كيف تقضي على الثورة؟
سَألتني مُحدِّثتي عن سبَبِ حُدوثِ المُظاهَراتِ و عن سببِ عَدم خَوفِ المُشاركينَ فيها مِن شَبابٍ و أحياناً كُهولٍ و مُراهقين مِن الاعتقالات أو الإصابات، و بِما أنّها ذات مُستوى تعليمي بسيطٍ جداً فقد تَصوّرت أن فَهمها للظاهِرة قد يَكون مُشوّشاً بَعض الشيء و أنّي رُبما أعلَم أكثر مِما تَعلم.
قُلتُ لِمُحدِثتي أنّ للمظاهرات أسباباً عِدّة أََوّلُها مُرتبطٌ بِوجودِ الفََساد و هذه الكَلِمة تَحمِل في طَيّاتِها كثيراً مِن المَعاني عَلى رَأسِها الظُلم و الاستِبداد و احتِكارُ الثَرواتِ، هَذا الفَساد لا تُحِسُّ به كُلّ فِئاتِ المُجتمع و لا كُل الأفرادِ في فِئةٍ مُعينة، و لكنّه يَمسُّ عَيناتٍ وَ شَرائِح و أَحياناً أفراداً بِعينهِم، و كُلّما انتشَر الفَساد و مَسَّ فِئاتٍ عَريضة أَصبحَ قَضِيةً وَطنية تَحشُد الكثير من المُؤيدين فَيتعاظَم حَجم المُظاهراتِ حتى تُصبِح خَارِج َالسَيطرة.
و لكنَّ الفَسادَ ليس السَببَ الوَحيد في حُدوثِ الثوراتِ و لَيسَ كُلَ الحُكومَاتِ الفاسِدة تَتِمُّ الثورة عليها، لا تحدث الثورات إلا عندما يزداد الوعي و ينتشر، و الوعي هنا لا يعني أكثر من استيعاب فِكرة أنّ هُناك فِئاتٍ مُعينة في المُجتمع تَحتكِرُ امتِيازاتٍ هي في الأصل حُقوقٌ مَنهوبةٌ للمُستضعفين في الأرض، و تَزايُد الوَعي هَذا ساهمَت فيه بِشكلٍ كَبير مَواقِع التَواصُل الاجتماعي التي أضحَت أرضاً خِصبةً للترويج للإيديولوجيات المُختلفة و لِقضايا و مبادِئ حصدَت كثيراً من المُساندين حيثُ يَتمّ توظيفُ البْروباغُندا و كُل أساليبِ التَهييجِ والتَرويع عن طريقِ ما تُوفِّرهُ هذه المواقِع من إمكانية نَشرِ المَعلوماتِ في سُرعةٍ قياسية و ضَمان وصولِها لأكبَرِ فِئةٍ مِن الناس في التَوّ و اللحظَة، و أكثر من ذلِك تقوم المواقِع الاجتماعية و على رأسها الفيسبوك بلََعبِ دورِ قناةِ الجزيرةِ الإخبارية في نَشر أخبارٍ عن مُواجهاتٍ و صِراعاتٍ بين الأمنِ و مُواطنين ناهيك عن صُورٍ لِضحايا و قَتلى، و هي أحداثٌ لا نَسمعُ عنها في وسائل الإعلامِ الوطنية لا المَسموعةِ منها و لا المرئيةِ و لا المَقروءة، و مهما اختلَفت الجِهاتُ المُروّجة لمِثل هَذه الأنباء، فإنها كلّها تَلبسُ رِداء مُحاربةِ الظُلم و مُساندة الفِئات المَسحوقَة و لا تُشكّل المُظاهَراتُ خَطراًَ حقيقياً على النظام إلا عندما يترَسّخ الإحساس بالظلم و الاستبداد لدى أغلبية الشعب.
