الجرائد المغربية : من حقنا أيضا، مادة إعلامية محترمة!
صبيحة يوم الاثنين،أضافت جرائدنا الورقية، درهما إلى ثمنها الأصلي.لكن،سواء شكلت الجريدة جزءا من الهاجس اليومي للأسرة المغربية،وضع أظنه لازال محض نظرية،ليس فقط نتيجة اكتساح المستجد الاليكتروني ولا أقول بالمناسبة الثقافة الاليكترونية،لأن الأخيرة تقتضي نظاما إبستومولوجيا وسياقا سوسيو-ثقافيا،في إطار حداثة عميقة ومتكاملة، لم ندركها بعد في المغرب.
أريد القول،حتى وإن لم تغدو بعد لدينا الجريدة، حاجة تكاد تكون بيولوجية،إلى جانب باقي الضرورات، التي يستحيل الاستغناء عنها، كما الحال في الدول المتقدمة،بالتالي فهذه الجريدة باعتبارها لبنة محورية ضمن لبنات الجسم الإعلامي للبلد عموما بمختلف أجهزته ومكوناته، تمثل حقا مؤسساتيا ،بل سلطة أولى لضبط عمل آليات اشتغال المنظومة التشريعية والتنفيذية والقضائية.إذن،إذا لم نقتنع، بأن الأمر يتناول ،بهذه الكيفية في المجتمعات الديمقراطية حقا،فلن يتم الاكتراث عند الأغلبية الساحقة،نحو زيادة درهم أو حتى التصدق بالجريدة مجانا ،مادام القليل المكترث، بين صفوف تلك الأغلبية،اللاهثة حاليا وراء غواية أشياء أخرى لاعلاقة لها بتاتا بمجتمع القراءة،تتعارض في غالب الأحيان كليا مع أفقه الناضج والعقلاني، لم يعد يعرف عن عالم جرائدنا،إلا كونه يمر صباحا ويعاود الكرة مساء،فيرمق ذات المعروضات،مستكينة في مكانها حد انكماش جلدها.
لذلك، فمشروعية الحديث عن مدى التماهي مع صدى التسعيرة المادية للجريدة،قبولا أو رفضا، انشراحا أو تأففا،يرتبط مفصليا بدرجة الحميمية التي يستشعرها المستهلك، حين التطرق إلى الموضوع. بمعنى هل يرتشف قهوته الصباحية،باستمرار بغض النظر عن الفصول والتواريخ والأمكنة،منغمسا في تمثل أخبار الجريدة وليس مجرد إلقائه لمحة سريعة على عناوينها الكبيرة؟لذلك، فصفحاتها وثيقة ثمينة، لاستيعاب ما يجري حوله،وما يحيط بمصيره الفردي ثم الجماعي،ومن تم تشكيل إحدى روافد رؤيته للعالم.حينما أسقط تأويلا يظل شخصيا وذاتيا من هذا المستوى،على ماتعرضه الأكشاك المغربية حاليا،فأظن أن جرائد غير قليلة، قد لاتثير لديك أدنى شغف أو باعث أو اهتمام،لمجرد تصفحها،أما أن ترفع ثمنها،ولو بسنتيم،فالأمر يحتاج إلى مرافعة فلسفية!! .
أذكر أني اكتشفت لأول مرة، منذ عقود،مصطلح “الجرائد الصفراء” أو “جرائد الرصيف”،بفضل اليوميات الناطقة باسم أحزاب المعارضة اليسارية،لما كنا وقتها نتوفر في حدود المقبول طبعا،على معارضة ويسار، وتحترم الممارسة السياسية،قليلا من مشاعرنا.قصد النعت بالإدانة، صحفا لم تكن تتجاوز بالكاد العنوانين ولا منتظمة الإصدار، تظهر وتختفي كثعلب محمد زفزاف، للتشويش وتلويث ما يمكن تلويثه،لكنها رغم ضآلة حجمها،وهامشية مجالها، أحدثت سيكولوجيا حالة استنفار، بحيث بدت غريبة جدا وشاذة،عن طبيعة المنحى الفكري المتبلور آنذاك في الأوساط السياسية وما تتوخاه النخبة غير الرسمية بالتأكيد، من نباهة لمسار الشأن العام، والإعلام بنضجه قبل وظيفته، شكل أحد الرهانات المصيرية لتفعيل ذلك السعي.
هي صحف، بدأت تحمل لنا أخبارا، عن الحوادث المبتذلة العادية والجريمة والاغتصاب و”التقشاب” بمضمونه السوقي البليد والاغتياب والنميمة والوفيات والمرضى وأخبار المغفلين والحمقى و”دردشات” تافهة مع أشخاص جد تافهين متخلفين فكريا وسلوكيا،يتم تقديمهم باعتبارهم نماذج فنية وموسيقية… . أذكر،بأنها منشورات لم يكن يلتفت إليها أحد،وتعرض لبعض الوقت ثم تعاد إلى مخازن الخردة،فقد أخطأت عنوانها نحو قارئ مثقف ذكي يهتم بالأفكار ويمتلك أرضية معرفية وتشغله هواجس وجودية قدر كونها سياسية،ويتحرك وسط فضاءات جادة(الأسرة، الحي، المدرسة، الجامعة، الاتحاد الوطني لطلبة المغرب،الهيئات السياسية المعارضة، دور الشباب،الخزانات، المكتبات،الجمعيات الملتزمة،نقاشات الأمسيات الشعرية والمسرحية) أمدته بآليات التحصين العقلاني،وهو الشيء الذي تراجع اليوم بكيفية مخيفة،بسبب ترهل كل تلك الفضاءات، بل وانقراض أغلبها على الأقل في زخمها المضموني، أما الهياكل والأشكال الخاوية فلازالت مستمرة. يحضرني هنا تعليق لصحفي فلسطيني، بخصوص ذات المنحى،متسائلا : هل من الضروري أن تكابد الشعوب وطأة الديكتاتورية الحديدية ، كي تقدم في المقابل، ماهو أجمل وأفضل،ومن بين ذلك المنتوج الإعلامي؟.
