حينما يستحق المثقف،حقا وضعه ! (إلى عبد اللطيف اللعبي)

0 441

مامعنى دائما، أن تكون مثقفا، وبالأخص راهنا، قياسا لوضع كما القومي والعالمي،الذي أقل مايقال عنه،بأنه يرقص جنونا على إيقاع سيمفونية جنائزية ؟.

منذ زمن ليس بالقصير،لا أدري بالضبط أين التقطت أذني،بذبذبات صوتية جهورية ،لا لبس فيها،قول أحدهم :يستحسن في الغالب الأعم،أن تتجنب ما أمكنك السبيل،لقاء مثقف مغربي تحترمه وتحب كتاباته، فشكل لك باستمرار نموذجك الأمثل.لأن وجوده الذهني،كفكرة مجردة نقية يستبطنها خيالك،دون عيان مباشر مجسد،يحتفظ له دائما بنوع من الطهر الآدمي.أقل اختلال،حين الاحتكاك به، قد يهشم الصورة،ثم يخلخل الموقع، ويتهاوى الصنم.

بلا شك، يشير هذا التأويل ضمنيا،إلى الوضع المركزي للمثقف الفاعل،وإشعاعه العلمي والروحي والسلوكي،باعتباره مؤسسة ونسقا قائما بذاته،يجسد سلطة معنوية،توجه بوصلة المجتمع، نحو مرتكزاته المفصلية.

في هذا الإطار،أتذكر أصدقاء،كانوا يدرسون في جامعتي الرباط وفاس،لاسيما الأولى،لأنها ضمت طيلة عقود، أفضل وأهم الأسماء العلمية المغربية،اللامعة، في حقلي الآداب والعلوم الإنسانية،التي نهضت بمشاريع معرفية،ساد صيتها كل العالم العربي.

كانت معرفتي وعلاقتي بهؤلاء الأساتذة محض فكرية،عبر أثير مؤلفاتهم وإصداراتهم،وأعمدتهم الصحفية المكتوبة،أما حضورهم في التلفيزيون المغربي أو الإعلام المسموع، فقد كان تقريبا منعدما،بحيث لم تتح إلي فرصة،أن أتتلمذ لديهم في مدرجات محاضراتهم،كما لم يحدث أن التقيت أيا منهم بشكل مباشر،اللهم إلا اسمين من الدرجة الثانية، بكيفية عابرة جدا،فيما أستحضر، بمناسبة إحدى اللقاءات الثقافية بمراكش.

لذلك، أول ما أستفسر عنه أصدقائي،تلاميذتهم،حين عودتهم والاجتماع بهم،ينصب على تعطشي كي أفرغ ما في جعبتهم حكيا،بخصوص يومياتهم الجامعية مع هؤلاء.أحيانا، تنسجم أجوبتهم مع صفاء المثال،الراقد باستمرار في دواخلي.بينما أحيانا ثانية،قد يخيبون ظني،وأصدم بسردهم لتفاصيل غير متوقعة لبعض الصغائر،التي أبان عنها جراء موقف معين،هذا المثقف الجامعي المكرّس أو ذاك : تحرش،تسويق ابتزازي لكتبه،شتم،سخرية،إلخ. أقاطعهم :”كيف يعقل، وهو من كتب كذا وكذا،وسبر بتمحيص هذا النظرية أو تلك،وترجم، ودبج، وحاضر، وساجل… !”.

طبعا،أشير إلى أن هاجسا من هذا المستوى،المتلاشي الآن كليا،ارتبط لدي شخصيا بفترة من عمري،لازالت فيها تقييماتي للمثقفين والحقائق والمفاهيم،متصفة بكثير من الطوباوية،وموغلة في حسن النية.أيضا،يحيل موضوعيا،سياق الهاجس،على حقبة تاريخية، حكمتها التصنيفات المفصلية :تقدمي، رجعي.يساري، محافظ.مثقف عضوي أو تقليدي. مبدئي أو وصولي.مثقف عضوي أو تقليدي… . فترة زمانية،لم تختلط بعد معها الأوراق بطريقة مائعة جدا،وتتقاذفها أعاصير الارتداد يمنة ويسرة،بحيث احتفظت المقولات وقتها بمعناها الحدي الفاصل :السياسة،السياسي، المثقف، الحزب، الجامعة، المدرسة، الجريدة، الفن، الموقف… .

