لماذا فقدت السياسة شرفها؟
يُذكر ان ونستون تشيرتشل، رئيس وزراء بريطانيا السابق وبطل الحرب العالمية الثانية الذي جعل بريطانيا تنتصر،مر يوماً على مقبرة،فقرأ على أحد الشواهد:”هنا يرقد السياسي الشريف فلان الفلاني”،فقال تشيرتشل عبارته الشهيرة ساخرا:”هناك خطأ،من غير المعقول أن يكون سياسياً وشريفاً معاً في قبر واحد”. إن رجل السياسة حسب تشيرتشل في قوله هذا إما ان يكون شريفا او سياسيا، فلايمكن ان تجتمع الصفتان في رجل واحد هو على قيد الحياة او هو في قبر واحد .فتشيرتشل في كلامه هذا لم ينطق عن الهوى، بل نطق بعلم عن عالم سبر أغوار بحره كرجل سياسة. بل أكثر من ذلك، سبق له ان صرح أكثر من مرة وبدون نفاق إنه ارتكب من الجرائم لصالح بلده ما لو ارتكبه في داخلها لقضى حياته كلها في السجن . وربما هذا ما دفعه إلى خلع صفة الرجل الشريف على رجل السياسة مثلما فعل قبله فيلسوف النذالة الاجتماعية مكيافيلي الذي حاول تقنين قاذورات السياسة، وستظل السياسة كذلك كعمل قذر حتى بعد موقع ويكيليكس الذي يفضح النفاق السياسي، لأن ما يتم خلف الأبواب المغلقة غير ما يعلنه السياسي خارجها مزوقا ومضللا حين يكون أمام أضواء الكاميرات أو على منصات الخطابة… فما الذي جعل هؤلاء إذن يصدرون مثل هذا الحكم السلبي على رجل السياسة الذي يفترض فيه ان يكون شريفا ونبيلا؟،وهل ينطبق مثل هذا القول على السياسي عندنا اليوم؟
ما يعرفه الجميع، هو ان السياسة في الأصل عمل شريف، ويفترض فيها ان تكون كذلك، رغم ان بعض التعريفات تصفها بغير ذلك ،تلك التعريفات التي حاول بعض الفلاسفة ورجالات السياسة تصحيحها ،ومن بين هؤلاء الرجالات شارل ديغول الذي حاول تدارك وتصحيح هذه التعريفات السلبية للسياسة حين قال :”ربما ليس هنالك أخلاق في السياسة، لكن ليس هنالك سياسة حقيقية ومجدية على المدى الطويل بدون أخلاق”..نحن هنا نتفق مع قول ديغول ،و نعتقد ايضاإن السياسة عمل شريف ونبيل لأن السياسي يأتمن على حياة وحقوق و اموال واعراض الناس. وهذا ما جعل من السياسة في النظام الديموقراطي الدستوري المسؤول شرف وفضيلة .وهذا ما يمنح للسياسي والعمل السياسي في هذا النظام الذي يؤسس للأخلاق السياسة المسؤولة قيمة عليا.. السياسي اليوم في بلدنا الذي يؤسس لدولة الحق والقانون هل اكتسب مثل هذه الخصال الاخلاقية الحميدة التي تجعل من السياسة عمل شريف ونبيل؟، لا اعتقد ذلك، وإذا تابعنا ما يعترف به الناس،وينتقدون به كثيرا من أعضاء الطبقة السياسية الحاكمة في الصحف الورقية والالكترونية وفي مواقع التواصل الاجتماعي الساخرة ، فسنجد أن انعدام الشرف السياسي أصبح الظاهرة السياسية الأبرز .فما نراه اليوم هو ان كل سياسي قبل الوصول الى كرسي السلطة يبدل الغالي والنفيس بمكر ودهاء وهو يتكلم بإسم الشعب والمصلحة العليا للوطن ، وتراه في بحر ذلك يعد الناس بإدخالهم الى جنة عدن اذا ما وقفوا الى جانبه وصوتوا لصالحه. لكن ما ان يصل على اكتاف جماهير الناس المخدوعين حتى تراه قد تنكر لأصله ولغالبية الشعب، وتراه اكثر من ذلك، يخدم منافعه الخاصة ومصالحه العائلية والحزبية ومصالح الحاشية أو العصابة المنافقة التي ساهمت في إنجاحه ولو على حساب المصلحة العامة، وتراه يسمي عمله هذا للأسف ب”الشطارة”..