في رحاب الشعر الأمازيغي

0 700

مع الشاعرة الأمازيغية: الحاجة إزي الكوط بنت محمد التي تم تكريمها من طرف شبكة              نساء الأطلس تافيلالت يوم 4 مارس 2016 بالرشيدية

الإهداء: إلى كل الأمهات و إلى كل النساء المناضلات من أجل عالم أجمل يسوده الحب                 و السلم و الإخاء بمناسبة اليوم العالمي للمرأة .  

إعداد و ترجمة: نجل الشاعرة الأستاذ  المصطفى محبوب أبو هبة

 

ca6f433c-a466-4fae-b76e-45f1025c3d03

التدقيق اللغوي: الأستاذ الباحث أحمد بن عبد الهادي الرافعي

تزخر منطقة”فركلة” الكبرى كسائر واحات الجنوب الشرقي بثروة شعرية هائلة، تتمثل في وجود شعراء كثيرين، منهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر.هؤلاء الشعراء الأمازيغ استطاعوا بإبداعاتهم الخالدة أن يخلفوا لنا تراثا شفهيا، يتجلى إلى جانب الشعر في الحكايات الشعبية، و القصص التراثية.وما زال هذا الإرث الثقافي الغني ينتظر اليد الحانية التي تزيل عنه غبار الدهر، و تخرجه إلى الوجود، حتى تدرك الأجيال حجم الدور الثقافي الكبيروالمهم الذي لعبه هذا التراث و ما يزال في الحفاظ على الهويةأولا، و ثانيا في نشر القيم الإنسانية النبيلة و ترسيخها،علاوة على ذلك الإمتاع الذي تحققه هذه الإبداعاتسواء بالنسبة للمبدع الذي يعبر عن مشاعره الصادقة بتلك الطريقة الجميلة، أو بالنسبة للمتلقي”الواحي” الذي يجد في ذلك الإبداع منفذا ثقافيا أساسيا إلى التعبير عنمشاغله وإلىتبني قضاياه،و إلى فتح عيونه على هذا العالم.

لا يمكن لنا أن نتصور في سالف الأيام مناسبة اجتماعية سواء تعلق الأمر بالأفراح أو الأتراح دون أن يؤثث فضاءها شعراء الواحة، بالمقابل أيضا لا يمكن لنا اليوم الحديث عن تاريخ منطقتنا دون الوقوف على الشاهد في القصيدة الأمازيغية التي لم تترك مجالا يشغل بال الإنسان”الواحي” إلا وتطرقت إليه، كقضية مقاومة الاستعمار الفرنسي و ما رافقها من أحداث شاركوا فيها بطريقة أو بأخرى، قضية الهجرة، مشكلة السنوات العجاف التي شهدتها الواحة مع ما خلفته من مجاعة و أوبئة، الفيضانات…إلى غير ذلك من القضايا الإنسانية التي أرخت لها القصيدة الأمازيغية الملتزمة.

ومن بين الوجوه التي حملت مشعل القصيدة الأمازيغية الملتزمة إلى جانب الشاعر الكبير المرحوم (علي أداود)نجد ابنة خالته(الحاجةإزيالكوط بنت محمد)، المزدادة سنة 1937 بقصر أسريرأيت حمو . تزوجت ابن خالها المرحوم (محمد أداود)، مما مهد لها الطريق نحو العيش في بيئة شعرية مهتمة بالشعر الأمازيغي، وهذا البيت هو نفسه الذي تخرج منه النابغة الفقيه الشاعرالشيخ (حماد أداود) رحمة الله عليه. إلى جانب فرصة الاحتكاك هاته علينا أن نعلم أن والدها المرحوم (الحاج محمد الكوط) كان من أوائل الشعراء الذين أنجبتهم واحة أسرير، إلا أنه و لظروف خاصة لم يستمر في عطائه طويلا. و الذاكرة الجماعية بفركلة لا تحتفظ له إلا بالنزر اليسير.

