تحقيق الخيال وتخييل الحقيقة لدى محمد عز الدين التازي

0 866

توطئة:

سنحاول في هذا المقال الافتتاحي الاشتغال على بعض أعمال الناقد و الكاتب الروائي المغربي محمد عز الدين التازي(رواية المباءة أنموذجا)، من خلال ضبط شبكة العلاقات القائمة بين هموم الكتابة الروائية وأسئلة القضايا النقدية لدى هذا الباحث، وأشكال مساهمة الوعي النقدي في إنتاج كتابة روائية جيدة، من منظور تحديد مفهوم الكتابة بكل شروطها وطقوسها عموما، والكتابة الروائية خصوصا،من زاوية احتفاء الروائي بالحرف،وعشقه الصوفي للكتابة إلى درجة الغواية و الجنون من خلال المزج بين الواقع والخيال، وخلط الممكن بالمستحيل لتتشكل “كيمياء اللغة-وهذا يحيلنا على كتاب”لذة النص”لدى الناقد الفرنسي رولان بارت-(إيمانا منه بأن من مهام الرواية كتابة”سيرة الناس والأشياء،وسيرة المتخيلات،وسيرتها الخاصة”)،ومحاولة فهم هوية الكاتب بكل عنفها وعنفوانها،ووحدة الأجناس الأدبية عبر تحطيم”الحواجز الجمركية”المفتعلة بينها، والدفاع المستميت عن مفهوم الكتابة عبر النوعية الذي طالما قعد له الناقد المصري الحداثي” ادوارد الخراط” من خلال مشروعه الضخم”الحساسية الجديدة في الرواية العربية الجديدة”انطلاقا من أعمال وتصورات رواد الرواية الفرنسية الجديدة في الغرب(“ألان روب غرييه” و”نتالي ساروت”)عبر تجاوز” الكليشيهات” النمطية الجاهزة للبطل التقليدي في الأعمال الروائية الكلاسية،وهدم محدودية الزمان والمكان كما يحدث في الحياة اليومية،والإلحاح على أهمية انخراط و تعاون محفل القارئ من أجل حل لغز الرواية(استدعاء مفاهيم الباحث السيميائي الايطالي أمبرطو ايكو)،ورصد مفهوم التوتر السردي،وتعانق السردي والشعري.

-بطاقة تعريف:1

يعد الباحث محمد عز الدين التازي صوتا روائيا لامعا،ورمزا نقديا من رموز الكتابة الروائية والنقدية المغربية الجديدة من خلال جمعه بين التنظير للنقد الروائي، وإحاطته بمختلف أصوله، و تياراته، واتجاهاته،وممارسته لفعل الكتابة الروائية-وهو ما لا يتأتى لكل الباحثين- (ست عشرة رواية وسبع مجموعات قصصية لحد الآن)،بفعل تخصصه في الأدب العربي برحاب جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس-العاصمة الروحية والعلمية للمغرب-وتلقيه العلم على يد كوكبة من شيوخها وصناع الفعل الأدبي والدرس النقدي فيها أمثال النقاد: محمد برادة، وأحمد اليابوري، والمسرحي حسن المنيعي والشعراء من قبيل:أحمد المجاطي، ومحمد الخمار الكنوني، وعبد الله راجع ،ومجايلته لعدة أصوات إبداعية تتلمذوا جميعا على يد تلك القامات السامقة نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الشاعر محمد بنيس،والروائي أحمد المديني،مما أهله لتبوء منزلة خاصة في مجال البحوث الأكاديمية المتخصصة بحكم اشتغاله أستاذا جامعيا في المدرسة العليا للأساتذة بتطوان شمال المغرب.

