الخطة الجهنمية
بمدينة صغيرة بإحدى الواحات ، عاش عباس مع أفراد أسرته الصغيرة المكونة من زوجة وخمسة أبناء ، حياةً هادئة لا يُغير من رتابتها إلا بعضُ الأحداث التي تصيب كل الأسر كموت قريب أو مرض فرد من الأفراد . عباس ممرض يحرص كل الحرص على أن يوفر لأسرته كل ضروريات العيش الكريم من مأكل ومشرب وملبس … ، ورغم أن مدخوله الشهري من وظيفته لا يسمح له بتلبية كل المطالب التي تكبر يوما بعد يوم، فإنه يتدبر شؤونه على حساب هواياته ورغباته الشخصية ، فقد تخلى عن التدخين وقبل ذلك تخلى عن ارتياد المقهى الذي كان يلتقي فيه كل مساء مع الأصدقاء للسمر . كان همه الوحيد من هذه الدنيا أن يرى أبناءه قد تعلموا وحصلوا على أرفع النتائج ليحققوا نجاحات تضمن لهم مستقبلا زاهرا ، لذا سطر برنامجا يوميا وألزم نفسه وأبناءه باحترامه بكل صرامة وانضباط : بعد السابعة مساء تُعطل جميع وسائل الاتصال والترفيه ، ليتم التواصل مع الكتب والكراسات في جو من الرهبة والسكون لمدة قد تزيد على الساعتين ، تليها فترة لتناول وجبة عشاء خفيفة ، يأوي بعدها الكل الى فراشه . ولم تكن لتذهب هذه الصرامة وهذا الجِد هدراً ، فقد كانت نتائج الأبناء دائما سارة ومُرضية تُشعر الأبوين بنوع من الراحة النفسية لا مثيل لها .
عند وجبة العشاء لهذا اليوم أخبر عماد ، الإبن البكر للأسرة ، أباه أن المستشار في التوجيه التربوي قد زارهم بالمؤسسة ، وبيَّن لهم المسالك والشعب التي يمكن اختيارها بعد اجتياز الباكالوريا ، وأبدى حيرة كبيرة في الاختيار لأن نتائجه الدراسية تؤهله لولوج أرقى المدارس . غير أن والده أراد أن يصرف اهتمام ابنه عن التفكير في هذه المشكلة منذ الآن ، فسأله :
– أنت الآن في السنة الأولى باكالوريا ، كم بينك وبين التعبير عن رغبتك ؟
– عند نهاية السنة المقبلة ، ولكن ….
وقبل أن يسترسل في كلامه قاطعه الأب وهو يربت على كتفه :
– ولكن يجب عليك يا بني أن تركز على الحاضر ، لا ينبغي أن نشتت أفكارنا .
– أريد فقط أن أوضح أن اختيار الشعبة من الآن سيسمح لي بالتركيز أكثر على المواد الأساسية التي تشترطها المدارس العليا للقبول ، وهذا ما أخبرنا به الموجه .
– أخشى يا ولدي أن يكون هذا على حساب بقية المواد ، عليك أن تهتم بكل المواد هذه السنة وفي السنة المقبلة عندما يتبين لك الطريق الذي ستسلكه ، لك أن تضاعف من تركيزك .
– التركيز على بعض المواد لا يعني إهمال بقية المواد ، ولكن يساعد على تحقيق علامات جيدة ، ولو لم تكن لهذه التدابير أهمية لما كانت هناك حاجة للموجِّه التربوي ، إنه بمثابة المدرب الذي يضع خططا ويرسم أهدافا بعيدة المدى للنجاح ، بل إن فلسفة التوجيه أصبحت علما قائم الذات له أصول وقواعد .
كانت الأم تتابع هذا الحوار ، وقد اقتنعت بدفوعات ابنها وصواب رأيه ، فأضافت :
– صحيح يا ولدي ، لو أننا نرسم أهدافنا ونخطط لبلوغها لحققنا المستحيل ، إن أباكم لا يرى من هذه الدنيا الا موضِع قدميه ، أما مستقبل الأبناء وسعادتهم فلم يُدرج على قائمة اهتماماته .
نزل كلام الزوجة على قلب عباس كوخز إبرة ، فنظر إليها نظرة إشفاق ، وقد أدرك ما ترمي إليه عند حديثها عن المستقبل ، وهو يقول :
– عاش من عرف قدره .
