بذور الارهاب المختارة
في مجتمعاتنا الاسلامية تشكل الأخلاق الركن الأعظم في بناء الاسر وتحضرها ، حتى غدت العنوان الذي تعرف به أصالة الأسرة وعراقتها ، بل إن استمرار الأمة ورقيها رهين بتشبثها بطيب الاخلاق . والى هذا يشير الشاعر بقوله :
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت (====) فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ولعل هذه الثقافة ، ثقافة الاخلاق ، المركوزة في لا شعور السواد الأعظم من الأمة عبر العصور هي ما يفسر ذلك الميل الفطري الى الأحزاب ذات المرجعية الاسلامية على امتداد الرقعة التي تتخذ الاسلام دينا رسميا في دساتيرها ، فأغلب المواطنين في هذه الدول ، في اعتقادي ، لا يهمه من برنامج الحزب لا خطوطَه العريضةَ للنهوض بالاقتصاد الوطني ، ولا استراتيجيته لمحاربة البطالة والتهميش ، ولا فلسفته التعليمية والبحث العلمي ، ولا هو يهمه تصوره للنهوض بالأوضاع الصحية للمواطنين … لأنه ، طبعا ، لا يكلف نفسه عناء قراءة هذه البرامج … كل ما يهمه من الحزب نشر الاخلاق وفرض الحجاب على المرأة في إطار تعميم البُرقع لتحصين الأسرة من الثقافة الغربية “الفاجرة” ، ثم لا باس إن هو حطم مآثر تاريخية غنية تسميها “الاصنام” بالصواريخ والدبابات كما فعلت طالبان ذات يوم بتمثال بودا عندما سادت في أفعانستان وكما تفعل اليوم الدولة الاسلامية في العراق والشام “داعش” في ” تدمر” و ” بابل” لتخلَّد في سجل منجزاتها ومساهماتها لنشر الاسلام ومحاربة الاوثان .
كما يهمه ” تطبيق شرع الله ” كما دعا الى ذلك السلفيون في مصر ومعهم شرذمة من الإمعيين مباشرة بعد أسابيع من تولي الرئيس المصري المعزول محمد مرسي الحكم ، فقد حشدوا الحشود وخرجوا في تظاهرة مليونية مباشرة بعد صلاة الجمعة تحت شعار : ” الشعب يريد تطبيق شرع الله ” ، وقد كان لهذه التظاهرة الضخمة أثر كبير في تفتيت صف الاسلاميين بكل أطيافهم بمصر ، وشرْعُ الله في نظرهم ليس أكثر من جلد الزاني والزانية وقطع يد السارق وحجاب المرأة وارتداء الجلباب وقص الشارب والعفو عن اللحية وتشكيل فرق الامر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقد يهمه من الحزب الاسلامي الوقوف في وجه “أعداء الله” الذين يدعون الى منع تعدد الزوجات والمساواة في الإرث بين الذكور والاناث ، والحرية الجنسية كما نلمس ذلك عند الكثير من الذين صوتوا لحزب العدالة والتنمية المغربي . فالكثير من المواطنين تحركهم الغيرة على الدين الذي بدأت ، في نظرهم ، بعضُ أركانه تتعرض للهدم من طرف العلمانيين والعلمانيات الذين تقوت شوكتهم واتسعت قاعدتهم بفضل جمعياتهم التي استفادت من دعم مالي وإعلامي كبيرين مباشرة قُبيل وبعد مجيء حكومة التناوب بقيادة عبد الرحمان اليوسفي ، ولا يمكن تفسير مسيرتي الرباط والدار البيضاء الضخمتين التاريخيتين يوم 12 مارس سنة 2000 غداة عرض مشروع ” الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية ” على البرلمان والتي تمت صياغتها طبقا لمقررات مؤتمر بيكين ، إلا بكونهما استعراض للقوة بين أنصار المحافظة على الاخلاق وبيضة الأسرة كما رسمتها نصوص الدين الاسلامي وهذه هي مطالب مسيرة البيضاء ، وبين دعاة الاصلاح حتى تساير قوانينُ أسرتنا القوانينَ والأعراف الدولية وهذه مطالب مسيرة الرباط . وقد كان لهذا الحدث ، حدث المسيرتين ، دور كبير في تصاعد شعبية حزب العدالة والتنمية باعتباره الحزب الاسلامي الذي يمكن الوثوق به لإسماع صوت الشعب المتدين بطبعه في غياب حركة العدل والاحسان المحظورة والتي تتميز مواقفها بالتشدد والاصولية . فقد تمكن هذا الحزب وهو أقلية في المعارضة آنذاك من حشد مليوني مشارك في مسيرة اعتبرت الأضخم في تاريخ المغرب ، وبعثت برسائل قوية الى الداخل والخارج مفادها أن تشبث المغاربة بأحكام دينهم في مجال الأحوال الأسرية غير قابل للمساومة ، وانتهى المخاض بميلاد ” مدونة الأسرة ” التي جاءت صناعة مغربية شبه خالصة ، كشفت عن الوجه ” التقدمي ” المنفتح جدا لأحزاب الكتلة آنذاك ورفعت في نفس الوقت من أسهم حزب العدالة والتنمية الذي بدأ يشق طريقه نحو النجومية لولا أحداث ماي 2003 الدامية بالبيضاء والتي استغلتها صحافة أحزاب الكتلة آنذاك التي ذاقت حلاوة ” كراسي الحكم ” لتكيل التهم لكل ما هو إسلامي وترد على الضربة القاضية لمسيرة البيضاء ، مما أجبر هذا الحزب الاسلامي على نهج خطة ” الانسحاب التكتيكي من الساحة ” الى حين انجلاء الغبار الذي ينذر بعودة دولة ” الداخلية ” الى عادتها القديمة .