وهذا ما جعل من السياسة اليوم تفقد شرفها مع هذا النوع من الكائنات البشرية السياسية القذرة.هذا النوع من السياسيين الثعالب وما أكثرهم حين نريد ان نتعامل معهم او نريد ان نحدد سماتهم ، نجدهم مثل «الجاكيت»، الذي أحد وجهيه من الصوف والآخر من الجلد – أي يلبس على «الوجهين» – بل إن منه ما بإمكانك أن ترتديه على أربعة أو خمسة وجوه، وفق «ثمن» القماش ونوعه .واينما وليت وجهك في المقاهي والاندية والشوارع والفيسبوك و شاشات الفضائيات تراهم يثرثرون ويخطبون ود الناس، ويكاد ينزلون إلينا ايام الانتخابات حتى من صنابير المغسلة اويصعدون الينا أعزكم الله من افواه دورات مياه البيوت طلبا لأصواتنا بعد ان جردونا من كل شيء مع غلاء أسعار المواد الغدائية و الارتفاع الصاروخي لفواتير الماء والكهرباء. ولاندري مع هذا العبث المهزلة ،ما الهدف من ازعاج الشعب؟ أهو الضغط بأشكال مختلفة حتى يكره الشعب الديموقراطية ودفعهم للابتعاد عن المشاركة بالحياة الديموقراطية والانتخابات لكي يستأثر البعض بالانتخابات دون غيرهم؟
الدليل الثاني على انعدام الشرف السياسي، إغماض الاعين عن مطالب الشعب وصراخه وتاريخه وكرامته رغم ان الجميع يتحدث بإسم الشعب ومن اجل الشعب.ففي الدول الديموقراطية يقوم الشرف السياسي على الانفتاح على الشعب ،ويقوم العمل السياسي كله من أجل خدمة أفراد الشعب المستضعفين قبل خدمة الأغنياء، ويقوم ايضابالتحقيق في كل اتهام يوجه لأي سياسي مهما كان وزنه أو حجمه أو منصبه، وهو الامر الذي لن يتحقق عندنا لأسباب كثيرة لايمكن عدها وحصرها.. لا نتحدث هنا عن الأخلاق السياسية، فهي لم تعد موجودة لدى هذه الطبقة التي جمعت حولها من يعتبرون أن الأخلاق في السياسة مجرد مكيافيلية، يؤمن بها بعض فقهاء الدين وأساتذة الجامعات! ولكننا نتحدث عن القانون في دولة هي دولة الحق والقانون!
الدليل الثالت على انعدام الشرف السياسي،هو انه ،إذا كانت الفكرة فيما مضى هي الثورة على ظلم الاحتلال والثورة على استغلال الانسان واستغلال ثروات البلاد والعمل على تحرير الوطن والانتقال الى الجهاد الاكبر لبناء البلاد والانسان ، فإن الفكرة بعد الاستقلال لدى أغلب قبائلنا الحزبية الكارتونية المبللة بالماء صارت مع النهب وكراسي السلطة، والإستوزار، والخيانة، والإنتهازية، والإستبدال في السيارات الفارهة، و تعدد الزوجات، وامتلاك المزارع، والاشتراك في المؤسسات التجارية التي تعيد رأس المال لأصحاب الايدولوجيا الاستعمارية، والإفتاء بما هو في صالح الحزب اوالجماعة وليس الشعب..وهكذا وجدنا انفسنا مع هذا العمل الدنيء امام أكبرعملية احتيال ونصب سياسي نفذت على تاريخنا الحديث بعد الاستقلال. ولاغرابة ان يمضي على هذا الاستقلال أكثر من خمسين سنة ومازلنا نسمع داخل وطن واحد وموحد ويا للمهزلة تصنيفات من قبيل :مغرب نافع وآخر غير نافع.أيعقل ياقوم ان تغفل أجزاء كبيرة من جسد وطن واحد وموحد؟،وطن يهاجر ابناؤه من أجزائه المهملة والمنسية الى الضفة الاخرى..وطن يبحث فيه متضرروه كل يوم ويا للخسارة عن مغادرته الى عالم أخر ارحب وأوسع . عالم يعيد للأنسان أدميته التي افتقدها في وطنه بعد طول إهمال ونسيان.