ثم خاطب ابنه ، وهو يحاول أن يتجاهل الموضوع الذي ما انفكت تلوكه زوجته عند اقتراب كل عطلة صيفية :
– لاشك يا ولدي أنك تفكر في مدرسة عليا ؟
– أجل ، أمنيتي أن أصير طبيبا مثلك .
رد عليه الأب وهو يبتسم :
– بشرط ، ألا تشتغل معي في نفس المستشفى لأنني لن أسمح لك أن تكون رئيسا لي .
قال الابن مستغربا :
– لا يمكن للعين أن تعلو على الحاجب يا أبي ، وتجربتك في الميدان تؤهلك لتكون رئيسا للمستشفى .
فأجابه الأب بكل حزم :
– إن رئيسنا بالمستشفى أصغرُ مني عمرا وأقل تجربة ولكنه حاصل على مجموعة من الشواهد … الشواهدُ العليا هي مفتاح الترقي ثم بعد ذلك التجربة والأقدميةُ . ولكن الأهم في نظري أن تترقى في أعين زبنائك ، فقد لاحظت أن أرفع وسام يمكن أن يتقلده المرء في هذه الحياة هو أن يَحسُن ذكرُه بقضاء حوائج الناس …
استمرت هذه الجلسة الحوارية بين الأب وابنه لوقت طويل ، طرقا خلالها مواضيعَ كثيرة ، ولم يقطع خلوتَهما إلا صوتُ الأم تنادي ابنها للنوم .
قام عباس الى فراشه ، غير أنه لم يكد يلقي بجسده على السرير ويطفئ الأنوار حتى انهال عليه صدى صوتِ زوجته : ” … أما مستقبل الأبناء وسعادتهم فلم يُدرج على قائمة اهتماماته .” كانت كلماتها تقرع أوتار مخه فيهتز قلبه اهتزازا عنيفا ثم يمتد هذا العنف في العروق فيصير دبيبا ثم عرقا غزيرا ، وضع كفيه على أذنيه ، لكن الصوت ما زال يعلو ويتضخم ثم تحول الى لوم وتوبيخ : ” أنت يا عباس أناني ، لا تفكر في سعادة أبنائك ، أنت فاشل ، أنت لا شيء ….” استدار على جنبه الأيمن ثم الايسر ثم نهض وهو يستعيد بالله من وساوس الشيطان و بدأ يتلو بعض الآيات القرآنية ثم تناول كوبا من الماء ، وعاد لينام لكن هذه الوساوس ما زالت تقض مضجعه …
لاحظت الزوجة أن عباس يعاني من مشكل ما ، غير أنها آثرت أن تنتظر الوقت المناسب لتسأله عما يؤرقه ، لذا أخذت في بسط تقريرها اليومي عن تصرفات الأبناء ومشاكساتهم أثناء غياب الأب ، وهي أحداث عادية و بسيطة لكنها لا تخلو من مقالب يرفضها الآباء لكنهم يستمتعون بسماعها ، أحست بحدسها أنها تصيح في وادٍ وأن زوجها لم يسمع أية كلمة مما قالت ، فبادرته بالسؤال :
– عباس ! كيف تصير الأمور بالمستشفى ؟
– بخير .
– هل وافقت على المسلك الذي سيختاره عماد بعد الباكالوريا ؟
– طبعا .
– وماذا أعددت لذلك ؟
– مثل ماذا ؟
– سكن يأوي إليه طبعا .
أحس عباس أن زوجته قد حاصرته بهذا المطلب ، وأن نجاح ابنهما وانتقاله الى مدينة أخرى لاستكمال دراسته سيعزز من مطلبها ، فرد عليها متضجراً :
– أنا لا أرى من هذه الدنيا الا موضع قدمي ، أنا فاشل ، أعترف بذلك .. هل اطمأن قلبك ؟
– أنا لم أقصد هذا يا عباس ، إنك تُحمل كلامي أكثر مما يحتمل .
– كلامكِ لا يحتمل أي تأويل آخر ، هل تعتقدين أن شراء مسكن لائق بالمدينة في متناول موظف محدود الدخل مثلي ؟ أتسخرين مني ؟ .
– مَعاذ الله ولكن ، ألا يمكنك أن تستدين ثمن شقة متوسطة لدى مصرف ؟ كل الموظفين مثلك يتدبرون أمرهم بهذه الطريقة ، انظر الى من حولك .
– وبعد أن يشرع المصرف في الاقتطاع من أجرتي الشهرية ، كيف سنتدبر خبز يومنا ؟
– لابد من إيجاد حل .
– كيف ؟
– بوضع خطة تقشفية ، نستغني بها عن بعض المأكولات .
