المخدوعون
بعد نهاية ولايته الحكومية ، سينتقل “المناضل ” عبد الاله بنكيران الى الضفة الأخرى ـ ضفة المتفرجين على الأوضاع التي يعيشها المواطن البسيط في صراعه مع الشغل والتعليم والصحة والسكن ووو، وسيدرك أن بعض قراراته كانت ضربة قاصمة للطبقة المتوسطة التي يًنظر إليها في علم الاقتصاد الاجتماعي أنها الطبقة التي تكون لها كلمة الحسم في الكثير من الملفات (انتخابات مثلا )كما أن مقوماتها التعليمية وبنيتها الثقافية تمكّنها من أن تطرح نفسها كطبقة متخصصة قادرة على قيادة التنظيمات في ظل النظام المدني (نقابات /جمعيات / …) وهي الضامن المؤتمن على السلم الاجتماعي في جميع بلدان العالم ذلك لأنها من اكثر الطبقات قدرة على بلورة افكارها وتنظيم مطالبها وصياغة حركاتها بشكل سلمي في أي حراك سياسي لان الرخاء النسبي الذي تتمتع به هذه الطبقة يمنحها نوعا من الاستقلال والاستقرار في ظل التجاذبات الاجتماعية….
ونعني بتلك القرارات ، قرار إصلاح صندوق المقاصة ، إصلاح التقاعد ، المرسومان المنظمان للمراكز الجهوية للتربية والتكوين ، قوانين مهنة الطب ،…. وغيرها مما لفَّه التعتيم ولم نطلع عليه .
لقد كان صندوق المقاصة الذي أسس في عهد الحماية عبئا ثقيلا على الدولة تضخ فيه كل شهر ملايين الدراهم لحفظ التوازن وضمان استقرار الأسعار … ولم يجازف وزير سابق للاقتراب منه لا لصعوبة المهمة ولكن لأن معارضته في الشارع كانت قوية وعواقبه كانت ستعجل بربيع مغربي لا تُحمد عقباه كما حدث ذات ربيع سُمي بانتفاضة “الكوميرة” حين خرج سكان الدار البيضاء وغيرهم من المغاربة الذين ضاقوا درعا بغلاء الأسعار وانسداد الأفق السياسي أمام الاحزاب واتساع الهوة بين طبقات المجتمع ، خرجوا معبرين عن سخطهم العفوي لهذه الطبقية المسعورة المتوحشة : طبقة عريضة تقتات من النفايات على هوامش المدن وتموت على أبواب المستشفيات وتحرم من نعمة التعلم ويُزج بأبنائها في حرب الرمال للدفاع عن الوطن … وطبقة قليلة من المحظوظين وخدام الاستعمار تستحوذ على خيرات البلاد ترفل في نعيم القصور والضيعات…
ومما لا شك فيه أن الإحجام عن إصلاح هذا الصندوق لم يكن بسبب الجهل بأثره السلبي على التنمية فقد اتفق الجميع على أنه يفوت على المغرب فرصا ثمينة لتحقيق قفزات مبهرة في التنمية والاهتمام بالبنيات التحتية (53.4 مليار درهم ضخت في الصندوق خلال 2012) ،ولكن الحكومات التي تعاقبت على حكم المغرب لم تكن تملك قراراتها بيدها لأنها تعلم أنها وليدة “التعيين” وأن دورها لا يعدو أن يكون كدور العامل / الموظف في شركة خاصة، إنها مطالبة بالتنفيذ لا بالاقتراح أو التشريع كما أن البرلمانات والمجالس السابقة هي مجرد ديكورات لديمقراطية من ورق تهدف لتسويق المغرب خارجيا ، إنه وجه آخر للريع يستفيد منه كل منعم عليه حظي برضى وزير الداخلية الذي يسهر على عملية إخراج المسرحيات الانتخابية بمساعدة العمال والقياد والشيوخ والمقدمين … لا بتكليف المواطنين للدفاع عن همومهم ومشاغلهم …
