العنف ظاهرة سيكو سوسيولوجية..
تعالت في الآونة الأخيرة، وبشكل كبير، أصوات تندد بموجة العنف التي سرت في مجتمعنا كما تسري النار في الهشيم، في البيت، والمدرسة والشارع وأيضا المرافق الرياضية التي أصبحت تعرف انتشارا كبيرا لشتى أنواع العنف الذي نزل بثقله على كاهل الدولة والمجتمع والفرد أيضا..
ولا يسعني، والحالة هذه، إلا القول بأن العنف جزء من هذا العالم، وظاهرة ملازمة للحياة البشرية في مختلف الأمكنة والأزمنة، يشكل تهديدا لأمن الإنسان واستقرار المجتمع. لذلك اختلفت المقاربات التي تناولت مفهوم العنف وحاولت تفسيره. فقد اعتبر المحلل والطبيب النفساني النمساوي سيغموند فرويد أن في الإنسان جانبا غرائزيا يدفعه إلى التصرف بعنف وقسوة تجاه ذاته (مازوشية) أواتجاه غيره (سادية). فيما يرى العالم الألماني إريك فروم أن ميل الإنسان إلى العدوان والتدمير ليس ميلا فطريا، وإنما هو حصيلة دوافع مرتبطة بشروط موضوعية، ما يعني أن هناك طاقة تدميرية تغذيها ظروف خارجية وأحداث مفاجئة فتدفعها إلى الظهور.
هذا، وارتباطا بما سبق، فإن المتأمل في واقعنا الراهن، يرى بما لا يدع مجالا للشك، أن الإجراءات التي يتم اتخاذها من طرف كل الجهات المعنية، من دولة وأسرة، ومدرسة، وإعلام، وغيرها من جمعيات المجتمع المدني، لم تستطع البتة أن توقف زحف موجة العنف التي تنمو وتكبر في كل لحظة وحين، ككرة ثلج متدحرجة. ولا أن تعطينا تفسيرا دقيقا له. خصوصا ونحن أمام ظاهرة نفسية واجتماعية وثقافية تستعصي عن المعالجة السطحية والمتسرعة، لذلك يغدو من الضروري إعادة التفكير في مجموعة من الأدوار التي يمكن أن تقدم بعضا من الحلول للتقرب من أسباب هذه الظاهرة. وأولى هذه الأدوار تلك المتعلقة بالبحث العلمي والأكاديمي المطالب بلعب الدور الرئيس في مدنا بمعطيات بحثية علمية دقيقة حول الظاهرة. هنا أتساءل أيضا عن دور المختصين في العلون الإنسانية بمختلف فروعها السيكولوجية والسوسيولوجية والأنتروبولوجية وغيرها من العلوم والتخصصات المعاصرة التي بدونها لا يمكن أن نتلمس قصدنا وغايتنا في هذا المجال.
إن الاقتصار على الإجراءات الأمنية والزجرية لوحدها، بالرغم من أهميتها، لا يمكن أن يعالج المشكلة من الأساس، ما لم تتضافر جهود مؤسسات أخرى كالأسرة والمدرسة والإعلام وجمعيات المجتمع المدني. فبخصوص الأسرة، نرى أن دورها بدأ يخفت شيئا فشيئا، مع العلم أنها النواة الأولى في ما يمكن تسميته ب”مؤسسات التشكيل الثقافي”، أي أن وظيفتها الأساس هي تربية الأجيال وتلقينهم المبادئ الضرورية للإقبال على الحياة والانفتاح على المجتمع. بعدها يأتي الدور الأهم ذاك الملقى على عاتق المدرسة بكل أطيافها ومكوناتها..
لا نجادل في كون المدرسة أهم مؤسسة اجتماعية من واجبها أن تسهر على غرس القيم الأخلاقية والإنسانية في نفوس الأطفال والمتعلمين، وذلك بتبني مقاربات تربوية وبيداغوجية وبرامج تستهدف بالدرجة الأولى إشباع حاجات الأطفال ورغباتهم على تعددها واختلافها، وتمكنهم من الإندماج في مجتمع التسامح والتعاون والتضامن بعيدا عن كل أشكال العنف المدمرة والمخلة بالنظام العام، وقادرة على تحويل ميولاتهم العدوانية صوب أهداف تربوية وكفايات أخلاقية وتواصلية. وهذا لا يمكن أن يحدث إلا بتنويع مشاركة التلميذات والتلاميذ على حد سواء في الأنشطة المدرسية المندمجة لما لها من نتائج ايجابية تجعلهم قادرين على تقدير الآخر واحترامه بدل تحقيره وتعنيفه..
أما الإعلام، فأعتقد أن دوره هو تتميم وتكميل للأدوار السابقة، وذلك عبر برامج تلفزية وإذاعية جادة وهادفة توضح سلبيات العنف وتكشف تناقض الداعين إليه أوالذين يتخذونه وسيلة لحل مشاكلهم أوللتعبير عن ذواتهم. هنا يحق لي أن أتساءل كما تساءل غيري: لماذا لا يتم دعم البرامج والأفلام التي تتناول موضوع العنف من زاوية رفضه وضرورة التخلي عنه، بدل منح الدعم لأفلام وألبومات يكون همها الوحيد هو تأجيج كل السلوكيات السلبية التي تخدش صورة المجتمع والوطن على حد سواء، سواء بوعي منها أو بغير وعي..؟
أعتقد أننا معنيون جميعا بوضع حد للعنف بمختلف أشكاله: المادي والرمزي والجنسي.. وغيرها. وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بتضافر كل الجهود بغاية العمل على تجفيف منابع العنف، وإلا فسنسقط كالعادة في فخ اجترار الكلام نفسه الذي اعتدنا على ترديده في كل “مناسبة عنف” سواء داخل الأسرة، أو في المدرسة، أو في الملاعب الرياضية… وما خفي كان أعظم..
إن مجتمعا، في أصله، يربي على العنف ويدفع إلى تبنيه سلوكا، داخل الأسرة وفي المدرسة والشارع، لا يمكن أن تنتظر منه سوى إعادة إنتاج القيم السلبية والهدامة. لذا فإن تبني سياسة وقائية ضرورة ملحة ولا غنى عنها في مجتمع يزحف نحو تكريس مبدأ الغلبة للأقوى، حينها يصبح أي علاج لهذا الداء قد فات أوانه..
من هنا أعيد طرح السؤال، بدل المرة ألفا، هل العنف الذي ألفنا مشاهدته وسماع أخباره، صباح مساء، فطري فينا نحن البشر أم هو نتيجة دوافع وأسباب تدفعه للظهور؟
سؤال أتمنى أن تسهم الإجابة عنه في محاصرة العنف والقضاء عليه.