محطات اليمن المعاصر، والمواقف السعودية الملتبسة !
عرف عن عبد الناصر،امتعاضه الشديد، من الأنظمة الملكية، نظرا لنزوعها الرجعي.لذلك، حاول مواجهتها انسجاما مع نظريته المتعلقة بتعميم الثورة.تصور شكل ضمنيا المبدأ العقائدي،لإسراعه بإرسال الجيش المصري سنة1962،نحو الأراضي اليمنية،قصد دعم الثورة التي قام بها الضباط هناك، بزعامة عبد الله السلال، ضد ملكية الإمام البدر.أما السبب السياسي المباشر، فيعود إلى : 1-رغبة عبد الناصر، في استرجاع هيبته، بانتصار عسكري،بعد خيبة فشل الوحدة مع سوريا. 2-أراد،طرد البريطانيين، من جنوب اليمن،ولاسيما ميناء عدن الاستراتجي،المطل على مضيق باب المندب. 3-وصول القوات المصرية،إلى الجوار السعودي،سيعكس حلقة جوهرية بالنسبة لعبد الناصر،في صراعه مع نظام الرياض،لأن الأخير بحسبه، يتحمل نصيبا وافرا، من إفشال الوحدة مع السوريين4. –أما وزير دفاعه المشير عبد الحكيم عامر،فقد أدلى بتصريح مفاده، أن وجود جمهورية على أرض اليمن،يمثل أمرا حيويا بالنسبة لمصر، كي تضمن السيطرة على البحر الأحمر… . أرسل عبد الناصر،إلى اليمن لدعم الجمهوريين، مايقارب 70ألفا جنديا مصريا،اعتبروا من بين الصفوة تأهيلا وتدريبا وتسليحا.السعودية،التي كانت لها باستمرار،اليد الطولى بخصوص الإبقاء على البنية القبلية للمجتمع اليمني،فاستشعرت المد الناصري التحرري،ستقف بكل أموالها وعتادها بجانب الإمام البدر،مما مثل ضمنيا حربا مباشرة بين الضباط الأحرار، بقيادة عبد الناصر، وآل سعود بزعامة الملك فيصل.تحدثت الكتابات التاريخية،على أن رغبة السعودية لاستنزاف عبد الناصر،لقيت دعما من أمريكا وإيران وبريطانيا والأردن…،فأنفقت عام 1963،مايناهز 15مليون دولار،من أجل دعم القبائل اليمنية الموالية للملكيين بالسلاح، وكذا تأجير آلاف المرتزقة الأوروبيين… .
أجبر الجيش المصري،لمدة ثمان سنوات على خوض حرب عصابات في منطقة صحراوية،وعرة التضاريس، قاحلة المناخ،ضمن سياق مجتمعي يستحيل ضبط ولاءاته، بغير الولاء الأول والأخير، للقبيلة.عدم معرفة المصريين،الدقيقة بجغرافية أرض المعركة،كرسه نقص الخرائط الكافية،فشكلت اليمن لهم، مستنقعا شبيها على حد تعبير المؤرخ الاسرائلي ”ميخائيل أورين”،بفيتنام الأمريكيين.مع حلول سنة 1967 ،تواجد نحو 55ألف جندي مصري،فوق الأراضي اليمنية،وهم بصدد خوض حرب استنزافية،غير تقليدية،مما شكل مقدمة أساسية من بين معطيات أخرى،لهزيمة حرب الستة أيام … . رغم ذلك،اضطرت السعودية في نهاية المطاف إلى الاعتراف بميلاد الجمهورية اليمنية،بعد لقاءات وتوافقات بين عبد الناصر والملك فيصل،في مؤتمري الإسكندرية والسودان،مثلما غادر آخر جندي مصري اليمن سنة1971 .