الدليل الرابع على انعدام الشرف السياسي، هو ان اغلب قبائلنا الحزبية تطرح شعارات وطنية، لكن الحزب مايزال هو الوطن واكبر من الوطن الحقيقي. اغلب قبائلنا الحزبية تطرح شعارات سيادة القانون ولكن نفوذ القبائل الحزبية فوق القانون ويعطل القانون ولذلك يستشري الفساد لأن القانون بيد السياسة وليس العكس.وهذا ما جعل من الناس يفقدون الثقة في السياسة، وبات من يثق فيها في عالمنا هذا كمن يغرس راية النصر في قالب من الثلج تحت أشعة شمس حارقة.وبسبب انعدام الثقة في السياسة وفي الاحزاب صار التحزب أقلية والشعب اغلبية.. وحتى الآن لم يتم فصل الوظائف العامة التي تتصارع عليها القبائل الحزبية الوصولية الإنتهازيةعن حزبيتها. حتى الآن لم يجد المواطنون من خارج القبائل الحزبية مكانهم في الدولة وهذه مهزلة كبيرة. المستقلون من الشعب الذين يشكلون ملايين البسطاء والفقراء الذين يريدون، كما يريد الديمقراطيون، حكم القانون والمساواة والعدالة والفرص المتكافئة ونصيب ولو صغيرا من الثروة على شكل تعليم نافع صحيح وفرص عمل وسكن ومدن صالحة للعيش ومغرب أخضر وخدمات صحية حديثة عبر نظام صحي مخطط وانساني وكهرباء وامن ومساواة في المعاملة وان تكون الشرطة والادارة في خدمة أمنهم وراحتهم وكرامتهم لم يجدوا بعد مكانهم في الدولة خارج الأحزاب.وحتى إذا انخرطوا في جمعيات المجتمع المدني ، فلادعم لهم إن لم يكونوا واجهات وأبواق لأحزاب اوشخصيات غلاض شداد تستغلهم لجمع الاصوات بشراء الذمم. وعادة ما تكون منظمات المجتمع المدني جزءا حيويا من الفضيلة السياسية فإذا بها تتحول في مثل هذه الحالة إلى جزء متواطئ ومتورط في انعدام الشرف السياسي. إذ يستطيع آي سياسي أو وزير أو نائب أو حزب أو مقاول مع هذا الوضع شراء شرف المجتمع المدني ب5 الاف درهم او أقل.
نعم نملك احزابا ، لكن أغلبها أحزاب ديكورية بدون شرف سياسي ،أحزاب عاشت حياتها وهي تلعب وتمثل المسرحيات على الشعب وتدعي زورا وبهتانا بأنها تمثله وتدافع عن حقوقه،وتسمى عملها هذا ويا للمهزلة ب”اللعبة”التي يلعبها الكبار. و”اللعبة” كما تعلمون ،هي كل عمل غير جاد . ولأنها لعب وليست جدا،فبديهي أن يحدث كل ما نرى من مهازل والعاب وتفاهات بهلوانية سخيفة في كل موسم من مواسم السيرك الانتخابي العجيب،فكيف ننتظر مثلا من حزب سياسي ان يدافع عن مصالح الشعب وهوحزب ليس فيه من المناضلين سوى الرئيس وبطانته الفاسدة والختم، وترى هذا الرئيس بعد بيات شتوي طويل يتحوّل في مواسم الانتخابات إلى اشبه ما يكون بصعلوك يرأس شركة ذات المساهم الواحد، يتاجر في سلعة وهمية مقابل مئات الملايين، ليحتال على أميين ومغفلين وطماعين أصحاب “الشكارات”الذين يشترون منه التزكيات.. ؟،أفلم تساهم مثل هذه الاحزاب الوصولية الطفيلية بافعالها القذرة في تحويل مبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، الى مبدأ وضع الرجل غير المناسب في المكان الخطأ؟