سافرت شاعرتنا رفقة زوجها إلى الجزائر، و مكثت هناك بوهران مدة أنجبت خلالها أربعة أبناء، و توفي بعد ذلك زوجها، لتستقر مع أبنائها لتسوية الأوضاع عند خالها المقاوم الشجاعو الشاعر المرحوم ( دادا حا نايت الزاهر) الذي تكفل بها طيلة مقامها هناك بالجزائر أرملة.ثم ما لبثت أن قررت العودة إلى أرض الوطن لتستقر بمسقط رأسها بواحة أسرير، وبعد بضع سنوات تزوجت من جديد، و أنجبت ثلاثة أولاد.وكأن الأقدار شاءت أن تنتقل عبر كل هذه المحطات وسط عبق الشعر، فتتعلم أصول هذا الفن الذي اتخذته سلاحا في مواجهة أعباء الحياة، و منبعا تغترف منه ما شاءت، متى شاءت، و لا تصطفي و تبث إلى الناس إلا ما شاءت أيضا.ويصعب معرفة سر هذا التحفظ لديها، هل لأن المجتمع محافظ و لا يستسيغ أن تقول الشعر امرأة؟أم أن هناك أسبابا شخصية مرتبطة بالعادة التي لا تسمح لها أن تصدح بقصائدها أمام الناس؟

لنستمع إليها في هذه الأبيات تعلن عن هذا التحفظ: 

مِنْ قَلْبِي يَتَفَجَّرُالنَّظْمُ أَلْوَاناً

وَ مَا صَدَعْتُ بِنَظْمِي

لأِنِّي كَسَّرْتُ أَجْنِحَةَ الْكَلاَمِ.

معذرة إن كسرنا أجنحة الصمت لديك، وقدمنا للقراء الأعزاء شذرات من شعرك الراقي. معذرة إن خانتني الترجمة و لم أتمكن من إيصال نبض عواطفك نقيا كما تشتهين.

تقول في قصيدة اخترنا لها ” لظى الشوق ” نظمتها حين فرضت عليها الظروف الدراسية لأبنائها الثلاثة أن تبقى وحيدة في البيت، تنتظر بكل شوق أيام العطل، ليؤنسوها في وحشتها:

كَيْفَ أَحْتَسِي أَنْفَاسَ النَّوْمِ

وَالشَّوْقُ لَاعَنِي

وَغُرْبَةُ الْوُلْدِ تَأًسَرُنِي

كَأَنَّهَا السُّنُونُ تََطُولُ

حِينَ أََعُدُّهَا أَيَّامِي

مَا أَقْسَى مَجْلِسِي

كُؤُوسُ شَايٍ مُعَدَّةٌ أَمَامِي

مُرٌّ مَذَاقُهَا

مَرارَةَ قلْبِي الْجَرِيحِ

فَالْقَلْبُ لَوْعَةٌ

دُونَ أبْنَائِي.

و تقولفي قصيدة “الوداع” التي تصور فيها مشهد توديع أبنائها حين يعتزمون العودة إلى فصول دراستهم بالمدن الجامعية البعيدة، ليتركوها مرة أخرى تواجه شبح الوحدة:

عِنْدَمَا تَقْرَعُ سَمْعِي

ألْفَاظُ اَلْوَدَاعِ:

“فِي أمَانِ اللهِ أُمِّي”

يَتَحَدَّرُ دَمْعِي,

تَقْشَعِرُّ عِظَامِي,

أُحِسُّ بِهَا رَمِيمًا

سُحِقَتْ في الطَّاحُونِِ

مِثْل الرَّيْحَانِ

أما في قصيدة “آمال” فإنها تتساءل إن كان لهذه المعاناة من نهاية، فتفرح باستكمال أولادها لدراستهم وظفرهم بالعمل، و من ثمة العودة إلى جوارها، وتزويجهم.إنها الشروط التي تراها كفيلة بالقضاء على أناتها و آهاتها، و إلا ستحملها معها إلى اللحد:

وَطِيدَةُ الْآمَالِ أَرْقُبُهَا

تُرَى هَلْ يَسْتَجيبُ لُطْفُ القَدَرِ؟

أَمْ لَزِمَتْ آهَاتٌ

أحْمِلُهَا حَتَّى الْقَبْرِ؟

و الشعر ليس جامدا عند شاعرتنا، فهو يساير قضايا الأمة، ولم تبق مكتوفة الأيدي أمام ما تشاهده صباح مساء عبر جهاز التلفاز، من حروب مدمرة، و ما ينتج عنها من دمار وأزمة لاجئين…إلى حد أنها حرمت على نفسها نشرات الأخبار التي تقدم الوجه القبيح للإنسانية.

ولا يقبل شاعر مرهف الأحاسيس مثلها أن تستفزه في كل يوم مشاهد الدماء، بالصوت و الصورة .

تقول في قصيدة “مسجدي” و تقصد به المسجد الأقصى:

مَسْجِدِي حَاصَرَهُ الْيَهُود

أنَا هُنَا أفِيضُ أسىً

تَأْسَرُنِي القُيُود.