2-أسئلة الرواية أسئلة النقد: يؤكد الباحث محمد عز الدين التازي أن من مشترطات الكتابة الروائية الأصيلة ضرورة امتلاك المبدع لوعي نقدي يؤهله للإلمام بأدوات وتقنيات صناعة الكتابة قصد بناء “المعمارية السردية”،على اعتبار أن الفن الروائي يسعى إلى إعادة بناء عالم تخييلي بديل(العالم الكامن في أتون الذاكرة) من خلال توجيه سهام النقد اللاذع للواقع المعطى سلفا سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا ،وثقافيا،علما أن الوعي النقدي يساعد الناقد على كتابة روائية تتسم بالعمق والأصالة،في حين أن النظرية النقدية -التي تستند على أساس نظري منهجي- تمكن القارئ الناقد من بلورة مشروع قراءة عاشقة منتجة،استحضارا للوعي المزدوج الذي راكمه الباحث التازي من خلال جمعه بين التنظير النقدي والمنجز الروائي. فكيف يوفق الباحث بين هذين الجنسين الأدبين المختلفين؟

نقرر،منذ البداية،أن الكاتب الحداثي محمد عز الدين التازي سعى منذ اكتوائه بنار الكتابة-أواخر الستينات من القرن العشرين- إلى هدم الحدود الوهمية المصطنعة بين الأجناس الأدبية،وهذا ما يفسر احتفاءه بالتعدد على مستوى الأشكال الفنية واللغوية والفضائية والأصوات السردية،من منطلق أن التجريب محطة أساسية من محطات فعل الكتابة الحداثية. وبهذا الفهم، تفاعل التنظير النقدي بالكتابة الروائية لديه على أساس أن كتابته للرواية كانت تصدر عن مقاربة نقدية منهجية ترسم أمام القارئ طقوس الكتابة وأدواتها وعناصرها،أي يضع أمامه كيفية كتابة الرواية، وهذا ما يصطلح عليه عند الناقد عبد الله الغذامي ب”الكتابة ضد الكتابة.”.

3-أطروحة نص المباءة الحكائية والنقدية:

أ- أطروحة النص الحكائية:تتمحور رواية المباءة على شخصية مجنونة تدعى”قاسم الروداني” التي تقوم برعي قطيع من القطط،وتعيش على فائض القيمة المالية المحصل عليها من خط شواهد القبور،والقاطنة في غرفة من غرف أو ملحقة من ملحقات ضريح الولي الصالح،والعاشقة حتى النخاع للحروف والكلمات التي تخطها على الجسد، وعلى شواهد القبور،وتحتفي بها مصكوكة منقوشة على صدر افتتاحيات الجرائد،فتمشي منتشية جذلانة هائمة بها في الشوارع والأزقة،مما يعكس مفهوم الكتابة الروائية لدى التازي من خلال بلورة مقاربته النقدية المؤسسة على وحدة الفنون بناء على العلاقة المتضمنة بين الخطاط المجنون المهووس بفعل الكتابة وفنه ،ويرسخ الارتباطات الحميمية بين الكاتب الروائي والخطاط والنحات والموسيقي الذين يشتركون في القدرة على خلق أشكال فنية غير مسبوقة، وبناء عالم متخيل على أنقاض عالم واقعي،ويتقاطعون على مستوى عشقهم الصوفي للفن رغم اختلاف وتنوع الأدوات الفنية المستعان بها. ومن هنا،فالكاتب الروائي باعتباره فنانا،كائن ملسوع بنوع من الجنون من خلال ولعه بالكتابة وفناءه فيها إلى درجة الاتحاد والحلول بالفهم الصوفي بين القلم وذات المبدع وأصابعه ويديه،مما يجعل من النص الأدبي تجسيدا فنيا للذات المبدعة على الورق.يقول الخطاط قاسم الروداني بطل الرواية مخاطبا ازميله:”أنت أصابعي،أنت يدي وعيني وجسدي ،أيها الازميل”(ص9) ويقول مخاطبا الحرف:”هذا ماء عيني وهذا ماؤك أيها الحرف،ومائي ينسكب في مائك فتصير أنت الماء وأصير أنا الماء”(ص121)وهذا العشق الصوفي لفعل الكتابة جعل الكاتب يعتقد أن أسمى ما ينتجه المبدع الرواءي هي الحروف التي تخيل لها أصواتا وألوانا ومعان بحيث اعتبر أن لكل حرف ارتعاشته وغوايته وفتنته(المشابهة بين الحروف والماء للدلالة على رمزية الكتابة و ايحائيتها وقدرتها على بناء عولم تخييلية جديدة من خلال أبعادها الايروسية الشبقية). يقول قاسم الروداني:”أنهار حروف،حرف ضاحك وحرف عابس”(ص132). ومن ثمة، تكون الكتابة فضاء خصبا للإحساس باللذة والنشوة لأنها تتيح للكاتب المبدع فرصة التخلص من الأمراض النفسية العالقة بوجدانه وضغوطات صخب الحياة ورتابتها،يقول قاسم الروداني مخاطبا ازميله:”اكتب الشهادة،يا أنت يا اصبعي ويدي وعيني،اكتب حروفك بعنف التوحد الشبقي بين المادة وبين لهيبك اللامرئي اعطني النشوة اعطني راحة الإحساس بالتكون والبدء كساعة اللقاح الشجري.“(ص10 (

