مشاهد حية من الذاكرة الجنوبية 2
ان تعيش في الجنوب يعني أنك عشت المعاناة، وأن تعيش في جنوب الجنوب الشرقي فمعناه أنك المعاناة ذاتها ..لا زلت أذكر شبه الطفولة تلك التي عشنها هناك حيث نتحلق حول قنديل الغاز لنطالع دروسنا الإبتدائية.كفراشات تمتهن الرقص في الأضواء ومرات هي تلك التي تتناطح فيها رؤسنا ،وكم مرة اكتوت يدي جراء لمسة طائشة، واجمل اللحظات عندما تأخذ والدتي تلك الألة العجيبة لتقضي بها مآرب أخرى لنستريح من تلك الدروس البليدة التي كانوا يلقنوننها لنا، منها *الأضواء الثلاثة*.. و*يستحم أحمد في الحمام* لم أعرف فائدة تلك الدروس حينها ونحن لا نملك حماما ولا أضواء بل كنا نركب الدواب ونضيء بالغاز ونستحم في صحن الغسيل، في المرة الأولى خيل إلي أن أمي ستنشرني كأي قطعة قماش بالية لتنال مني اشعة الشمس الحارقة .. في صغري ايضا قدمت دعاية مجانية لشركة مالبورو،إذ أن محفظتي تحمل العلامة التجارية لهذه الشركة السيئة …
الذكر والسمعة ، ومن حسن حظي ونيتي أن الشركة لم تحقق أرباحا هناك، لأن المدمنين من أهل بلدتي يتلذوذون بامتصاص أعقاب السجائر الرخيصة *كازا* على سبيل المثال لا الحصر. لم أكن الوحيد الذي يقدم الدعاية بدون مقابل للشركات فجل زملائي يضعون ادواتهم المدرسية في اكياس فارغة تحمل علامات تجارية، فذاك يضع كتبه في كيس كتب عليه *الكتبية* وأخرى مكتوب عليها *مطاحن ورزازات الكبرى *وهلم شرا، لم تستمر سنوات الظلام تلك كثيرا، إذ تم أخيرا كهربة بلدتنا بمصابيح توماس اديسون واصبحنا نرى بعضنا البعض في الليل كما النهار لأنه من قبل كنا ننتظر الصباح حتى نرى التغيرات المفاجأة التي تطرأ على أحدنا جراء غزو البعوض لنا أو إحدى الحشرات السامة التي تتربص بنا الدوائر. كان العام عام خير ورخاء وباع أبي التمر وسدد ديون سنوات الضياع والجفاف وابتاع لنا تلفازا كيا أيها الناس و كنا من قبل نتابع الحلقات المثيرة من المسلسلات الميكسيكية المدبلجة عند عمنا عبد الكريم ورغم ردائتها إلا أنها كانت تستقطب جمهورا عريضا من أبناء الجيران ،وكان لها الفضل أيضا في سماعنا لأول مرة عن شيء إسمه *الحب* ولم نكن على علم به من قبل ولم نسمع أحد يجهر به علنا،وأصبحنا نسمع بنات البلدة ولو من بعيد غزلا بئيس *فليريا أنت نجمة والضوء يتحول.. والضوء يتلألأ..* كان إبن عمنا يستبد بنا وما إن تزداد تلك المشاهد إثارة بين *كوضالوبي وألفريدو* حتى يغير المحطة ونضع أيدينا على خدودنا شاردين ونستجمع لعابنا الجاري الذي يكون قد بلل جزءا مهما من ثيابنا والتراب أيضا،ولا نستفيق إلا على صرخة موكلي أو قدفة صاروخية للكابتن رابح أو ماجد في محطة أخرى..وعندما نلح عليه بالطلب كان يعمد إلى إغلاق التلفاز بسبب ارتفاع سخونته غير مبال بارتفاع سعراتنا الحرارية..صراحة لم يكن المراهقون وحدهم من يهتمون لأمر هذا المسلسل بل حتى الشيوخ في جلساتهم أسمعهم يرددون * فين وصلات لوبييييييييي مع لفريدددددووووووو* ، لقد استولى ذاك الجهاز على عقولنا وفتح شهيتنا على المزيد من البرامج، من بينها تلك التي أثارت دهشتنا واستغرابنا *حلقات المصارعة الحرة العالمية* وبسبب إحدى حلقاتها كدت أن أفتك بأخي الصغير يوما محاولا تجسيد دور مصارعي المفضل* روك* وبدأت المصارعة تؤثث جل نقاشاتنا وكان صديقنا احمد مشككا في تلك البنيات الجسدية الضخمة فيما نحن على طرفي النقيض معه،كثيرا ما حاول إعجازنا بطرح أسئلته الغريبة والعجيبة منها هل يقدر ذااك المصارع على شرب دلو من الماء دفعة واحدة ، هل يستطيع حمل حمار السيد الغالي فوق كتفه وأسئلة أخرى نستعرضها في حلقات قادمة من مشاهد حية من الذاكرة دمتم بود.
خالد بلحاج