الزاوية الناصرية.. من حياة العز إلى الفقر والعوز

3 2٬418

على بعد 20 كيلومترًا من مدينة “زاكورة”، “تامكروت”، حاضنة الزاوية الناصرية، روح المكان الممتد نفوذه على جهة اليمين من الطريق المؤدية لقرية “محاميد الغزلان”. وسط رمال الصحراء وبين جريد النخل، تقع الزاوية الملقبة بـ”أم الزوايا”، المكان الذي يرقد فيه مؤسسها الأول محمد بن ناصر.

الزاوية الناصرية “مكان عيش الشرفاء”، كما يفضل سكان المنطقة تسميتها، أصبحت اليوم قبلة ومحجًا لزوار من دول العالم

الساعة تشير إلى الثالثة زوالًا، الوقت الذي استقلينا فيه سيارة أجرة صغيرة من مدينة “زاكورة” لتوصلنا إلى قرية “تامكروت”. الطريق بين المدينة والقرية صامت، عدا من حفيف نخل باسق، لونه شاحب من جفاف الموسم، ومن بعض الرعاة يتقدمون جمالهم ويشقون الطريق بحثًا عن لقمة العيش. صمت مطبق تكسره موسيقى أهازيج “الركبة” التي يبثها مذياع سائق التاكسي، المتغير لونه من برتقالي إلى أصفر من فرط حرارة فصل الصيف.

الزاوية الناصرية.. أم الزوايا

الحديث عن أحوال المنطقة مع السائق كان أمرًا متوقعًا، فالطريق وإن كانت قصيرة فهي غير معبدة، والأمر ظاهر على سيارات الأجرة المتأثرة إطاراتها من قوة الاهتزاز بحفر الطريق المتراصة واحدة تلو الأخرى. الدكاكين في الطريق قليلة إن لم نقل نادرة والنساء كما الصغار يفترشون حافة الطريق، هذا مكان نزهتهم اليومية فهو متنفسهم الوحيد.

الزاوية الناصرية “مكان عيش الشرفاء”، كما يفضل سكان المنطقة تسميتها، أصبحت اليوم قبلة ومحجًا لزوار من دول العالم، فمنهم من اختار زيارة المكان لـ”التبرك” ببركة الأجداد الذين غادروا الحياة، ومنهم من يأتي للغوص في مخطوطات مكتبتها التي تعتبر ثاني أكبر وأعرق مكتبة في المغرب بعد القرويين، وآخرون يأتون لزيارة عائلتهم داخل القرية.

خلال زيارتنا لقرية “تامكروت”، والتي صادفت فترة استقبال مدينة “زاكورة” للمنتدى الدولي للواحات، بدت القرية كأنها كائن متجمد لا يقوى على الحركة، جدران المنازل شاحبة، وقلة التساقطات ترخي ظلال آثارها على نمط العيش في القرية. الواد الذي يقطع الطريق شبه جاف، والسكان يعدون الأيام علَ السماء تجود على ثمار نخولهم التي تمدهم بالحياة.

وصلنا قرية “تامكروت”. المكان عبارة عن مجمع صغير من البيوت التي شيدت بالطين الأحمر قبل عقود، لا ترميم ولا مظاهر تشي بأننا في هذا العصر من الزمن، شبكة الهاتف قليلة والإنترنت شبه منعدم. منازل قليلة بنيت حديثًا بالإسمنت، ونساء يخفين أجسادهن ووجوههن خلف ثوب أسود طويل وعريض. سكان المنطقة يتبينون الغريب بسهولة ويميزونه من لباسه قبل لكنته إن تحدث.

في ضيافة أحفاد الشرفاء

رضوان الناصري، “مقدم الزاوية”، وهو نفس الشخص الذي يشرف عليها الآن، سألنا عنه فور وصولنا، باعتباره القائم على شؤون المكان. الوصول إليه كان سهلًا. فالرجل أشهر من نار على علم في المنطقة، وحتى أنصار الزاوية الناصرية في المغرب يعرفونه. اكتفى “لمقدم”، باستقبالنا ومدنا ببعض ماء البئر المالح لشربه، هذا الطقس الذي يعتبر ضروريًا لكل زائر غريب على المنطقة.