واليوم بعدما تأكد أن الشعب قد خُـدر بدستور 2011 الذي جاء استجابة لضغط الشارع ، وحملت الصناديق حزب بنكيران – المغضوب عليه – الى الحكم ،ها هي الدولة العميقة تمرر مخططاتها التخريبية على حساب هذه الشعبية ، ذلك أن فكرة الاصلاح لا خلاف حولها كما أسلفت ولكن الخلاف في التفاصيل والمنهجية فالصندوق يستمد موارده الأساسية من الضرائب وكل إصلاح للصندوق يرمي الى إلغائه تدريجيا دون إصلاح السياسة الضريبية العامة سيكون مصيره الفشل والمزيد من الاحتقان الاجتماعي فالتهرب الضريبي بكل أنواعه في شتى القطاعات هي السمة التي تطغى على نظامنا الضريبي لذا سيكون مجديا جدا النزول بشعار “محاربة الفساد” للنجاح في هذه المهمة قصد توفير الموارد المالية الكافية لتمويل صندوق التكافل الاجتماعي الذي سيكون دعما مباشرا للأسر الفقيرة وبديلا عن الدعم الغير المباشر لصندوق المقاصة، غير أن الرفع الكلي ليد الدولة عن هذا الصندوق سيلهب الأسعار لا محالة مما يؤدي حتما الى انحدار الطبقة المتوسطة من ذوي الدخل المحدود الى دائرة الفئات الهشة ، ولعل ما يبرهن على ضعف الحكومة وقِصر يدها وعجزها عن الالتزام بشعارها الانتخابي “محاربة الفساد” ، لا مبالاتها أمام استهتار بعض القطاعات الخدماتية كقطاع النقل بأنواعه فرغم تراجع أسعار النفط في العالم فقد بقيت تسعيرة النقل في مستواها عندما كانت أسعار البترول ملتهبة في السوق العالمي، هذا فضلا عن احتكارها لأسعار المحروقات ولسان حالها يقول : الربح لي والخسارة بيننا .
وكان صندوق التقاعد على حافة الانهيار فانبرى لإنقاذه السيد بنكيران بشجاعته المعهودة حين يتعلق الأمر بالحمائم والارانب الوديعة لا بالتماسيح والعفاريت، و كانت الضحية وكبش الفداء مرة أخرى هي الطبقة الوسطى التي لم تكن في يوم من الأيام مسؤولة عن خرابه وإفلاسه ، ولا كانت تستشار في طريقة تدبير أرصدته التي تقدر بالملايير من الدراهم وهنا أيضا نتساءل : كيف الحديث عن إفلاس صندوق “مستقبل الشيوخ” في حين يستمر الريع والفساد في مواقع يمكنها ضخ موارد مالية ضخمة تنقد الصندوق وتنقد المغرب من مستقبل غائم ، أوقفوا تقاعد البرلمانيين الذي أضحى ريعا مكشوفا يفاقم الحالة شهرا بعد شهر ، أيعقل أن يضمن البرلماني تقاعدا مريحا بمجرد أن يضع “أُسْـتَــه” على ذلك المقعد الوتير بغض النظر عن القيمة المضافة التي يمكن أن ينفع بها الوطن ؟ ، أوقفوا تعويضات الوزراء الخيالية التي تُحتسب بما يقطعونه من أمتار لأداء مهمة ، أليست من مهامهم حتى يتقاضوا عن ذلك أجرا خاصا وكأنها ساعات إضافية ؟ أوقفوا سفرياتهم السياحية التي تستنزف من ميزانية الدولة ما يمكن أن يشيد مؤسسات للصالح العام … خفضوا من أجور رؤساء الشركات الوطنية الكبرى والمؤسسات العمومية ، أعيدوا الأموال المنهوبة من طرف المفسدين والمُخَزنة في الأبناك الخارجية ، تنازلوا عن مرتباتكم لشهر أو شهرين لتصبحوا فعلا قدوة يتأسى بكم العدو قبل الصديق أما الكلام والنوايا فلا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع ، قولوا لا لهدْر المال العام في المهرجانات الماجنة …
إن إصلاح الصندوق بهذا الشكل المقترح هي “بشرى شؤم” للمقبلين على التقاعد بعد عشر سنوات أو أكثر للتفكير منذ الآن في الحلول الفردية لسد عجز ميزانية الخبز اليومي في انتظار موت رحيم بدون كرامة ، فالراتب التقاعدي سيتراجع بنسب متفاوتة ولكن الأسعار سترتفع بالضعف ولمن كان يعتقد أن تلك الاقتطاعات لن تؤثر في شيء على راتبه التقاعدي ، نذكره أن منحة الطالب الجامعي وفّرت العيش الكريم لأسرة بكاملها ذات يوم ،أما اليوم ورغم ما زيد في قيمتها فإنها لا تكاد تسدِّد سوْمة الكراء.
