، ولا نزعم قولنا الموضوعية في التراث العربي القديم، بل إعادة الأحكام التي تصدر منا تجاهه.
فالذي لا يختلف فيه النقاد و نحن لا نختلف معهم فيه أن النقد الحديث أضحى علميا مستقلا بمناهج و بمصطلحات وبمفاهيم ،لكن جدلية الموضوعية والذاتية تبقى تطرح إشكالا كما بالنسبة للنقد القديم؟؟ ، إن ما نجت فيه المناهج الأدبية هو مقاربة النصوص الأدبية والإبداعية، حيث أصبح النقد الشيء الوحيد الذي يعطي للنص الأدبي قيمته نسبيا ، بعبارة أخرى ما اصطلح عليه رومان جاكبسون بــ” الأدبية” ، وإن كنت سأنحو منحا غير الذي سلكه جاكسبون باعتبار الأدبية ما يجعل من نص ما نصا أدبيا، أما من جهتنا المتواضعة فنقول إن ما يجعل من نص ما نصا أدبيا هو النقد، شريطة أن نكون أمام ناقد يمكن أن نصطلح عليه بــ” نقديّة الناقد” أي ما يجعل من ناقد ما ناقدا بمعنى الكلمة، لا النقد الذي نراه اليوم الذي ظل اسير الرغبات المالية، في غياب الموضوعية والقراءة أيضا فالنقد قبل أن يكون ممارسة هو قراءة وأخلاق، فالقراءة عملية تنتج ناقدا متسلحا بنظرة قد تكون بين النسبية والموضوعية في مقاربة النصوص الأدبية والإبداعية، تقول يمنة العيد في مقالها المعنون ب” النقد/ القراءة” ” النقد، أساسا، هو قراءة النصوص. والقراءة نشاط ذهني يمارسه القارئ- وذلك بإبداء رأيه وأن تكون القراءة ناقدة- تحتاج ممارسة القراءة إلى أدوات كي تصبح فعلا نشاطا ومنتجا” ، إن ما تطمح إليه الناقدة هو اعتبار القراءة شيئا أساسيا وضروريا للناقد، أي أن للناقد ثقافة تؤهله لممارسة هذا الفعل هو الإدمان على القراءة، ويتوجب عليّ كناقد أن أكون قارئا ناقدا متخصصا ، هذا بالإضافة إلى الآليات التي يجب على الناقد أن يتسلح بها، أضف إلى ذلك الى روح الأخلاق وابعاد الذاتية التي نكاد نجزم حضورها في كثير من النقاد.
الموضوعية والذاتية عموما لا يمكن الحديث عنها في ظل نقد خالي من القراءة ومن الأخلاق، فأما الذاتية فنرجحها إلى العلاقات الاجتماعية للإنسان الجاهلي ثم إلى الحياة المالية والاجتماعية كذلك للناقد الحديث، كذلك الموضوعية نفس الشيء، فما نقرّه في النقد الذي يعكس صورة غير التي نراها هو توفر شروط إنتاج القول ومراعاتها ثم معرفة الموضوع ثم القراءة الكثيرة، أضف إلى هذا المصطلحات والمفاهيم والآليات والأخلاق لنستطيع الحديث عن ناقد بمعنى الكلمة.


المراجع والمصادر المعتمدة:
– جيرار جونيت، مدخل لإلى جامع النص.
– طه أحمد إبراهيم ، تاريخ النقد الأدبي عند العرب
– يمنة العيد، مقال ” النقد القراءة”

تعليق 1
  1. الحسن أيت الحسن يقول

    أريد الإستفسار والتوضيح بخصوص قولكم أستاذي:”إن ما يجعل من نص ما نصا أدبيا هو النقد””جزاكم الله

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.