بنية الخطاب الديني :الحجاج و التواصل أنموذجا

0 772

كثيرة هي الدراسات والمقاربات وزوايا النظر التي حاولت ملامسة وإدراك كنه فلسفة الخطاب الديني وآليات اشتغاله البنائية واواليات تصريف منظوماته ومحمولاته الأسلوبية والدلالية والمعجمية والبلاغية والسيميائية والاقناعية باعتباره خطابا ابلاغيا افهاميا تواصليا يروم تأسيس علاقة تفاعلية معينة مع الآخر من خلال انفتاحه على شؤون الإنسان وقضاياه الماضوية،الآنية والمستقبلية(بوصف الإنسان جوهر العلامات الكونية وأساس التكريم والتكليف)،معتمدا الإقناع آلية ورافعة لاستقطاب الناس لاعتناق منظومة قيمه الرمزية ومبادئه العقدية السلوكية الخالدة من خلال استراتيجيات تواصلية فعالة ومنتجة من قبيل استراتيجية التحدي(الإتيان بسورة أو بآية علما أن العبرة-على حد تعبير الأصوليين- بعموم اللفظ لا بخصوص السبب من منظور أن التحدي-مع مراعاة مشترطات السياق وضغوطات المؤسسات الدينية والسياسية القائمة آنذاك واكراهاتها- لا يقتصر على عنصر دون عنصر، أو جنس دون جنس، انسيا كان أم جنيا، من زاوية عالمية الرسالة الإسلامية وكونيتها مع مراعاة جدلية الخصوصي والكوني أو المحلي والعالمي)،واستراتيجية الترغيب والترهيب، واستراتيجية الحجاج التواصلي بمختلف أبعاده وتمظهراته الجدلية والبرهانية والعقلية لاسيما وأن العقل مناط التكليف،وأساس كل خطاب دعوي تنويري تغييري،فاستحق بذلك هذا المشروع الشمولي المتكامل البنيان المنسجم الأركان أن يكون صالحا لكل زمان ومكان ومصلحا لكل دهر وإبان.

وبغض النظر عن ردود الأفعال التي تولدت تاريخيا عن مستويات التلقي النفسي والتفاعل الجمالي مع المنظومة التشريعية الإسلامية(التطابق، التخييب،و التغيير)،فقد تعددت الآليات الحوارية التواصلية بين الرسل وأقوامهم التي نقلها الخطاب الديني في أفق تعليم الناس منهجية الحوار والحجاج-باعتباره مبحثا من مباحث التداولية-والتواصل والإقناع، وبناء القدوة والنموذج في هذا السياق خاصة وأن ملكة السجال التواصلي الحجاجي دارت رحاها في عالم الغيب والملكوت بين الذات الإلهية ومحور الشر ممثلا في إبليس اللعين قبل أن تعتمد سلوكا وممارسة في العالم الأرضي الدنيوي.فيا عجبا لأقوام لا يجيدون استثمار وتوظيف آلية التواصل والحجاج في سلوكاتهم اليومية،مما يولد العنف والعنف المضاد والصراعات الطائفية واللغوية والحروب الاقتصادية والدينية والديبلوماسية؟؟.

ولأن عقيدة التوحيد الخالص هي عقيدة البشر منذ بدء الخليقة،فقد ساق الخطاب القرآني أنموذجا تاريخيا عريقا متمثلا في رسالة أب الأنبياء،وأول المسلمين إبراهيم الخليل عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام باعتبار الإسلام ملة إبراهيم الذي ما كان يهوديا ولا نصرانيا ولا من المشركين. كما أن العرب تنسب جميعها إلى إبراهيم عبر ابنه إسماعيل عليهما السلام،لينسجم بذلك الخطاب الحجاجي في قصة إبراهيم عليه السلام-تبعا للطرح التأصيلي التأسيسي لمفهوم العقيدة غير الموجود في الكتب السماوية المحرفة-مع المنطق الحجاجي العام للقرآن الكريم من خلال مخاطبته بالدرجة الأولى عرب قريش الجاحدين المعاندين،ومن خلالهم كل منكر لرسالة الوحي ومشكاة النبوة الخالدة في كل زمان ومكان.ومن هنا، يتوجه خطاب الوحي الإلهي،من حيث العقيدة، إلى مخاطبة العقل والوجدان على حد سواء باستدعاء فلسفة الكون الكبير بمختلف موجوداته، وأشياءه، وعناصره الحسية منها والمجردة باعتماد استراتيجيات حجاجية تواصلية تخصب الأفعال التخاطبية والكلامية عند كل من العرب الظاعنين الراحلين، والأطباء الحاذقين المحللين،والعلماء المحققين المتابعين،والشعراء النابهين المرهفين،والفلكيين المدققين الدارسين بهدف ترسيخ العقيدة الصحيحة المبنية على ألا خالق ولا رازق ولا فاعل ولا معبود في هذا الكون إلا الله الواحد الأحد مصداقا لقوله تعالى:”وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين”(سورة الطور:56- 58).ومن منطلق هذا الهدي الرباني القويم الذي لا يحور،وسيرا على هذه الشعلة الإيمانية المتقدة التي لا تخور حاج القرآن الكريم، وناظر،وحاور فكان حجة الله الخالدة القاطعة البالغة على خلقه التي سار على هديها أنبياءه باعتبارها منهج حياة ودستور دعوة لكل المصلحين والدعاة وصدق من قال:”من أراد مؤنسا فالله يكفيه،ومن أراد حجة فالقرآن يكفيه،ومن أراد واعظا فالموت يكفيه ،ومن أراد الغنى فالقناعة تكفيه، ومن لم يكفه شيء من هذا فان النار تكفيه.”.