ستنتهي سنوات الاستوزار كلمح البصر وسيطوي التاريخ صفحتكم كما طويت صحف من قبلكم ولكن ستظل عبقرياتكم لإصلاحات شعبية ديمقراطية ، منارات تخلد اسمكم الى جانب من خلدوا في الشرق والغرب ،فتلك لعمري هي الرغبة التي تخامر كل مصوت وهو يؤدي شهادته أمام الصندوق الذي كثَّـر سوادكم ، فاحذروا أن تسودوا أيامه.
إنني أصدق بارونات المخدرات حين يلجؤون إلى كل الحيل والخدع والوسائل المشروعة والغير المشروعة من أجل تحقيق الأرباح والتسلق في سلم المجتمع ،وألتمس العذر للتجار حين يكذبون ويحلفون بأغلظ الأيْمان لترويج بضاعتهم … لكنني لن أصدق سياسيا يدعي حبه لوطنه وجسمُه مغمور حتى الأذنين في وحل المال العام مبررا ذلك بقوانين صاغها المفسدون السابقون ، إنه الاسترزاق باسم الوطن في أبشع مظاهره .
أما حكاية المرسومين ، والتبرير الذي تقدمه الحكومة لإصدارهما (توفير الكفاءات المؤهلة للعمل بالقطاع الخاص)، فهي المقلب الذي كشف لي بالواضح أن حكومتنا الموقرة لا حول لها ولا قوة في قراراتها ، إنها أصبحت يدا طيعة وألة مدمرة تُنزل ما عجزت عن تنزيله حكومات تعاقبت على حكم المغرب لاعتقادها أنها تسلمت التزكية من الشعب ، إن فلسفة المرسومين حق أريد به باطل فإن كان الهدف هو تأهيل الكفاءات فلتكن الفئة المستهدفة معينة منذ الانتقاء بناء على النتائج وهذه هي الشفافية التي يتغنى بها كل السياسيين ، أما وقد كان الهدف الخفي هو خوصصة التعليم فقد كان حلما قديما تحاول كل حكومة تحقيق جزء منه على أرض الواقع فكان يصطدم بالرفض والاستنكار ، فقد بدأت الحكاية بمدح المدارس الخصوصية وآفاقها الواعدة ثم تلتها مرحلة الهجوم على المدرسة العمومية بترميمات ظاهرها الإصلاح ومن ورائها التخريب والتفتيت ثم جاءت مرحلة الإفساد من الداخل بتشجيع العنف الممارس على رجال التعليم ، فلما يئسوا من كل المحاولات جاء العنف من الدولة – كما لم بحدث ذلك من قبل – في ظل حكومة يعتبرها الكثير من المغاربة منهم وإليهم . فإن كانت الحكومة بكل مكوناتها على علم ودراية بأهداف المرسومين كما تمت صياغتهما ، فقد قدمت لمنافسيها السياسيين السلاح الذي يمكن استخدامه للتدليل على لا شعبية قراراتها ، وإن كان المرسومان خرجا من تحت جلباب وزير التعليم دون علم من رئيس الحكومة فهذا مؤشر كبير على تغلغل حكومات موازية كأجسام سرطانية تنخر الحكومة ، حكومتنا من الداخل . ولعل هذا الطرح الأخير هو الاحتمال الوارد بقوة يبرهن عليه حدثان بارزان :
- الأول عندما تصدت قوات التدخل السريع لمسيرة الاساتذة المتدربين بشتى المدن المغربية ، فخرج علينا كل من رئيس الحكومة ووزيره في العدل والحريات ينفيان كل علم لهما بما حدث من كسر للأضلاع وإسالة للدماء .