لكن ، ما الذي تغير بين الأمس واليوم ، وجعل هذا الحزب يبتلع لسانه ويصم أذنيه عن هذه المنكرات التي يسهر على حمايتها وتوفير الأمن والأمان لعشاقها ؟ لماذا لم يتدخل لتغيير المنكر بيده وهو الآمر والناهي ؟ أهو السكر والهيام بكرسي الحكم أعمى البصر والبصيرة ؟ أم هو قانون اللعبة في حضرة السياسة وتدبير شؤون الدولة ؟
هناك عدة أمثال شعبية متداولة تصلح لتكون مدخلا لتفسير هذا المكْر، مكر الزمان بأهله ، من قبيل : ” ما تْعيَّبْ ما تبلى ” أو ” باش قتلت باش تموت يا ملك الموت ” … والخوض في هذا يطول ، لكنني أود أن أستحضر بعض الحقائق التاريخية لأنها ستعطي للصورة أبعادها كاملة .
أولا ، كان المغرب يعيش أزمة اقتصادية خانقة كادت تؤدي به الى ما يسمى ” السكتة القلبية ” وكان المغاربة يعيشون حالة من الغليان ألهب فتيلَه ما تعيشه الأمة العربية من هجمة أمريكية على العراق وتضييق على الإخوة الفلسطينيين وكان الحسن الثاني يبحث عن المُخلص الذي لم يكن سوى عدو تاريخي هو حزب الاتحاد الاشتراكي الذي صعد نجمه بفضل بعض برلمانييه الذين قدموا للمغاربة وعودا بالتشغيل والنهضة ومحاربة الفساد وحماية الطبقة العاملة ووو … ، و شكل عبد الرحمان اليوسفي حكومة التناوب ومضت سنة ثم سنتان وانتشر الفساد بكل أنواعه ونشطت حركة الخصخصة التي يحاربها الاشتراكيون واغتنى الحزب ” البروليتاري ” واتسعت الهوة بين طبقات المجتمع ، ومات الحسن الثاني بين أيديهم وانتقل الملك بسلاسة الى وريثه محمد السادس ، واستطاب رفاق لينين الفيلات والسيارات الفاخرة فنفضوا أيديهم من الشعب وتصارعوا على المناصب في الحكومة الثانية بل وتحالفوا مع “أعداء الامة” بحسب وصفهم ، وسكت كبيرهم عن الكلام المباح الذي طالما صدّع به رؤوسنا عندما كان برلمانيا ، وخرج المغرب من غرفة الانعاش صحيحا معافى بفضل أموال الخصخصة وليس بفضل إبداع خبراء الاقتصاد . لتعود عملية تعيين الوزير الأول كما كانت قبل حكومة التناوب ، ويشعر الرفاق أنهم كانوا حقا أغبياء حين صدقوا “نكتة التناوب” على السلطة دون أن تكتب في الدستور الجديد .
