العفاريت و التماسيح …
تزخر ثقافتنا الشعبية بقصص كثيرة أبطالها أشباح و مسوخ , و لعل أبرزها عائشة قنديشة , المرأة ذات القوائم الحيوانية التي تعترض طريق المسافرين ليلا , و الغولة التي يخوف بها الكبار صغارهم لتنويمهم مبكرا أو لمنعهم من الولوج إلى أماكن معينة حتى لا يطلعوا على أسرار تخص عالم الكبار , أو لحثهم على الدخول إلى البيت مبكرا …..و الحقل السياسي نفسه لم يسلم من أشباحه و مسوخه , إذ أبدعت عبقرية السياسي المحنك السيد بنكيران , أشهرا بعد حكمه , و بمجرد ظهور بوادر عجزه عن الوفاء بوعوده الإنتخابية , أشباحا سماها بالعفاريت و التماسيح . إلا أن أشباح المجال العام تختلف عن سابقتها اختلافا كثيرا ,فهي كائنات بشرية واقعية , بلحمها و شحمها و دمها , تاكل و تشرب , تتنفس و تعشق و تتكاثر , تسرق و تنهب ,تتحكم و تخيف حتى الرجل الثاني في هرم السلطة و الحكم …
فبعد وصوله إلى السلطة إثر حراك شعبي و تعديل دستوري خوله صلاحيات أوسع , و اعتبارا لشعاره الحزبي “محاربة الفساد و الاستبداد ” , و اعتبارا لكونه القوي الأمين و صاحب “المعقول” ,استبشرنا به خيرا و انتظرنا منه محاكمة الفاسدين و الناهبين وإرجاع ما نهبوه من أموالنا إلى خزينة الدولة و الزج بالفاسدين في السجون , و إيقاف نزيف الريع و النهب و استثمار تلك الأموال فيما يعود بالنفع على أبناء الشعب المفقرين على مر الأعوام والسنين , و النهوض بالقطاعات الاجتماعية من صحة و تعليم وسكن وتشغيل , و إصلاح القضاء وتطهيره من الفاسدين و إقامة العدل و إحقاق الحقوق . إلا أن عجزه أمام من سماهم بالتماسيح و العفاريت جعله يطل علينا بمقولات من قبيل “التعايش مع الفساد” و “و عفا الله عما سلف ” , مواراة لسوأة ضعف مفضوح و تشبث بالكرسي الوثير .لم يتوقف الرجل عند هذا الحد بل إن “الفقيه الذي انتظرنا براكتو دخل إلى الجامع ببلغتو ” , إذ انقلب 360 درجة على الشعب المفقر المخدوع الذي منحه أصواته لينهال عليه بأسواطه وإثقال كاهله المثقل أصلا برفع الدعم عن المحروقات و إحراق جيوبه ,و ها هو اليوم يسرق من جيوب و أعمار الموظفين البائسين برفع سن التقاعد و الزيادة في قيمة الاقتطاعات بدعوى إنقاذ الصناديق المنهوبة .فيا لعقيدة الخلاص ! بدل معاقبة اللصوص , ها هو يعاقب أصحاب الحق من العمال البسطاء الذين شكلوا قاعدة العدالة و التنمية . منح الطلبة الأساتذة الهزيلة لم تسلم أيضا من شهية بنكيران التي لا ” تتمزق” إلا لافتراس مكتسبات البائسين من طبقته .
ليست الطبقة المفقرة وحدها من طالها نكران السيد بنكيران .فحتى مرجعيته الحزبية تنكر لها حفاظا على المكانة الإعتبارية كوزير أول و الراتب السمين (100 ألف درهم) , ليعلن بملء أشداقه بأنه ليس إسلاميا و ليس ذا مرجعية إسلامية . و هنا نصدق الرجل و نبصم على قوله بالعشرة مؤكدين أنه لم يكن يوما لا إسلاميا و لا ذا مرجعية إسلامية و إنما انتهازي يسعى إلى مراكمة الثروة مغتنما كل الفرص المتاحة و غير المتاحة .و نحمد الله على ذلك .فلو كان إسلاميا لعاش بيننا اليوم الالاف من مبثوري الأيدي من أبناء الشعب الرثين و لعاش اللصوص و الفاسدون سالمين غانمين . لو كان الرجل إسلاميا لعادت قوانين ساكسونيا حيث يجلد الرثون و المفقرون لمخالفاتهم و تجلد ظلال العفاريت و التماسيح .
لم يقتصر إذن بنكيران على العفو عما سلف من التماسيح و العفاريت الناهبة للوطن و إنما صار شبحا و مسخا وكابوسا يقض مضجع الطبقة الصغرى بادعاءاته الاصلاحية الكاذبة لإنقاذ الطبقة المفقرة من أرامل و مطلقات ,فسرق من الأولى بدعوى مساعدة الثانية و كأن المغرب أرض قاحلة جرداء دون موارد طبيعية ,فلا فوسفاط و لا معادن و لا واجهتين بحريتين , ضاربا صفحا عن الضريبة على الثروة و التهرب الضريبي و معاشات الوزراء و النواب و امتيازاتهم الريعية بعد معانقته طبعا للتماسيح و العفاريت و دخوله إلى ناديهم في النسخة الثانية من الحكومة .
سواء أكان الرجل و حزبه إسلاميا أو ذا مرجعية إسلامية , و سواء أطل علينا بجبته و سبحته أو بسرواله و ربطة عنقه , فإن السنوات الأربع و نيف التي قضاها في رئاسة الحكومة قد أظهرت معدنه الانتهازي كابن للطبقة الوضيعة المتذبذبة المستقوية دائما بالطرف الغالب .كما نشير إلى أن هذه السنوات القليلة من السلطة قد فضحت بجلاء تجار الدين بل أساءت إلى الدين نفسه , لأن فشل مشروعهم الإسلامي (كما يزعمون) في تحقيق العدالة الاجتماعية , معناه , في نظر من لا يفرق بين عالم الأفكار و عالم الأشخاص , فشل الإسلام .