ملوحة ماء البئر لا يستحمل مذاقها، كما لا يحتمل منظر قرية كانت قبل قرون من أحسن المناطق تطورًا ثقافيًا وعلميًا وزراعيًا في العالم العربي والإسلامي، فمؤسسها، أحمد بن ناصر، كان يجلب طلبة العلم من الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية ويتكفل بإيوائهم وتدريسهم لسنوات ويردهم إلى بلدهم الأصلي محملين بزاد العلم.

كانت قرية “تامكروت” محج الزوار، وكانت تحتفي بهم أكلًا وشربًا ومبيتًا واليوم أصبح أهلها يدقون أبواب المدن الأخرى للبحث عن مدخول ولو قليل

الحياة في القرية، أشبه بـ”حياة البؤس”، هكذا تترجم حياة السكان هنا. القرية التي كانت محج الزوار من شرق المعمور وغربه، والتي كانت تحتفي بزوارها أكلًا وشربًا ومبيتًا أصبح أهلها الآن يدقون أبواب المدن الأخرى للبحث عن مدخول ولو قليل يسد حاجيات أسرهم وسط الصحراء.

على باب المسجد الذي دفنت فيه جثامين مؤسس الزاوية محمد بناصر وعائلته، تصطف عشرات النساء من أهل القرية، يقتاتون من الزيارات القليلة التي يقوم بها الأغراب للزاوية، يتسارعون للتكفل بكل زائر قصد إرشاده ومده بالمعلومات الكافية حول أسماء الموتى المدفونين بالمكان وتاريخ وفاتهم وطريقة وصولهم إلى المنطقة مقابل دراهم قليلة. تحفظ نساء المنطقة وصغارها كما رجالها تاريخ الزاوية صمًا، يحافظون عليه ويورثونه للأجيال التي تليهم، خوفًا على ما تبقى للزاوية من تاريخ من الضياع.

عندما يمس الفقر الشرفاء..

فاطمة، سيدة أربعينية تجلس على عتبة المسجد وتضع طفلتها التي لم يتجاوز سنها الست سنوات، على حجرها. ما إن علمت السيدة أننا صحفيون نقوم بتقرير صحفي عن المنطقة حتى سارعت بالحديث عن معاناتها كباقي النساء في القرية، فـ”تامكروت” شبه خالية من الرجال كما تقول محدثتنا “كلهم هجروا المدينة بحثًا عن العمل، بقينا نحن النساء هنا”.

تقول فاطمة إن لها ابنًا يشتغل في شمال المغرب، وبالضبط في مدينة طنجة، يساعد أصحاب محلات صيانة السيارات ويرسل لها شهريًا مبلغ ألف درهم أي حوالي مائة دولار، تعيش منه رفقة أطفالها الأربعة الآخرين، في انتظار أن ترسل باقي أطفالها إلى المدينة من أجل العمل.

حكاية فاطمة تتشابه مع جميع حكايات أسر القرية، فالرجال اختاروا الهجرة إلى الشمال والدار البيضاء والرباط من أجل الاشتغال بينما تمكث النسوة في القرية تنتظرن عودة المعيل، مرة في السنة، غالبًا ما تكون في عيد الأضحى.

تنتعش الحياة في الزاوية الناصرية أو قرية تامكروت في مناسبتي عاشوراء وعيد المولد النبوي الشريف، إذ يعرف المكان احتفاءً بأرواح السابقين، والموجودة قبورهم داخل المسجد الذي يتوسط فناء الزاوية، أما غير ذلك من أيام السنة فتعيش القرية وأصحابها على عائدات تجارة التمور، وهي الزراعة الوحيدة التي تتميز بها المنطقة.