– أتريدين يا امرأة أن أقتل أبنائي بيدي ، هذه خطة انتحارية ، إن التخطيط بدون إمكانيات حلم مزعج ومدمر، كما أن الامكانيات بدون تخطيط إفلاس ظاهر .
– لكنني لا أستطيع أن أطمئن على سلامة ابني بعيداً عنا .
– لكل أجل كتاب ، سأتدبر الأمر حين لا مناص .
قضى عباس ليله مسهدا يفكر بجد في الموضوع ، فرغم أن طلبات زوجته بضرورة اقتناء مسكن بالمدينة لم تكن وليدة اليوم ، فإنه هذه المرة أحس بوقعها العنيف على قلبه ، وانتهى به تفكيره الطويل بتماهيه مع الفكرة ، لقد أكتشف أخيراً أنه ضيع الكثير من الفرص للحصول على مسكن وبأثمنة تشجيعية دون حاجة للجوء الى مصارف ، فقد عُرضت عليه بقع أرضية يؤدي ثمنها موزعا على أقساط وبدون فوائد . ها هو الآن بين كماشة النفقات التي تزداد يوما بعد يوم ، يستحيل معها الاِدخار أو حتى توفير بعض الدراهم تحسبا لتقلبات الزمان . عليه الآن أن يتدبر الأمر ، الوقت ليس في صالحه ، بعد شهور معدودة سيحتاج الإبن عماد لمأوى خاص رفقة والدته حتى يتابع دراسته في ظروف مريحة ، هو جوهرة الأسرة ولا يمكن للأم أن تتركه منذ سفره الأول يواجه مصيره رفقة فئة من الطلبة قد يؤثرون على مساره الدراسي .
عند الفجر ، قام عباس من فراشه متثاقلا وقد نال منه العياء والألم ، أخذ حماما ساخنا ثم توجه كعادته الى عمله على مثن دراجته النارية ، وقد عزم على مباشرة البحث عن أفضل العروض لاقتناء مسكن مناسب ، قضى صبيحة ذلك اليوم في تقصي بعض المعلومات من أصدقائه في المهنة ، وفي المساء توجه الى مصرفه للاستفسار عن الحد الأقصى للقرض الذي يمكن أن يستدينه ، والأقساط الشهرية التي ستقتطع من أجرته . ولم تغرب شمس هذا اليوم حتى ارتسمت أمام عيني عباس ملامح شقته من حيث المساحة والموقع ، كان كل شيء يسير بعكس ما توقع : ابتسامة الموظفين بفضاء الاستقبال ولباقة المدير جعلته يعتقد أنهم يسخرون منه ، ولكن الملفات التي بين يديه تعطيه ثقة أكبر بأنه يتلمس طريقه الى شقته بثبات .
بعد صلاة المغرب بقليل ، دخل عباس الى بيته يزف الخبر السعيد الى أفراد أسرته ، لم يعد يفصله عن امتلاك مسكن غيرُ إجراءات التوقيع والمصادقة على بعض الوثائق ، وبعد ستة عشر شهرا سيتسلمون المفاتيح ، وهي المدة التي تفصل عماد عن نيل شهادة الباكالوريا . عمت الفرحة كل أرجاء البيت ، وانقلب ذلك النظام الذي اعتاده الأبناء في هذه الفترة من كل يوم الى ضجيج وضوضاء لو اطلعت عليهم لحسبتهم مساجين انفلتوا من عقالهم ، أما الأب فأسرع الى غرفته لقراءة مضامين عقد السلف ، كان يقرأ بنود العقد حرفا حرفا ، يتوقف قليلا للتفكير، يعيد القراءة … كل شيء واضح ، بقيت عقبة واحدة ، تدبير الاقتطاعات الشهرية ، ألفا درهم كل شهر، كيف سيتدبر أمرها ؟ فكر في التراجع ، لكن فرحة الأبناء التي تتناهى الى سمعه من فناء البيت تحاصره ، لا يصح اغتصاب فرحة من قلوب الأبرياء مهما كان الثمن … فجأة ضرب بقبضة يده الأوراق المبعثرة أمامه وصاح :
– وجدتها ، وجدتها اللعنة كيف أنني لم أهتدِ الى هذا التدبير منذ زمان .
سمعت الزوجة صيحات زوجها فأسرعت إليه متسائلة في استغراب :
– ماذا وجدت ؟
– وجدت حلا للاقتطاعات الشهرية .
– إذن انت موافق على الخطة التقشفية
– لا ، هذه خطة جهنمية ، سيتوقف الأبناء عن تلقي الدروس الخصوصية الى أن نسدد كل الدين .
