من التواصل إلى التفاعل: نحو مقاربة سيكوسوسيولوجية لمعيقات الفعل التواصلي في المجتمع المغربي
شذرة البدء “حينما لا نعرف كنه الشيء نمارس الإخصاء عليه” (سيغموند فرويد).
إذا كان أرسطو يقول أن الجمال يتركب من نظام الأشياء الكثيرة، فإننا نعتقد أن التواصل هو الآخر يتركب من نظام هذه الاشياء الكثيرة. فالتواصل لا يرضي إلا إذا كان جيدا وتتشابه مكوناته وينتظمها انسجام واحد. ففي أعماق الإنسان توق إلى شيء اتفقنا على تسميته باللذة التواصلية / التفاعلية، إنه توق للذات وللآخر في آن. فالتواصل هو أجود الألفاظ في أجود نسق، أي أنه أداء لفظي ورمزي، بمعنى أنه ذلك التعبير الناجح. ويمتاز التواصل بصفات معينة ترضي الذوق وتريح الإحساس كالتناسب والانسجام، لهذا فالتواصل يرضي دافعا تصوريا، لأننا نحمل الآخر في داخلنا كتصور، ونعيد بناءه على المستوى النفسي، فالمسألة ليست ميكانيكية، بل نبني الآخر كتصور، كإحساس، كتفاعل وانفعال، ونبنيه انطلاقا مما اكتسبنا وانطلاقا من إدراكنا ومعارفنا، لأن للصورة والاستعارة قيمة أساسية في تحديد قيمة التواصل. ويقول المنفلوطي: إن التصوير نفسه أجمل المعاني وأبدعها، بل هو رأس المعاني وسيدها. على اعتبار أن العلاقة تبنى داخل الشخص قبل أن تبنى خارج الشخص، حيث أن الآخر يحضر فينا حتى في غيابه.
في هذا السياق برنامج “بصراحة” الذي تبثة قناة ميدي 1 تيفي Medi1Tv الذي خصص إحدى حلقاته الأخيرة لموضوع: المعيقات السيكوسوسيولوجية والمعرفية للتواصل”، مستضيفا كل من الأستاذ مصطفى السعليتي والأستاذ إدريس القري بالإضافة إلى مستشار البرنامج الأستاذ مصطفى الشكدالي. لقد كانت الفرضية الأساس التي انطلق منها النقاش هي كون أن جودة العلاقات الاجتماعية راجعة إلى جودة التواصل، والعكس بالعكس. فحسب مقدمة البرناج الأستاذة خديجة، يعتبر التواصل ذلك الجسر الذي من خلاله تبنى العلاقات التفاعلية بين الأفراد والمجتمع. إنه المقياس الذي تقاس عليه درجة التفاعل بين الأفراد من جهة وبينهم وبين المؤسسات الاجتماعية التي يتواصلون معها من جهة أخرى. إن التواصل بهذا المعنى يعتبر تفاعلا اجتماعيا يفسح عن سلوكيات علائقية، وهو بذلك يقوم بتوظيف مجموعة من الآليات النفسية والرمزية والمعرفية، تتوقف عليها طبيعة العلاقات الاجتماعية التواصلية. إذن كيف إذن يمكن تعريف التواصل كتفاعل اجتماعي وما هي الآليات التي يرتكز عليها في بناء علاقات اجتماعية؟ وما هي المعيقات التربوية والنفسية والمعرفية التي تحد من جودة التواصل والتفاعل الاجتماعي في بناء علاقات اجتماعية مثمرة؟.
بعد تأكيده أن هذا الموضوع يدخل في صلب علم النفس المعرفي الإجتماعي، يرى الأستاذ الشكدالي أنه حينما نتحدث عن التواصل والتفاعل، فإننا نجد أنفسنا نتحدث عن العلائقي / العلاقات، أخذا بعين الاعتبار كون أن الانسان لا يمكن أن يعيش خارج إطار العلاقة، الشيء الذي يؤكد حاجتنا إلى الآخر / الغير. وهذا الآخر / الغير قد يكون مؤسسة، أو فرد، أو شيء آخر. ولا تنحصر الحياة الاجتماعية في وجود أطراف العملية التواصلية، أو في التواصل بمعناه السطحي(مرسل/ مرسل إليه) فقط، وإنما في كيفية تفاعل هذه الأطراف فيما بينها معبرة بذلك عن علاقة متشابكة ومتداخلة. فالسؤال الأساسي هو كيف يتم هذا التفاعل؟ ما هي الشحنة العاطفية، والمعرفية، والنفسية التي يحملها؟
من جانبه أكد الأستاذ السعليتي الفرضية التي انطلق منها أن هناك علاقة وطيدة بين جودة التواصل وجودة العلاقات الاجتماعية، خاصة أن علم النفس الاجتماعي المعرفي يهتم بالعلاقات بين الأفراد relation interpersonnelle / interindividuelle. واستمرارية هذه العلاقات وجودتها ــ حسب الباحث ــ مشروطة بجودة التواصل بين هؤلاء الأفراد. ومن هنا، يمكن تقسيم الأفراد في المجتمع إلى فئتين: هناك الأفراد الذين يملكون مهارات تواصلية (لهم أساليب في التواصل من خلالها يمكنهم حل مشكلات واتخاذ قرارات والتأثير في الآخر…) وهناك فئة أخرى تعيش أزمة التواصل crise de communication (داخل الحياة الزوجية، والحياة المهنية، والمدرسة، والحياة الاجتماعية) ، وهنا أهمية مقاربة علم النفس الاجتماعي لفهم هذه الأزمة. إن مشاكل كثيرة في الحياة الاجتماعية لها علاقة بأزمة التواصل، فالمشكل لا يكمن في المشكل، بل في الطريقة التي نتواصل بها لحل المشكل. إن علم النفس بكل فروعه يحاول أن يفهم لماذا يختلف الأفراد ؟ لماذا هناك أفراد لهم مهارات تواصلية وآخرون لهم مجموعة من المعيقات النفسية والمعرفية والثقافية تجعلهم يعيشون مشاكل. ومشاكل التواصل لها تأثير سلبي على الحياة الأسرية والمهنية اليومية. لذلك فالوعي بهذه المعيقات عامل أساسي للرجوع إلى الذات وفهم ماهية مشاكلنا الشخصية.