أمل الفخار والتمر

رغم الظروف الاجتماعية العسيرة التي يعيشها سكان زاوية “تامكروت” بسبب قلة الأنشطة المدرة للدخل، إلا أن صناعة الفخار لا تزال منتعشة في المنطقة، فرغم قلة مدخولها إلا أن السكان يرون في الطين والخزف أملاً يملأ حياة الشباب. دكاكين قليلة وورش وأفران أقل، لكن صناعة القطع الخزفية في قرية “تامكروت” تبقى لها خصوصية وميزة.

لا تزال صناعة الفخار منتعشة لدى سكان زاوية “تامكروت” وهم يرون في الطين والخزف أملًا يملأ حياة الشباب رغم ضعف الدخل

أحمد الناصري، من أبناء المنطقة وصاحب ورشة ومحل لصناعة وبيع الخزف والأواني الطينية قال لـ”الترا صوت”: “إن تجارة الخزف في القرية لم تعد متألقة كما في وقت سابق، بسبب تراجع عدد السياح الذين غيروا وجهتهم إلى مدن صحراوية أخرى”.

يشتغل مع محدثنا ثلاثة أشخاص، بعدما وجد نفسه مضطرًا إلى التخلي عن شابين آخرين بسبب قلة الطلب وكثرة العرض، يقول الناصري: “اضطررت إلى طرد شابين من أبناء المنطقة، حال التجارة تراجع، وأصبحت أذهب إلى عملية تصدير الأواني الخزفية إلى مدينتي فاس ومكناس، لأن بيعها من عين المكان للمستهلك أصبحت مهمة شبه مستحيلة”.

صعوبة الحياة دفعت بعض أبناء قرية “تامكروت” إلى البحث عن مورد رزق بديل، فمنهم من اشترى جملًا ونصب خيمة وسط الصحراء يستقبل فيها السياح، الذين يفضلون القيام برحلة برية على ظهر الجمل مقابل 50 درهم لنصف الساعة، بالإضافة إلى بيع الشاي الصحراوي الذي يميز هذه المنطقة عن غيرها.

المكتبة الناصرية صامدة

وسط كل هذه الظروف الاجتماعية والاقتصادية وإلى جانب المسجد، توجد خزانة الزاوية الناصرية، المكتبة التي تتوفر على أعرق المخطوطات في العالم الإسلامي والعربي، سميت الخزانة بـ”مكتبة دار الكتب الناصرية داخلية طلبة المعهد الحبسي”، يشرف عليها رجل فاق سنه العقد التاسع، ومازال هو المرشد الوحيد لكل زوار المكتبة.

“بابا جليل خليفة بن حسن”، من مواليد سنة 1929، كان دليل جولتنا داخل أروقة المكتبة التي أغلقت على كل مخطوطاتها بصندوق زجاجي محكم الإغلاق، خوفًا من سرقة المخطوطات من المكان. مرشد المكتبة وحاميها وابن قرية “تامكروت”، رجل مقعد يقوده حفيده البالغ من العمر الثلاثينات، هذا الشاب الذي اختار مرافقة جده عله يرث منه المهنة ويكسب هو بدوره دراهم قليلة يجود بها الزوار على المكتبة.

مرشد المكتبة، يسلك الطريق إلى الكتب بعينين مغمضتين، يكتفي بالإشارة بعصاه من على كرسيه المتحرك، يضعها على المخطوط، ويتحدث عن صاحب الكتاب ومتى وأين وكيف كتب وحتى الثمن الذي اقتنى به الكتاب قبل قرون من اليوم.

تتوفر مكتبة الزاوية الناصرية حسب مرشدنا على أربعة آلاف مخطوط، تضم كل من تفسير القرآن، القرآن، الموطأ، قاموس اللغة، الشعر والأدب، تاريخ مصر والقاهرة، إعراب القرآن، الشجرة الشما، شفاء القاضي عياض، في مدح النعال، ابن لبابة، حياة الحيوان، نسيم الرياض للقاضي عياض، الطب، الفلك، وغيرها الكثير من الكتب، كما أن أقدم كتاب جاء إلى رحاب المكتبة هو الموطأ للمالك والذي خط على جلد الغزال وكان ذلك سنة 1063.

