أولئك آبائي فجئني بمثلهم(الحلقة الثالثة)

0 503

“والله إن ذنوبي أهون من مثل هذا،ولكني أخاف أن أسلب الإيمان قبل الموت” سفيان الثوري.

               “اذهب فاطلب العلم حتى أعولك بمغزلي”أم سفيان الثوري.

في هذه الحلقة الثالثة من سلسلة الحلقات الرمضانية-بعد أن طفنا في بستاني علمين جليلين(الفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم)،وقطفنا قطوفا دانيات و ثمارا صالحات- سنحط الرحال في بستان آخر من بساتين المعرفة الفيحاء،وحدائق الإيمان الغناء من خلال عابد من العباد(لأنه كان كثير السجود طويله كما ذكر علي بن الفضيل بن عياض أنه طاف سبعة أسابيع(أي أشواط) على الكعبة وسفيان الثوري ساجدا،كما سجد سجدة لم يرفع فيها رأسه حتى نودي لصلاة العشاء)، وزاهد من الزهاد،ومحدث من المحدثين الملقب من طرف شعبة بن الحجاج وما أدراك ما شعبة بن الحجاج(وهذا اعتراف من فك أسد)، زيادة على سفيان بن عيينة،وأبي عاصم النديم ويحيى بن معين ب”أمير المؤمنين في الحديث”على شاكلة شيخه أبي مسطام شعلة بن الحجاج الواسطي وهي ألقاب(مثل الحافظ، والحاكم، والحجة، وثقة ثبت)يطلقها من حاز من علماء السلف شرف العلم والمعرفة في الجرح والتعديل، والورع والصلاح:انه سفيان الثوري(نسبة إلى جده ثور)-الذي صارت تعقد عليه الخناصر وصار اسمه يعبر القرون والأجيال-المولود في الكوفة سنة سبع وتسعين للهجرة(في زمن الخليفة سليمان بن عبد الملك بن مروان)،والمتوفى سنة واحد وستين بعد المائة من الهجرة،مما يدل أنه شخصية مخضرمة عاشت في أواخر حكم الأمويين(المنتهي سنة اثنتين وثلاثين بعد المائة)،وجزءا من حكم العباسيين.كما أن عالمنا نشأ في بيت علم، وعمل وأدب:فقد كان أبوه محدثا –سعيد بن مسروق الثوري الكوفي،وهو من أصحاب الإمام الشعبي-وما أدراك ما الإمام الشعبي-ومن سادة صغار التابعين،)،”وأمه كانت امرأة صالحة دفعت ولدها منذ صغره نحو طلب العلم، وقالت له:”اذهب فاطلب العلم حتى أعولك بمغزلي”( لأنها كانت تشتغل في غزل الصوف وتصرف على ابنها سفيان، فوقفت ظهرا لابنها الذي لم يؤت،ولذلك فوراء كل رجل عظيم أم وليس امرأة،مما يدل على أهمية البيئة الصالحة في التنشئة الاجتماعية والتربوية والبناء المستقبلي للأفراد والجماعات)،وما هي بأول أم علمت ابنها، و أهدت للأمة عالما عابدا زاهدا،صار أسوة، وصارت طريقته مذهبا ومنهجا(فإمام أهل الشام الإمام الأوزاعي رحمة الله عليه ربته أمه أيضا،والإمام البخاري ربته أمه أيضا،والإمام الشافعي ربته أمه أيضا):فقد أوصت أم سفيان ولدها،وهو صبي-يحكيها سفيان بعدما كبر،مما يدل على أنه حفظها وعمل بمقتضاها- يذهب إلى الكتاب يحفظ القرآن، ويكتب بعض الحديث قائلة له:”يا بني إذا كتبت عشرة أحرف،فانظر هل ترى زيادة في عقلك وعملك،فان لم تر فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك”:فعشرة أحرف تعني إذا كتبت أي كلام لأن الكلمة أو الحرف تطلق أحيانا على الجملة مصداقا لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم:”كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمان، ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم”،فنحن أمام جملتين:الجملة الأولى هي: “سبحان الله وبحمده”(قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم كلمة)،والجملة الثانية”هي سبحان الله العظيم”( وهي كلمة ثانية أيضا). والشاهد عندنا أن أم سفيان توصيه-حتى لا يكثر حجج الله على نفسه بأن يعلم ولا يعمل أو يهمل- أنه إذا كان يأخذ العلم عن شيوخه ويعمل بمقتضاه،ويرى زيادة في عقله وعمله،فان هذا العلم ينفعه،وإذا كان يتلقى العلم فقط،ويطوي صفحاته دون أن يرى له أثرا في عقله وعمله،فان ذلك العلم يضره ولا ينفعه.وهذا يعني أن العلم إمام للعمل،بل المقصد الشرعي التعبدي من العلم والتعلم،إنما هو العمل مصداقا لقوله تعالى:”وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”(التوبة105)،فلا يجب إهمال العلم وعدم العمل به،وهذا مثله مثل ما حدث للفضيل بن عياض رحمه الله الذي جاءه جماعة من طلاب الحديث،فقالوا له:”حدثنا يا أبا علي”،قال:”أنتم مفتونون، وهل عملتم بكل ما سمعتم”؟حدثني الأعمش قال:”إذا أخذت اللقمة فرميت بها خلف ظهرك فمتى تشبع؟”:يعني إذا أخذت الكلام،فطوحت به وراء ظهرك،فمتى تعمل به؟يقول أبو عبد الرحمان السلمي(الذي أخد القرآن عن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود رضي الله عن الجميع):”حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن أنهم ما كانوا لا يتجاوزون العشر آيات من كتاب الله عز وجل حتى يعملوا بهن،فإذا عملوا بهن انتقلوا إلى عشر أخرى، وهكذا تعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا.”-.كما أن عالمنا من الشخصيات الدينية المفترى عليها(بحيث نسب إليه قول مزعوم ،وهو منه بريء براءة الذئب من دم بن يعقوب،وهو قوله:”أكون بريئا منك-أي من الله تعالى- إن دخل أبو جعفر مكة” شأنه في ذلك شأن الإمام أبي حنيفة وهارون الرشيد(الخليفة العباسي المشهور مثل نار على علم)،إضافة إلى كونه فر من يطش أبي جعفر المنصور لما رفض تولي القضاء،ولاذ بالبيت الحرام وجاور الكعبة”،كما كان فيه تشيع يسير”(على حد تعبير الحافظ شمس الدين الذهبي)لأنه كان يثلث بعلي بن أبي طالب –لأنه يقول بأفضلية علي على عثمان ويضعه في المرتبة الثالثة،ولو أنه من أهل السنة والجماعة،و ليس من الرافضة الذين يسبون عثمان بن عفان والشيخين، ولا يطعن في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولا يقول بتحريف القرآن الكريم، ولا بعصمة الأئمة، ولا بالمهدي المسردب،ولا بالمتعة،ولا بالخمس-،والحال أن أهل السنة والجماعة(الذين يمسكون العصا من الوسط ولا يميلون لطرف دون الآخر)يخطئون من يقدم في الفضل- لا في الخلافة- عليا كرم الله وجهه على عثمان بن عفان،ويبدعون من قدم عليا على الشيخين:أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ومن قدم غيرهم عليهما،فهو”ضال أضل من حمار أهله”(راجع رسالة الواسطية لشيخ الإسلام بن تيمية).ومرد هذا التشيع والتحزب كون سفيان الثوري رحمة الله عليه قد نشأ في الكوفة معقل الشيعة( في شخص علي بن أبي طالب رضي الله عنه)، كما كان أهل الشام يتعصبون لبني أمية(في شخص معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه)لأنهم كانوا يعيشون بين ظهرانيهم(أثر البيئة والمحيط والسياق).