أذكر في المجمل،أنها صحف لم تكن تصمد إلا قليلا،مادام الذوق العام لا يستسيغ غير الجريدة،كما يجب أن تكون، وكما رسختها تاريخيا المجتمعات النموذجية:الكتابات السياسية المفهومية العميقة،الملفات الثقافية الرصينة،ترجمات الفكر الإنساني في جميع جوانبه،التعريف بالتجارب السياسية الناجحة عالميا،حوارات نظرية مع أصحاب المشاريع المجتمعية على جميع المستويات،الارتقاء بالذائقة الجمالية للقارئ… ،أرشيفات تاريخ المغرب،كتابات رموز الحركة الوطنية… .
إذا كان وقتها توصيف “الصفراء”، يجهز كليا، محاصرا في المهد،بوادر اختلال فكري قد يصير واقعا قائما، أتساءل حاليا،كم عدد الجرائد التي أرادت لنفسها مع سبق الإصرار والترصد،أن تكون “صفراء”؟ فلا يشتغل أصحابها،وعلى امتداد صفحات تقاس بالكيلو،سوى على أخبار صغيرة جدا، تفترض وجود مخاطب في غاية الغباء،حياته صغيرة وحواسه صغيرة وواقعه صغير ولن يعيش إلا صغيرا.وفق أي مرجعية،ستبرر بها قبولك قراءة جريدة،على سبيل الإهداء،ولم تكلفك درهما واحدا،تنشر بالفعل غسيلا رخيصا، ونتانة على شاكلة : شاب ألقى بنفسه عاريا من سطح منزلهم،لأن خطيبته أخبرته برسالة هاتفية سريعة،أنها لم تعد ترغب في الزواج منه،فوجدانها صار معلقا، بحب صديقه، الذي لم يتوقف منذ أن تعرفت عليه،في تطعيم هاتفها بتعبئات مضاعفة !!!. ، ثم يشرعون في حشو الجريدة، بترصد الخريطة الجينية للشاب المنتحر،وفصيلة المعشوقة ونوعية المحمول ومقدار التعبئة،إلخ.
إذن كل يوم وعلى امتداد الأسبوع،ستصادف “استحمارا” من هذا النوع،باسم مبررات يتباهى دعاتها بنبوغهم التجاري أو بالأحرى الميكيافلي الوقاد، لأنهم فهموا السوق أكثر من غيرهم،حيث الإعلام حسب رأيهم،لا يختلف قطعا عن قطع البطاطس والطماطم وشفرات الحلاقة،المهم المردودية المادية :البعد المقاولاتي للصحافة المعاصرة؟القارئ الجديد المشبع بالتقنية يريد هذا،ويشمئز من تحليل لفكر مونتسكيو؟الزمن تغير وانقضى عهد الإيديولوجيات الكبرى؟الصحافة التي تنصت لنبض الواقع؟… .
بناء على العلاقة الجدلية الدقيقة جدا بين الإعلام والمجتمع،بحيث يستحيل أن تخلص إلى جواب جازم بخصوص أولوية الترتيب التأثيري والتأثري،بين الحدين: من يجر قاطرة الثاني، الإعلام أم المجتمع؟ يلاحظ مع الإفراط في الدهشة،أن دعوة كتلك إلى فكر ”اللايت”light، “الخفيف الظل”، تتمأسس حاليا في المدرسة والجامعة و”التكوين العلمي” المطلوب للولوج إلى الوظائف العامة قصد تسيير الشأن العام،وما يطلبه الناشرون من مسودات، وما يطمح إليه رؤساء تحرير “المجلات المحكمة”،من مقالات، وما يريده المستمعون والمتفرجون من أغاني ومسرحيات وبرامج إذاعية وتلفزيونية،…،دون الولوج من قريب أو بعيد،لأنها غدت مملة،على الدوامة السوداء المؤطرة لكل ذلك،والمتمثلة في النسق الذهني والسلوكي،الذي ينضده آنيا “رموزنا’ السياسية من تنابز وتنابذ و”تدابز” وسخرية ومكيدة ومقالب وتلصص وضحك على الجميع.
أخيرا،وبما أن الوضع على هذه الشاكلة،فالقضية تتجاوز كثيرا ثمن درهم قابل للتعويض،كي تمس في الجوهر ثمن منظومة قيم مجتمع بأكمله،يستحيل تماما أن يستقيم أمره بغيرها.