، ألم تساهم مثل هذه الاحزاب في تولي العدد الاكبر من الوصوليين الطفيليين غير الاكفاء مسؤوليات اكبر منهم وليس لديهم مؤهلات لتوليها ؟..ثم ماذا ننتظر من أحزاب تلعب لعب الاطفال ويجرف بعضها البعض ويكيد بعضها لبعض وما ان ينتهي العرض حتى تسدل الستارة الثقيلة على الجماهيرلتعيش عرسها الحقيقي الذي خطفته من الشعب الذي أوهموه في البداية بأنه عرس أقيم من أجله كشعب؟، ثم يا تُرى هل من الأخلاق أن يدفع الوطن والشعب ثمنا لصراع الساسة على مصالحهم الخاصة والعائلية؟..نعم لدينا سياسيين، لكن أغلبهم سياسيين افقدوا السياسة شرفها وعاشوا حياتهم مع قانون الغاب والإحتيال .يساريين ويمينيين ،إسلاميين وغير إسلاميين .عاشوا حياتهم من أجل مصالح جماعاتهم السياسية وقبائلهم الحزبية وحدها بعيدا عن شريعة حقوق الانسان والإنفتاح على المواطن البسيط الذي يتكلمون بإسمه.مؤسف جدا ان نقارن مع هؤلاء بين حقوق الانسان عندنا وبين حقوق البقر الهولندي أو الكلاب الامريكية أو الغنم الاسترالي، لأن المشهد سيكون مأساويا ومروعا ولغيرمصلحتنا ،فالحيوان في الغرب الديموقراطي يعيش بآمان واطمئنان لأنه يعرف مصيره، بينما الانسان عندنا فلايزال يعيش مرعوبا لأن مصيره المجهول مع “اللعبة”القذرة بأيادي العفاريت والحرامية أصحاب المصالح الخاصة..إن ما لايعرفه الكثير من هؤلاء الحرامية ،هو ان الانسان الذي يستغلونه ويتخدونه كوسيلة لتحقيق اغراضهم الخاصة الدنيئة أسمى من الملائكة الذين أمرهم الله أن يسجدوا له فسجدوا له إلا إبليس، فكم من الأبالسة لدينا اليوم في بلدنا قياسا على هذا المنطق ياترى؟..وهنا لن نحتاج الى خمسة أمخاخ لكي نفهم لماذا يحتقر ويهمش سياسيو البلد أبناء شعبهم ؟، لأن السبب بكل بساطة هو أن كل ما يملكه الشعب من وسائل الإطاحة السلمية الإنتخابية بالسياسيين الذين افقدوا السياسة شرفها أصبح في “اللعبة” بيد السياسيين أنفسهم عبر التزوير والكذب وإطلاق المال السائب وبإعلام مأجور غير مستقل وغير مهني الذي هو أيضابيدالحكومة أو بيد الأحزاب.فالرأي العام مصادر، يعني لاسلطة رابعة حقيقية في البلاد حيث يتم خنق الصحافة الحرة المستقلة التي تعمل على خطوط المواجهات اليومية الساخنة بتكميم أفواه العاملين فيها ..ومن جهة أخرى، ماذا ننتظر من مواطن يعيش في ظلمة الهامش برطوبتهاوقساوتها الباردة ولادور له في “اللعبة”التي لايلعبها الا ما يسمونه ب”الكبار” دفاعا عن مصالحهم الخاصة بلاشرف سوى ان يعزف عن الانتخابات ويتخد حيالها موقف الفرجة والسلبية ، او يبيع صوته بأبخس الاثمان مادام الأمر يتعلق بما يسمى ب”اللعبة”التي تفتقد الى الجد.وإنها للعبة سخيفة ومقيتة حقا !.ومن سيوقف هذه اللعبة المهزلة لعلكم تفلحون؟
مقال في الصميم . ولكن درب الديمقراطية طويل ، لانها لا تستورد بل يجب ان تنمو مع النمو والنضج الفكريين للمواطن