كَيْفَ الْعُبُورُ إلَيْكِ

يا أرْضَ الجُدُود؟

وَ هَاهُنَا مُنْشَآتُ حُدُود؟

كَمْ يَشْتَدُّ كَمَدِي

لَمَّا أرَى

صَبَايَا يَمُوتُون

وَهَمَّ يَتَامَى

كَثَّرَهُمُ اليَهُود

هَلْ مَضَى ذاكَ الزَّمَانُ الَّذِي

مِنْ ظِلِّنَا تُوَلِّي الْجُنُود؟

وفي مقطع آخر، تتأمل فيه أحوال اللاجئين، وهم وسط الخيام، في فيافي خلف الحدود، وهم تحت رحمة البرد، و الثلج، يعيشون على ما تجود به بعض المنظمات الإنسانية من مساعدات شحيحة.

فتقول وهي تصف المشاهد بأدق تفاصيلها:

رَأَيْتُهُمْ…

لَيْتَنِي مَا كُنْتُ أرَاهُمْ

شُيُوخًا مُبْعَدِين

وَسْطَ الْخِيَّامِ

مِمَّا طَبَخَتْ أيَادِيهِمْ

مِنْ عَطَاءٍ يَأْكُلُون.

رَأيُتُهُمْ

يُذِيبُونَ الْجَليد

لِلْوُضُوءِ يَتَهَيَّؤُون.

بَيْنَمَا هُمْ في الصَّلَاةِ

قائِمُون

إِذَا برَهْطِ الْأوْغَادِ

غَدْرًا يَقْصِفُون.

صَيَّرَالدُّنْيَا أمَامِي سَوَادًا

لَدَى الْقَصْفِ

أزِيزُ الْجُنُون.

حَارَ الطَّبِيبُ

فِي عَدِّ الْجِرَاحِ

وَ ذُهُولِي أنا

مِنْ رَيْبِ الْمَنُون.

هذه المشاهد المؤثرة، هي التي حملتها على العدول عن متابعة الأخبار عبر جهاز التلفاز، وأقسمت على هكذا رد فعل. تقول في هذا الصدد:

تَذَكَّرْتُهُمْ هَذَا المَسَاء

قَهَرَتْ صُوَرُهُمْ نَوْمِي

أَعْيَا الْبُكاءُ عَلَيْهِمْ عُيُونِي

أَقْسَمْت ُلَأَغْلِقَنَّ هَذَا التِّلْفَازَ

إلَىَ حينٍ

فَمَا عادَتْ تََقْوَى

عَلَى الرَّمْقِ والنَّوْحِ عُيُونِي .

أما في هذا المقطع، فهي تكشف عن أمنية غالية، من أجلها تعاف هذه الدنيا، وتبدي استعدادها للسير على درب شخصية تاريخية ما كان لها أن تسمع بها، أو تعرفها لولا أبناؤها المتعلمون، الذين لا يتوانون في التواصل معها، وشرح مستجدات الأحداث لها وكذا جذورها التاريخية.

إنها شخصية “صلاح الدين الأيوبي” الذي ضمنت اسمه هذه القصيدة، وتتمنى الجهاد في القدسمثل هذا البطل الأسطوري.وهذا الموقف ليس بغريب عنها،بالنسبة للذين يعرفون قوة شخصيتها ومواقفها:

أَنْ أَحْمِلَ رَايَتَكَ رَبِّي

تِلْكَ مُنَايَ.

مِثْلَمَا” صَلاحُ الدِّين”

أَبِيعُ نَفْسِي جِهَادًا

مَا لِي وَ لِهَذِهِ الدُّنْيَا .

إلا أنها أدركت أن هذه الأمنية صعبة المنال، وبعيدة التحقيق، ولم يبق لها من سبيل رأفةً بقلبها الذي يتقطع ألما من جراء ما يُسْمَعُ، و يُرى سوى البكاء والرثاء، لكن هيهات هيهات فحتى الدموع انحبست، ونضبتعيونها بفعل التقدم في السن.

لنستمع إلى هذا المقطع الذي ترثي فيه وضعها البئيس هذا:

جَفَّتِ الْعَيْنُ

منْ كِبَرٍ فَأَنَّى لَهَا

كَيْ تُرِيحَ الفُؤَادَ

بالدَّمْعِ تَجُود ؟

أكتفي بهذا القدر حتى لا أطيل،أتمنى لكم قراءة ممتعة, و إلى فرصة أخرى بحول الله .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.