ثانيا ، عندما هبت رياح الربيع العربي ، كان ملك المغرب في طليعة زعماء الدول الذين استجابوا لمطالب الشعب في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ، لذا تم تشكيل لجنة أعدت دستورا جديدا وتمت المصادقة عليه بنسب قاربت السقف بحسب إحصائيات وزارة الداخلية . ثم أجريت انتخابات برلمانية شهد جل المتتبعين على نزاهتها ، وقادت حزب العدالة والتنمية ليتصدر المشهد وهو يُلوح بشعار ” محاربة الفساد ” بكل أشكاله ، ويشكل حكومة ائتلافية . وبعد أشهر قليلة من الاستوزار لاحت في الافق ملامح حرب طاحنة بين وزراء العدالة والتنمية من جهة وبين بعض المؤسسات النافذة في الدولة من جهة ثانية ، أبرزها الضجة التي أثيرت عندما نشر الرباح لوائح المستفيدين من رخص النقل العمومي ( الكريمات ) ، فقد تشكل لوبي المنتفعين من الوضع القديم واستغلت المعارضة الضجة وحشرت أنفها في الموضوع وبخَّست ما قام به الوزير معتبرة الامر مزايدة سياسية … ولم تخمد هذه الضجة حتى برزت بؤرة أخرى للفتنة عندما أقدم وزير الاتصال على وضع خطة لإصلاح المجال السمعي البصري ، فخرج مدير القناة الثانية عن صمته وأعلن الحرب على الحكومة معتمدا على دعم الدولة العميقة فأضاف جرعة من ” لَـبْسالة ” على البرامج التي تقدمها قناته ، و لم تغب اللمسة الفوضوية للمعارضة مرة أخرى في الموضوع . فتراجع الوزير وهو يتحسس رأسه من شدة اللسعات لأنه اقترب من عش الزنابير . ثم اندلعت حرب شرسة بين القضاة وبين وزير العدل حول إصلاحات كانت تنادي بها بالأمس القريب ، فلما ارتسمت معالمُها رفضتها بحجج واهية …
وبين هذا وذاك كانت الفضائح تتوالى لترسم مشهدا سرياليا ، وكأن قدر هذه الحكومة أن تسير في نفق محفوف بما حملت لواء محاربته حتى تتعايش مع الفساد والمفسدين ، فكلمات أغنية “عطيني صاكي ” أثارت ضجة نظرا لكلماتها العفنة وفضيحة وزير “الشكلاط” يراد لها أن تطال كل أعضاء الحكومة حتى تكون التهمة عامة :” إنكم لسارقون ” وفضيحة ملعب مولاي عبد الله عكست الاختلالات التي تعرفها عمليات المناقصة والصفقات العمومية ومكنت العالم من متابعة مقابلة في كرة القدم ومسرحية البنيات التحتية التي ‘نقوي’ بها ملفنا لتنظيم كاس العالم . أما قصة زواج الوزير بالوزيرة التي لم تنه عدتها بعدُ وما أثير حولها من لغط ، فاختلط فيها الحقيقي بالخرافي ، ولكنها تعكس تربُّص المتربصين بحكومة الاسلاميين ، ولعل ما يعزز هذا الاستنتاج ما حدث بمهرجان موازين لهذه السنة من استعراض للأرداف السمينة والصدور العارية بمنصات الرباط ، وحتى لا يُحرم المغاربة في باقي المدن والبوادي والجبال من “ثواب” المشاهدة فقد تكفلت قناة ‘ مصطفى الخلفي ‘ بنقل هذا الطبق الشهي الى عقر بيوتهم تجتمع عليه الأسرة حتى تزول إرسابات الحشمة والتخلف والانغلاق والتزمت من النفوس ، فلا يجد الأخ والأخت حرجا في مشاهدة فيلم ” الزين اللي فيك ” الذي توج هذا المسلسل من الفضائح ، والذي أظهر بجلاء أن المغرب لم يعد يحمل من دولة الإسلام إلا الاسم أما قيم الأخلاق والاحترام والعفة … فقد حوربت بمثل هذه الأعمال البورنوغرافية التي تلتحف برداء الفن .
خلاصة القول ، فإن الآمال المعقودة على حزب العدالة والتنمية ، في حماية الأسرة من التفكك ، وتثمين القيم السامية والسمو بأخلاق المجتمع قد تبخرت ، ونحن هنا لا نلوم الحزب ، فقد جاء في ظل إكراهات سماها رئيس الحزب ” التماسيح والعفاريت ” ووجد في طريقه عقبات ومنعرجات خطيرة أقواها الدولة العميقة بفلولها ، وأقلها المعارضة التي انحرفت عن مسارها التاريخي وصارت تشكل كتلة واحدة مع أعداء الوطن والدين لعرقلة كل الاصلاحات ، بل لقد عملت على تكريس الفساد وتشجيع الفضائح وتقوية نفوذ المفسدين نكاية في حكومة الاسلاميين ، ولو أنها تحملت مسؤوليتها ودعت الى تظاهرة شعبية لرفض كل هذا الاستهتار بالأخلاق العمومية ، لوجدت الشعب الى جانبها كتلة واحدة كما فعل في مسيرة الدار البيضاء .
كما أننا لم نلُمْ حكومة اليوسفي على إخفاقاته في التشغيل ومحاربة الهشاشة لأننا نعلم يقينا أن نيته صادقة للإصلاح وأن يديه نظيفتان ، ولكن الدولة العميقة تأبى إلا أن تُبخس إنجازات الناجحين وتحتسي الخمر بفم المصلحين .