*علي عبد الله صالح، ديكتاتور مجرم، أنقذته المبادرة السعودية :
سنة 1978،تولى علي عبد الله صالح، رئاسة الجمهورية العربية اليمنية.أول خطوة اتخذها،تمثلت في إعدام ثلاثين عسكريا،بتهمة الانقلاب على حكمه.رقي، إلى درجة عقيد عام1979،ثم أسس حزب المؤتمر الشعبي العام،فبقي تحت إمرته حتى حدود اللحظة.علي عبد الله صالح،الذي صنف كأحد أقدم الحكام العرب التصاقا بالكرسي،متباهيا دائما علنا بشعار، مفاده أنه لايثق مطلقا، بأي يمني سوى أبنائه،وتقدر ثروته الشخصية بخمسين مليار دولار،وصاحب قصور فارهة ومنتجعات سياحية في مختلف بقاع العالم،كما أنه مساهم في شركات سيارات عالمية…،وبعد ثلاث وثلاثين سنة من إدارته الفردية لشؤون البلد،ستجمع مختلف تقارير المنظمات الدولية،على حصيلته العدمية،بحيث يصنف اليمن حاليا ضمن خانة الدول الفاشلة،الأكثر فسادا، بل أسوأ حالا، من الأراضي الفلسطينية والعراق والسودان وجيبوتي.لم يتطور أي شيء لدى اليمنيين،من مقومات حياة الشعوب،طيلة فترة حكمه(1978-2012) ، وبعض الأرقام تتحدث : 45%من الساكنة يعيشون تحت خط الفقر،و35% تعاني جحيم البطالة،وهو الرقم ذاته التي تبلغه نسبة الأمية،ثم مابين 18%و20% ،من الأطفال الذين لم يبلغوا بع سن الرشد لكنهم يعملون في الشوارع،دون استحضار قضية التردي المرعب للأوضاع الأمنية وفوضى انتشار السلاح،كما أن مدينة في حجم صنعاء، مهددة بأن تكون أول عاصمة عالمية،تعاني العطش، إلخ.أسباب،كانت أكثر من وجيهة، كي ينتفض اليمنيون، بتحفيز من الشباب المتنور،استجابة لنداء الربيع العربي.غير أن السعودية،قدمت لعلي عبد الله صالح،بساطا محلقا، تحت مظلة ماسمي بالمبادرة الخليجية،ووفرت له حصانة تحميه من الملاحقة القانونية،داخليا وخارجيا…. بقي النظام السياسي داخل اليمن،بعيدا بعدا سحيقا،عن أبسط أوليات المنحى المؤسساتي،لأن عبد الله صالح حكمه بمنطق الإقطاع العائلي،تتلاقى خيوطه عند شبكة من العلاقات الولائية، والتحالفات المرتهنة، بتبادل المنافع والمصالح،فانقسم اليمن إلى أربع مجموعات : 1-نخب القبائل التي تحظى بمختلف الامتيازات في القطاعات العسكرية. 2 – رجال الأعمال. 3 –وجهاء المناطق4. –النخبة المتعلمة.
عين علي عبد الله صالح،أبناءه وأقاربه في أعلى المناصب العسكرية،ومقابل ولائهم،أطلق لهم العنان، كي يراكموا الثروات، بمختلف الطرق،كسرقة احتياطات الحكومة من العملة، وتهريب الممنوعات إلى السوق السوداء، واحتكار تجارة التبغ، وبناء الفنادق… .لن يكفيه كل ماسبق،لذلك وعلى غرار حسني مبارك والقذافي وحافظ الأسد ،لوح بمشروع توريث الكرسي لابنه أحمد،المشرف على الحرس الجمهوري، وهو بمثابة جيش خاص ضمن الجيش اليمني،حظي بإمكانيات تسليحية ضخمة،وأغدقت على عناصره، صفقات الأسلحة المتقدمة،فقط من أجل توفير الحماية التامة للرئيس وحاشيته المقربة… .
*سنة 1990،الوحدة اليمنية والتربص السعودي :
يوم 22ماي،أعلنت الوحدة بين شطري اليمن،الشمالي والجنوبي.هاجس ،شغل خيال اليمنيين منذ سنوات الستينات ،غير أن العوائق السياسية والاقتصادية،لم تكن بالهينة.بقيت القوى القبلية والدينية شمالا،المرتبطة وجدانيا بالسعودية،ترفض مجرد فكرة الوحدة مع جنوب ”ملحد”،اختار النهج الاشتراكي.بل، إن شخصية مثل أسامة بن لادن،له تأثير قوي على أهل المنطقة،أعلن صراحة معارضته للوحدة،بدعوى أن الجنوب تبنى الماركسية، ومتحالف مع الاتحاد السوفياتي.
بيد، أن التغيرات المتواترة التي عرفها العالم سنة 1989 ،ساعدت على حرق المراحل، لإعلان الدولة القومية، حتى قبل دمج المؤسسات العسكرية والاقتصادية،برئاسة علي عبد الله صالح، وعلي سالم البيض نائبا له.توترت العلاقة مع السعودية،ثم وقعت أحداث حرب الخليج الأولى،فانحاز صالح إلى جانب صدام حسين،متوخيا بصنيعه هذا، إحداث توازن استراتجي في علاقته بالسعودية،المتشبثة بمعارضتها للوحدة. موقف،كلف الشعب اليمني غاليا : 1-شددت السعودية إجراءاتها على العمال اليمنيين. 2-ترحيل قرابة نصف مليون عامل،مما ضاعف مشاكل الاقتصاد اليمني، المنهك أصلا. 3 –في المقابل،رفعت السعودية من مستوى دعمها التقليدي للقبائل ضد الحكومة المركزية،وشحن القوى الدينية المعادية مبدئيا للوحدة.