أما المخالفة الثانية التي يؤاخذ عليه سفيان الثوري من قبل العلماء،فهي قوله بجواز شرب نبيذ التمر،والحال أن”كل مسكر خمر وكل خمر حرام” وكفى بالمرء أن تعد معايبه،فلكل عالم هفوة، ولكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة،رغم أنه “رجع عن ذلك”التشيع والقول في النبيذ بعد أن تبين له الحق –لأن العلماء يدورون مع الحق حيث دار خاصة في زمن أطلت فيه البدع برؤوسها،وكثر أهل الأهواء والفرق والخروج والرفض والقدر والإرجاء- كما ذهب إلى ذلك الحافظ الذهبي رحمة الله عليه.وعليه،فقد”جمع الثوري بين العلم والعمل والزهد والورع والعبادة والجهر بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومجافاة السلاطين والأمراء، والفرار من المناصب والتحرز من الشبهات حتى صار درة الدهر وبركة العصر وحجة الله على الخلق”.كما أنه”لو وجد الثوري من التلاميذ والأتباع من يقوم بمذهبه وعلمه، لظل مذهبه قائمًا حتى الآن ومن ضمن المذاهب المتبوعة المعروفة، ولكنه مثل الليث بن سعد، وأبي ثور و الأوزاعي وغيرهم من الأئمة الذين لم يجدوا من يقوم بهم وينشر علمهم.”.جاء شعيب بن حرب-كما حكى الحافظ الذهب في مصنفه- فقال له:”حدثني بحديث في السنة ينفعني الله به،فإذا وقفت بين يدي الله عز وجل وسألني عنه قلت: حدثني بهذا سفيان،فأنجو أنا وتؤخذ أنت”،فقال له سفيان:اكتب بسم الله الرحمان الرحيم ،القرآن كلام الله غير مخلوق(خلافا للمعتزلة) منه بدأ واليه يعود(…)،والإيمان قول وعمل ونية يزيد وينقص،وتقدم الشيخين(أبي بكر وعمر رضي الله عنهما)،ولا ينفعك ما كتبت حتى ترى المسح على الخفين، وحتى ترى أن إخفاء بسم الله الرحمان الرحيم أفضل من الجهر به(يعني في الصلاة)،وحتى تؤمن بالقدر،وحتى ترى الصلاة خلف كل بر وفاجر(لأنه من صحت صلاته لنفسه صحت إمامته بغيره)،والجهاد ماض إلى يوم القيامة،والصبر تحت لواء السلطان جار أو عدل( إذ لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمام، ولا إمام إلا بسمع وطاعة على حد تعبير عبد الله بن عمر رضي عنهما.).