وقد حاول الأستاذ السعليتي تشخيص بعض المعيقات النفسية والمعرفية والثقافية التي تحول دون فعل تواصلي جيد، ومن بين هذه العوائق: عدم الاعتراف بالآخر في شخصيته وأفكاره. وذلك عندما نتوهم أننا نفهم كل شيء والآخر لا يفهم أي شيء. فالصورة التي لدينا حول الآخر إما صور نعترف بوجوده (غياب الاسلوب السلطوي) وإما ننكر هذا الوجود (أسلوب سلطوي). هذا يزكي كون عمليتنا التواصلية تستحضر الخصوصيات النفسية (كيف يؤثر ما هو نفسي في التواصل؟) والخصوصيات المعرفية (كيف تؤثر طريقة تفكيرنا في التواصل) في حياتنا اليومية. فالإنسان حينما يتواصل هو ضحية لهذا الأسلوب السلطوي، كما الذي يتواصل كذالك فهو ضحية لتلك الأفكار التي ترسخت لديه حول نفسه وحول الآخرين، وتؤثر بشكل لا شعوري على التواصل، فالشخص عوض أن يرجع إلى ذاته ليصحح هذه الأخطاء المعرفية فهو يستعمل مجموعة من الميكانيزمات الدفاعية. فهذه العوائق النفسية، والعوائق المعرفية، والعوائق الثقافية تؤثر بشكل كبير على استمرارية العلاقات في جميع المجالات.
هذه المعيقات حسب الشكدالي تكون ناتجة عن الأفكار المسبقة/الجاهزة، وتعوق التفاعل المثمر الإيجابي. فهذه المعيقات ترتبط في شق منها بالتنشئة الاجتماعية، هذه التنشئة تعطينا أفكار نمطية لأن ليس فيها حركية ودينامية، لكن فيها حكم جامع وقاطع. وبالتالي نحن في حاجة إلى علاج معرفي سلوكي، لأنه أحيانا نقرأ بشكل باثولوجي ما يصدر عن الآخر وندخل في عداء ضده لا لسبب لأننا فهمناه خطأ. وهذا ما يصطلح عليه في علم النفس الاجتماعي بالبخل المعرفي، أو العجز المكتسب، أو التفسير السببي الخاطئ كما يحلو للأستاذ السعليتي تسميته ( أي ليست لدي الآليات لقراءة خطاب الآخر)، وهذا مسؤولية مجتمع ككل. فالشخص حسب السعليتي يكتسب من خلال تجاربه مع الآخرين وكذا إحباطاته ما يسمى بالأفكار الخاطئة حول الواقع حيث تمارس قهرا على إدراكه للآخرين، الشيء الذي يجعل ردود الأفعال تكون خاطئة. وهذا يتطلب التحرر كعلاج (علاج معرفي سلوكي : تصحيح طريقة التفكير)، لأننا نحن ضحايا هذا التفكير والتفسير الخاطئ، أو الإدراك المعطوب.
من جانبه اعتبر الأستاذ القري أننا لا يمكن أن نتحدث عن التواصل إلا في بعده العلائقي، حيث أكد على أن التواصل بصفة عامة بين الأفراد والجماعات دليل على مدى حيوية وصحة المجتمع أو الجماعة الاجتماعية. فكلما كان التواصل مفتوحا ومتعدد المستويات ومتنوع ويتطرق لمواضيع وجوانب متعددة للحياة الاجتماعية، والنفسية، والاقتصادية، والتربوية، والسياسية، كلما كان ذلك دليل عنفوان في ذلك المجتمع بغض النظر عن طبيعة هذا التواصل. إذان كيف يبنى التواصل؟ يجيب الباحث على هذا السؤال انطلاقا من آليات ثلاثة: اللحظات الحميمية الأولى (ماقبل الولادة)، التعليم النظامي، والتنشئة الاجتماعية. التواصل يلبي مجموعة من الرغبات، هناك علاقة بين التواصل الجيد والاشباع النفسي والوجداني، فالطفل منذ ولادته في حاجة إلى أن يتواصل. بمعنى أن التواصل يرتبط بشبكة العلاقات الاجتماعية بمعناها العام، أي أنه هنا بناء وترسيخ.
وفي الأخير استخلص الاستاذ القري بعض الآليات التي من خلالها نتجاوز معيقات التواصل باختلاف أشكالها، حيث اكد على ضرورة تعلم بعض المهارات التي تهدف إلى اندماج الفرد داخل الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه. فالتعلم يهدف إلى التحرك نحو الآخرين للتواصل معهم بالجسد، وبالخبرات المكتسبة، وبالإمكانيات المتاحة، فالأهم حسب الباحث هو المشترك الذي بيننا، لذا أوصى بضرورة ايجاد أساليب تربوية فعالة لتكون شخصية ناجحة في جميع المجالات.
وخلاصة القول إنه مهما تكن قيمة المضمون وأهميته فلابد له في النهاية أن يتحول إلى فعل تواصلي، والفعل الذي لا يقنعنا تواصليا يظل قاصرا عن بلوغ كماله.