مابين 1991 و1993 ،عرف اليمن سلسلة اغتيالات. علي عبد الله صالح،الذي وجهت إليه أصابع الاتهام،سيعيد ربط أواصر التحالف بينه والقوى القبلية والدينية، بهدف خلق توازن مع الاشتراكيين،بالتالي سيغض الطرف عن دعوات الجهاديين العائدين من أفغانستان،كي يخلصوه من الاشتراكيين.مآل لم يقبله الجنوبيون،مؤكدين بأن الأمر ينطوي على عملية إقصاء ممنهجة، كي يتفرد صالح ومن ورائه فريق الشمال، بالحكم.تأزمت العلاقة بين الرئيس ونائبه،بدأت المناوشات هنا وهناك ،تدهور الوضع الأمني،ثم اندلعت حرب الانفصال… .
*حرب الانفصال،دعم سعودي للاشتراكيين !!
هي حرب،جرت وقائعها بين شهري ماي ويوليو 1994،بين الحكومة اليمنية في صنعاء والحزب الاشتراكي،للمطالبة بانفصال اليمن الجنوبي عن الشمالي،أي العودة ثانية إلى نظام ماقبل .1990أعلن سالم البيض،نفسه رئيسا لدولة جمهورية اليمن الديمقراطية،وعاصمتها عدن.المفارقة العجيبة،أن السعودية التي اشتهرت بعدائها الشديد للإيديولوجيات الثورية ومن بينها الاشتراكية،صارت من “المقتنعين بها”، حيث بادرت منذ الوهلة الأولى إلى الاعتراف بالمشروع الانفصالي لسالم البيض،ودعمته بالسلاح والمال والدبلوماسية، في أفق نجاح مسعاه.مشروع،ربما لم يقبل به تحت التأثير السعودي،سوى البحرين والكويت والإمارات،في حين رفضته باقي مكونات المجلس الخليجي، مثل قطر وسلطنة عمان،لكن قبلهم جميعا المهندس الأول والأخير، لجيو-بوليتيكية المنطقة، أي الولايات المتحدة الأمريكية.انتهت الحرب،بتكريس دولة الوحدة،وهزيمة سالم البيض،ثم فراره إلى خارج اليمن… .
* 2012 ،الاحتجاجات الشعبية،والمنعرج السعودي:
من منا لم يستأنس يوميا خلال شهور،بنشاط غير عادي لامرأة غير عادية،اسمها توكل كرمان،الوجه الذي غدا فيما بعد عالميا، للثورة الشبابية اليمنية.فتاة ،حظيت باحترام الكون، نظرا لما أظهرته من شجاعة نادرة سواء من جهة تعبئتها للرأي العام ضد أجهزة نظام علي عبد الله صالح،ثم بحكم انحدارها من بنية متكلسة لمجتمع بطريركي،يستحيل على المرأة استحالة تامة، أن تخلق لها مكانا تحت الشمس.بنفس نبرة حكام عرب آخرين،بادر وقتها عبد الله صالح إلى إلقاء خطاب،جازما “أن اليمن ليست تونس”،فخرج مايقارب 16ألف متظاهر يوم 27يناير2011 ،للتنديد بالأوضاع.عاد صالح،من جديد كي يطمئن الغاضبين، بأنه لن يترشح لفترة رئاسية أخرى،وكذا تراجعه عن مسألة توريث الكرسي لابنه.شهر فبراير 2011،بلغت الانتفاضة ذروتها.بدأت، ماكينة القتل، تحصد الأرواح.تمسك المنتفضون بدعوى الرحيل،كما تمسك صالح بالحكم. يوم 3يونيو2011،تعرض لمحاولة اغتيال في مسجد دار الرئاسة،بعد انفجار قنبلة.أصيب، بحروق بليغة، حسب الأخبار التي تداولها الإعلام وقتها.بعد اختفاء،انبعث كطائر الفنيقس،وظهر في بث تلفزيوني من قصر الضيافة بالسعودية،متهالكا، مرددا ذات متواليات الأسطوانة المتهالكة.استمرت التظاهرات،إلى غاية فبراير2012،خلفت ألفي قتيل ومايزيد عن 22ألف جريح.رفض الشباب، مغادرة ساحات الاعتصام.طرحت السعودية، المبادرة الخليجية،التي نصت على تحويل صالح لسلطاته،إلى نائبه المشير عبد ربه منصور هادي،لكنه استمر رئيسا لحزب المؤتمر الشعبي،وبقي أبناؤه على رأس الأجهزة الأمنية.لذلك،منحته المبادرة الإنقاذية،مجالا واسعا للاستراحة،حتى يستعيد أنفاسه،كي يدك أرضا تلك الأطلال، التي انتهى إليها اليمن،في ظل حكمه.