ومن أقوال وحكم الإمام سفيان الثوري نذكر ما يلي:

-“إياك وما يفسد عليك دينك،فإنما يفسد عليك دينك مجالسة ذوي الألسن المكثرين للكلام(…)،وإياك والمعصية فتستحق سخط الله، واعلم، يا أخي، أن الله لا يدخل أحداً الجنة بالمعاصي، وأن داود خليفة الله في الأرض نزل ما نزل به بخطيئة واحدة؛ فاتق الله يا أخي واجتنب المعاصي وأهلها، وأبغض مجالسة الجهال والفجار وصحبتهم، وإياك وخشوع النفاق أن تظهر على وجهك خشوعاً ليس في قلبك.”.

-“يأتي على الناس زمان تموت القلوب وتحيى الأبدان”.

-“ما أحسن تذلل الأغنياء عند الفقراء،وما أقبح تذلل الفقراء عند الأغنياء”

– “ثلاثة من الصبر:لا تحدث بمصيبتك،ولا بوجعك،ولا تزك نفسك”.
– “إذا زارك أخوك فلا تقل له:أتأكل؟أو أقدم إليك؟ فان أكل وإلا ارفع عليه” .

ولما كانت لكل بداية نهاية،فيحكى أنه لما حضرت سفيان الثوري الوفاة ونام على فراش الموت بكى وعلا صوته،واشتد نحيبه،فدخل عليه رجل فقال:”يا أبا عبد الله أراك كثير الذنوب تبكي إلى هذا الحد خوفا من ذنوبك،فأخذ سفيان الثوري عودا من الأرض،وقال له:”والله إن ذنوبي أهون من مثل هذا،ولكني أخاف أن أسلب الإيمان قبل الموت”(الخوف من سوء الخاتمة والعياذ بالله).ودخل على سفيان الثوري حماد بن سلمة،فقال له:”ابشر يا أبا عبد الله انك مقبل على من كنت ترجوه،وهو أرحم الراحمين،فالتفت سفيان إلى حماد وقال له:أسألك بالله يا حماد أتظن أن مثلي ينجو من النار؟” وكان مالك بن دينار رحمة الله عليه يقوم الليل يبكي،وقبل الفجر يقبض على لحيته ويقول:”لقد علمت يا رب ساكن الجنة من ساكن النار،ففي أي منزل مسكن مالك بن دينار؟.” .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.