ولأن هناك تداخلا مفاهيميا بين المصطلحات- في كتب التفسير كما ألمح إلى ذلك الباحث عبد الله صولة في كتابه الحجاج في القرآن الكريم-التي تدور في فلك الإقناع(من قبيل الجدل، الاستدلال، البرهان، المناظرة،والحوار)باعتباره”حمل السامع على التسليم بصحة المقول وصواب الفعل أو الترك”،فإننا لن نخوض في تلك الجزئيات بالنظر لخصوصيات هذا البحث(راجع كتاب أصول الحوار وتجديد علم الكلام للدكتور طه عبد الرحمن،ومعجم الألفاظ الأعلام القرآنية للأستاذ محمد إسماعيل إبراهيم،ومعجم الفروق في المعاني للباحث محمد فريد عبد الله)). والحصيلة،أن الدوائر الدلالية لمصطلح الحجاج-بعد استقصاء المعاجم اللغوية-تصب في اتجاه الحمولات والأكوان الدلالية التالية:”التخاصم،التغالب،التنازع،استعمال الوسيلة المتمثلة في الدليل والبرهان”،أو”الارتكاز على دليل معين قصد إثبات قضية من القضايا ،و بناء موقف ما.”.وعليه، نستنبط من دلالات هذا التعريف وجود باث،مرسل للرسالة اللغوية ومتلق،مستقبل ورغبة الأول إقناع الثاني بفحوى تلك الرسالة عبر منطق حجاجي،وسيرورة عقلية دالة لاستمالة عقله والتأثير فيه. ولأن مناط هذا البحث ومداره هو الكشف عن تجليات الخطاب الحجاجي التواصلي مناظرة إبراهيم علبه السلام للنمرود،فإننا نروم اعتماد أخلاقيات وشروط خطاب المناظرة-التي تؤسس أخلاقيات التواصل على مبادئ عقلية بهدف إقامة الدليل وإظهار الحق أوما وصفه “هابرماس” ب”العقل التواصلي” (“الذي يعبر عن تلك الطاقة العقلية المنبثة في أساس صلاحيات الخطاب”(محمد نور الدين افاية: الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة ص:212)- كما حددها الباحث المقتدر طه عبد الرحمان وهي:

-“أن يكون المتناظران متقاربين مكانة ومعرفة.

-أن يمهل المتناظر خصمه حتى يستوفي مسألته،كي لا يفسد عليه توارد أفكاره وحتى يفهم مراده من كلامه كي لا يقوله ما لم يقل.

-أن يتجنب المناظر الإساءة إلى خصمه بالقول أو بالفعل بغية إضعافه عن القيام بحجته.

-أن يقصد المناظر الاشتراك مع خصمه في إظهار الحق والاعتراف به،حتى لا يتباهى إذا ظهر على يديه،ولا يعاند فيه إذا ظهر على يد خصمه.

-أن يتجنب المناظر المحاورة مع من ليس مذهبه إلا المضادة،لأنه من كان هذا مسلكه لا ينفع معه الإقناع بالحجة.”.(طه عبد الرحمن في أصول الحوار وتجديد علم الكلام ص:74- 75).

                                                                               يتبع بإذن الله

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.