قد تتعدد النعوت :المثقف -الموسوعي،المثقف-المتخصص،المثقف-الكوني،المثقف-المحلي،المثقف-الملتزم،المثقف-المنعزل،المثقف-الرؤية،المثقف-التقني،المثقف-المبدأ،المثقف-الانتهازي،المثقف-النبيل،المثقف-الحقير…،متباينة حسب مسارات البنية المجتمعية وتغيراتها،فتنزاح أكثر نحو جانب دون غيره وفق تبلور نسق سوسيو-ثقافي،لكن الخيط الناظم لها جميعا،والحلقة الموصولة غير القابلة أبدا للتفكك،تتمثل في مستويات تماهي المثقف إنسانيا ووجوديا مع ما ينتجه رمزيا :إلى أي حد يتطابق حسيا، بلحمه وعظمه، مع ما يدونه من علامات لغوية؟فالمثقف،أكثر بكثير من كونه شواهد جامعية، وكتبا يخرجها،ومنتديات يخطب فيها،ومؤسسات يشغلها،لأنه أساسا حالة وجودية مفارقة باستمرار، لذاته وللآخر.والحال كذلك،هل يجدر بالمثقف، خلال لحظة من اللحظات،الإعلان بشجاعة وجسارة،ثم يبعث برسالة وداعه الأخيرة،إذا أحس ببوادر سقوطه في مهاوي سوء الطوية،لأن الاستقالة والانزواء أفضل من التضليل والتسول؟فأن تكتب بصدق وجدارة كتابا واحدا يدخلك التاريخ،أفضل من عشرات النصوص الزائفة،المحشوة بمضامين،أنت غير مقتنع ضمنيا بما خطه قلمك.

بناء عليه،مامعنى اليوم الاحتفاء بهذا المثقف أو ذاك؟ومامعنى تسابق القراء –على وهمية الاعتقاد- إلى أخذ صورة بجانبه، متأبطا أوراقا،نافخا ريشه، يحمل محفظة في يد، ثم سترة موضوعة على اليد الأخرى،إذا لم يكن مثقفا إنسانيا بالدلالة الأخلاقية للكلمة؟بماذا ستأتي كتبه في نهاية المطاف،ونحن نحيا زمن المعلومة الرقمية المطروحة في الطريق،يكفيك إشارة بسيطة تلمس محرك البحث؟أي شيء يمنح هذا المثقف- لو كان جان بول سارتر بكل هالته- قيمة ما،إذا لم يجسد حالة شعورية نوعية،بالإشباع الإتيقي للكلمة :المثقف ضمير لا يموت،بل إنسان أعلى.هو، واضح وصادق وشفاف وأبيّ وعفيف وكريم وجاد ومترفع وحليم… وحدها سلوكات من هذا القبيل،تقدم دليلا ملموسا،على أن صاحبها دؤوب، متنسكا زاهدا،على مساجلة النظرية،فعوالم الاشتغال العلمي المستمر بكل مكابداتها، ترتقي بصاحبها في المقابل،وعلى نحو آلي،صوب مدارج الكمال الإنساني.الدليل،السِّير التي خلفها عبر العالم، المثقفون الحقيقيون.

إجمالا،المثقف من يستحق حقا وحقوقيا آدميته،قلبا وقالبا،عقيدة ومنهجا، جسدا وروحا، شكلا ومضمونا، نظرية وممارسة…،وليس من يتباهى بالملتقيات والألقاب والتوقيعات.

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.