بين المسجد الذي يضم قبور المؤسسين والسابقين، والمكتبة التي تضم أعرق المخطوطات باللغة العربية في العالم. بين سكان قرية “تامكروت” ونخيلها الذي يحارب أذى الطبيعة ويأبى أن يتحول إلى أعجاز نخل خاوية. بين فقر الساكنة وتاريخهم الثقافي والإسلامي العريق. بين تمور المنطقة الخاصة ومياه واد درعة الدافئة. بين كل ما ذكر لا تزال قرية “تامكروت” تقاوم لأجل الحفاظ على أمجاد أسلافها وكرامة وإرث تركوه.

3 تعليقات
  1. Zdi ammi يقول

    اول شيء مشكور على محاولة تصوير واقع تمكروت، لكن معذرة لم تكن فيها الموضعية، وبكونك صحفي لم تحترم اخلاقيات المهنة لعدم قولك الحقيقة عن تمكروت باعتبارك تطرقت الى السلبي مع الزيادة فيه

    ولا شك ان زيارتك للبلدة لم تتجاوز الساعة من الزمن، فالصحفي لن يكفيه اسبوع للحديث عن تمكروت، اهلها و كرمهم، و انشطتهم و علاقاتهم بعضهم لبعض او حتى علاقتهم بالضيوف، و ما قولك ان نقيب الزاوية لم يستقبل بحفاوة الا دليل الى انك لم تغص بعمق لتعرف اهل تمكروت خاصة و سكان درعة عامة و ادعوك هذه المرة لتدق باب أي منزل كيف ما كان لترى الحفاوة..

    اما موضوع الهجرة فهو صحيح، لكن ليس كل من هاجر البلد سببه الفقر و المعاناة، بل من أهل القرية من لم تسمح له ظروف العمل بالاستقرار، ( اساتذة، تقنيون، محاسبون، عمال و تقنيو البناء، تقنيو الفلاحة، طلبة ….) باعتبار ان طبيعة عملهم هي الفاصل بينهم و بين بلدهم الام، والحمد لله ــ الآن ــ من المهاجرين من يعود ليستثمر في تمكروت، و هي الآن احسن حالا من سنوات مضت

    قبل مروري

  2. Zdi ammi يقول

    اول شيء مشكور على محاولة تصوير واقع تمكروت، لكن معذرة لم تكن فيها الموضوعية، وبكونك صحفي لم تحترم اخلاقيات المهنة لعدم قولك الحقيقة عن تمكروت باعتبارك تطرقت الى السلبي مع الزيادة فيه

    ولا شك ان زيارتك للبلدة لم تتجاوز الساعة من الزمن، فالصحفي لن يكفيه اسبوع للحديث عن تمكروت، اهلها و كرمهم، و انشطتهم و علاقاتهم بعضهم لبعض او حتى علاقتهم بالضيوف، و ما قولك ان نقيب الزاوية لم يستقبل بحفاوة الا دليل على انك لم تغص بعمق لتعرف اهل تمكروت خاصة و سكان درعة عامة و ادعوك هذه المرة لتدق باب أي منزل كيف ما كان لترى الحفاوة..

    اما موضوع الهجرة فهو صحيح، لكن ليس كل من هاجر البلد سببه الفقر و المعاناة، بل من أهل القرية من لم تسمح له ظروف العمل بالاستقرار، ( اساتذة، تقنيون، محاسبون، عمال و تقنيو البناء، تقنيو الفلاحة، طلبة ….) باعتبار ان طبيعة عملهم هي الفاصل بينهم و بين بلدهم الام، والحمد لله ــ الآن ــ من المهاجرين من يعود ليستثمر في تمكروت، و هي الآن احسن حالا من سنوات مضت

    قبل مروري

  3. arabi يقول

    تمكروت تحتضر كما اختصرت سابقاتها كمملكة رباط الحجر المسيحية مملكة لكتاوة اليهودية.
    إنه مكر التاريخ.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.