ب- أطروحة النص النقدية:

يرى التازي نوعا من العلاقة المفترضة بين الذات الكاتبة وبين تمثلاتها للمحيط،إذ بدون الكتابة -التي تمنحنا القدرة على إدراك سحر العالم وجماليته- نشعر بكآبة العالم ووحشته،مما يولد انفعال الكاتب بالوجود لأن الكتابة تجدد علاقة الكاتب به و تمنح حياته معنى(تلميح لوحدة الفنون المومأ إليها سابقا)،يقول الخطاط قاسم الروداني الذي يخيط الجرائد بالليل ليرتديها بالنهار:”أشعلت الشمعة وخشيت أن تحرق الجرائد فيشب حريق في الغرفة يحرق الحروف، أخذت حذري وجعلتها قريبة مني،فان أحرقتني فذلك أفضل من أن تحرق الحروف،حتى وهي ليست حروفي،فحروفي محفورة بالازميل على الرخام،وهذه حروف مطبوعة على ورق الجرائد، ومع ذلك فلا فرق”(ص136 137).وبهذا الفهم،ففعل الكتابة انصهار لبوثقة الواقع بالخيال،الممكن بالمستحيل(ارتباط الإبداع بقوى لامرئية خفية مجسدة في الجن الدال على الجنون) الذي أكده المبدعين العظام أمثال امرئ القيس بقوله:

      تخيرني الجن أشعارها     فما شئت من أشعارهن انتقيت                       

ويقول أحد الرجاز:

     لما رأوني واقفا كأني     بدر تجلى في دجى الدجن

غضبان أهذي بكلام الجن   فبعضه منهم وبعض مني

وبهذا الافتتان الشبقي الايروسي بالحروف والكلمات،يرسخ الكاتب الطابع القدسي للحروف التي طالما احتفى بها الفكر الصوفي ممثلا في محيي الدين بن عربي الذي جعل لها حياة وذلك في كتابه الشهير”الفتوحات المكية”-إذ في البدء كانت الكلمة-بقوله:”إن الحروف أمة من الأمم،مخاطبون ومكلفون،وفيهم رسل من جنسهم،ولهم أسماء من حيث هم،ولا يعرف هذا إلا أهل الكشف من طريقتنا،وعالم الحروف أفصح العالم إنسانا وأوضحه بيانا.”.

بناء على ما سبق،نستنتج أن التازي يشدد على ضرورة ارتباط الرواية العربية المعاصرة بالإمكانات الهائلة التي يوفرها التراث السردي العربي. وهذا ما يفسر خلقه شخصية روائية وهمية سماها”ابن ضربان الشرياقي”،يقول في مطلع رواية المباءة:”وإذا رأيت أعمى يسير في الظلماء وفي يده نافوس،فاعلم أن من وراء سعيه لذة الوصول الى ساعة المشاهدة واعلم أنه يرى أكثر مما يسمع،وأن عينيه تنظران إلى مسافة أبعد مما يضئ فانوسه،فما أجمل العمى إذا كان على هذه الحال وما أعزه في هذا العصر”ابن ضربان الشرياقي(ص3) كما يحيلنا الأستاذ التازي،علاوة على هوية الكاتب الروائي ومفهومه لصناعة الكتابة الروائية،على طقوسه الخاصة في الكتابة من خلال استعادة أسئلة الفيلسوف الفرنسي”جون بول سارت” في كتابه الشهير:”ما الأدب؟”أين أكتب؟ وكيف أكتب؟ متى أكتب؟يقول التازي:”اكتب ليلا فضوء النهار يفضحني سرية عوالم الكتابة وأحلامها وعجائبيتها وتمزق لغاتها وانحناء وشموخ شخصياتها،كل ذلك لا يمكن أن يحضر بتدفق إلا في الليل.”.

 

                                                 يتبع بإذن الله

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.