– ألن يكون لذلك تأثير على نتائج الأبناء ؟
– لا أعتقد ذلك .
غمرت الزوجةَ غبطةٌ شديدة ، فقالت وهي تتمايل وتبتسم :
– أرأيت ، لقد أصبحت مهندسا في التخطيط .
تمت كل الاجراءات بسلام ، ومنذ أن بدأت الاقتطاعات الشهرية تقضم مبلغا هاما من أجرة عباس ، حتى أصبح يقضي ليله في غرفته يدقق حساباته ، ويظل نهاره يحدق في جيوب المرضى ، كي يعالج عجز ميزانيته الشهرية . أما الأبناء فقد استمتعوا بالكثير من الحرية ، كانت الدروس الخصوصية تشغل حيزا كبيرا من وقتهم ينجزون خلالها فروضهم المنزلية ويتلقون دروسا في الدعم ، أصبح لديهم الآن كل الوقت للاستمتاع بمشاهدة التلفاز واللعب مع أطفال الحي . أما عماد فقد انضم الى مجموعة من الشبان للمذاكرة ، كان يشعر بينهم في البداية بالغربة ، فقد جعله النظام الذي فرضه والده بالبيت منغلقا على نفسه ، وكثيرا ما كان موضوعا لأحاديث أقرانه الساخرة ، كانوا يلقبونه ب” إنشتاين الخُبْري” فهيأته وتواضعه توحيان بشاب زاهد في الدنيا ، غير أن قوته الضاربة تكمن في الدرس والتحصيل ، خاصة حل المعادلات الرياضية . اندمج عماد في هذا العالم الجديد بسرعة فائقة ، مما مكنه من التعرف أكثر على الحياة السرية للشباب ، حياة الرحلات و اللهو والمغامرات ، أحس كأنه مارد خرج من قمقم الى عالم واسع بدون قيود ، يريد أن يجرب كل شيء ، انقلب هدوؤه الى زوبعة هائجة . وبقدر ما كان ينغمس في حياته الجديدة ، كان يزداد عزوفا عن أهله الى حد الكره ، كان يأوي الى غرفته وقد يسهر الليل كله في التراسل الالكتروني مع أصدقاء مفترضين . وقد لاحظت الأم هذا التحول الذي طرأ على حياة ابنها وخاصة بعد المراسلات التي توالت من طرف إدارة المؤسسة والنتيجة الهزيلة التي حصلها في نهاية الموسم . و كلما حاولت أن تنبه زوجها الى ضرورة التدخل العاجل ، كان يصرفها بحديثه عن فترة الشباب والمراهقة .
بعد ستة عشر شهرا ، تسلم عباس مفاتيح شقته الجديدة ، وقبل أن يَقفل راجعا الى مدينته ، قام بجولة سريعة في غرفها ، تفقد الأبواب والنوافذ ونوع الصباغة والأرضية والصنابير .. لم ترق الى مواصفات الجودة المطلوبة ولكنها ملجأ مريح لقضاء العطل ، ومكان آمن لاستقرار الابن عماد خلال دراسته الجامعية .
على عتبة الدار، وبينما كان عباس يستعد ليزف الخبر السعيد لأهله ويحتفلوا بالمفاتيح الجديدة ، رن هاتفه المحمول وجاءه صوت صارم بدون مقدمات :
– هل أنت عباس الممرض ؟
أجابه بهدوء :
– نعم سيدي من أنت ؟
– إدارة الشرطة …
– ما الأمر ؟
– يؤسفني أخباركم أن ابنكم عماد قد ضُبط يتعاطى المخدرات خلف أسوار المؤسسة ؟
– ماذا ؟ ابني أنا يتعاطى المخدرات … مستحيل ؟
لم يصدق عباس ما يسمع و شعر بالأرض قد تزلزلت تحت قدميه وخارت قواه ، وعقدت الصدمة لسانه ، بينما هرولت الزوجة الى فناء البيت تصيح وتولول ، وتحطم كل ما تصل إليه يداها ثم اعتدلت أمام زوجها وهي تصرخ:
– أنت السبب ، حطمت مستقبل ابني ، اذهب الى شقتك الجديدة ، اذهب الى الجحيم ، لا أريد أن أراك ، أريد ابني … ابني ضاع ، وا أسفاه …
استجمع عباس قوته ورد على زوجته ببرود :
– ألم أقل لك يا امرأة ” إن التخطيط بدون إمكانيات حلم مزعج ومدمر ” ؟