- الثاني يتعلق بمسألة الآمر بالصرف في صندوق دعم العالم القروي ، فقد أثار جدلا واسعا تبين فيما بعد أن أيادٍ خفية نسجت سيناريوهات كلبية حتى يظل الصندوق بين يدي أخنوش (الوزير التكنوقراطي المقرب من الاصالة والمعاصرة) ضدا على القوانين التي تعطي لرئيس الحكومة الحق في انتداب آمر بالصرف .
إن المغرب دولة كباقي دول العالم الثالث ما زال يعتمد في التشغيل على ما توفره الدولة من فرص للشغل في إطار ما يسمى “اقتصاد الفرص” ولم نرق بعد الى مصاف الدول التي يتحمل فيها القطاع الخاص الجزء الأكبر من أعباء التشغيل للسبب الذي أشرنا اليه سابقا بكون تقسيم الثروة غير عادل ، كما أن الدولة لا تملك القدرة على حماية المأجورين الخواص من شطط مشغليهم والملفات التي تراكمت عليها أتربة الزمن شاهدة على هذا العجز، وبالتالي فكل محاولة لاستلهام النموذج الغربي في التشغيل هي تعبير عن التماهي بالغير يدل على خلل في التفكير وقصور في الرؤية .
خلاصة القول فإن البراكماتية ممزوجة بحسن النية التي يتعامل بها السيد رئيس الحكومة مع الملفات الاجتماعية ستؤثر بشكل كبير على سمعة الحزب وتاريخه الموسوم بالصفاء والطهر من جهة ،ومن جهة ثانية فإن ما تلا تشكيل مجالس الجهات وتحالف حزب الأحرار- حليف بن كيران – مع حزب “البام” قد خيب الآمال وجعل الشك يدِب الى النفوس إن كان هذا الطهر عن إيمان أم للتسويق ، فقد كان زعيم الأحرار ذات يوم هدفا مباحا للتهم ،تهم رفاق السيد ين كيران ،بالسطو على ملايين الدراهم حين كان وزيرا للمالية في حكومة عباس الفاسي ،والتعامل معه يُخرج من الملة وبعدها بسنوات أصبح رمزا للعفة يُتبرك به ويُزار ويدخل الحكومة بشروطه هو مما أثار الكثير من الاستغراب لدى الملاحظين في الهدف من هذا الإصرار على التحالف حتى مع “الشيطان” في سبيل التمسك بالمنصب، أهو سحر الاستوزار أم الرغبة في خدمة الوطن والمواطنين أم …؟ سيكتشف – بعد نهاية ولايته وانتهاء صلاحيته- أنه كان ينفذ بكل مكر وبلاهة ما تمليه عليه لوبيات المال والأعمال التي لا تهمها أوضاع المواطن البسيط ولا الوطن المسلوب. ساعتها سيطرح السؤال الذي سبق أن طرحه أبو الخيزران في رواية غسان كنفاني ” رجال في الشمس” : لماذا لم تطرقوا جدران الخزان ؟ وسيأتيه الجواب رجعا للصدى : أن قد خدعنا فيك كما خُدعت عندما قبلت بحكومة تضم وزراء جرتهم عربة الجرار الى ساحتك تم مزجتك بهم بسكتها فأعطتنا هذا المنتوج الهجين ، فلم نعد ندري هل صوتنا على المصباح أم على الجرار .ab