و لكن معَ ذلك لا يُمكن القول بأنَّ وجودَ الفسادِ أو انتشارَ الوعي لوحدِهما كافِيانِ لخلقِ ثورات، إذا أخدنا بعين الاعتبار أنَّ الإقبال على أيِّ عملٍ كيفَ ما كان يَستوجِب وُجودَ قناعةٍ لدى فاعِله بإمكانِيةِ تَحَقُّقِ الفعلِ المَنشود، و الأفعالُ التي لا تُرجى مِنها نتيجةٌ لا يُقبل عليهاَ إلا المجانين، و نفسُ الشَيء يحدثُ معَ الثَورات فلولا وُجود الثِقةِ و الإيمانِ بإمكانيةِ النَجاح لما اندَلعتِ الثورة من البداية، و الدَليلُ على ذلك يَكمُن فيما شَهِدناهُ منذ الحلقةِ الأولى التي جَرت أحداثُها في تونس ثمّ انتقلت بِسُرعةٍ إلى مِصر ثم ليبيا و اليمن و سوريا لَكأنَّها عَدوى حُمى أو شَرارَة نارٍ انتَشَرت في الهشيم و في كُلّ مَرةٍ تكونُ المَعركة أشرَسُ مِن سابِقاتِها… و هذا لأنّ هُناك ثِقةً قد تَرسّخَت لَدى الشُعوبِ مَفادُها أنّ الإطاحَة بالحُكام لم يعُد ذاك الشيء المُستحيل و لكنه صار مُمكناً رغم صُعوبته و غلاءِ ثمنه الذي لا يعرف إلا عُملة الموتِ و الإعاقةِ و الخرابِ و الدماء و فوق ذلك لا يأتي بالنتيجة المُرضية دائما و لكن هُناك مع ذلك أملٌ في إمكانية النجاح و هذا تماماً ما يُفسر سر انطلاقَ الثوراتِ العربية بشكلٍ مُتتابعٍ في دولٍ صبِرت على الفسادِ و الظُلم لعقودٍ طويلةٍ، قبل أن يَشتعل أولٍ فتيل لثوراتٍ كانت تبدو مِن قبلُ مُستحيلةًَ، إنّها الثقة في أنّ ما نجحَ في تونس من المُمكن جداً أن يَنجحَ في مكان آخر….
و لكِنَّ مُحدِثتي كانَت ترمُقني بِنظرَةٍ تَنِمُّ عن عدَم اقتناعٍ بِما أرْهَقتُ نفسي بقوله و تفسيره، قبلَ أن تُبادِرني بالقول: ” شووفي رَاه آنا مَا قارْياشْ و لَكِن آنا كَنعرفْ حاجَة وحدَة سَبب الثَورَاتْ و حْرِيقْ الرَاس هِي البَطالة” !
نعم هكذا و بمُنتهى البساطة هذِه السَيّدة التي لم تحصُل حتى على شهادةٍ ابتدائية تمكَنّت مع ذلِك من وضعِ يدِها على مَوطن الجُرح و النَزف و استيعابِ ما يَعجزُ الكثيرونَ عن فهمه، ذلك أنَّ الإنسانَ العادي أوِ المُواطِن البَسيط رُبما لا يفهَم كلماتٍ من عينة “ظُلم” و “استِبداد” أو “ديكتاتورية” كما لا يفهم معنى “طُقوس الرُكوع” و قد لا يهتم بِها أَصلاً، المُواطِن العادي لا يَعرِف إلا رَغيفَهُ و مَسكَناً يَأويه و أولاده، أمّا نَظَريةُ إلْهاءُ الشعبِ بالبحثِ عن مَصدرِ رِزقه حتى لا يتَسنّى له التفكير في أُمور السياسية نَظرِيةٌ أثبتت قِدَمها و عَدَم مُواكبتِها للعصر الذي نَعيشُ فيه، لأنَّ أيَّ شيء زادَ عَن حدِّه انقلب إلى ضدِّه، و الإنسانُ الذي يَقضِي عُمرهُ ساعِياً وراء لُقمة العيش دُونَ أن يَعثُر عَليها سُرعان ما يفقد الأملَ و يبدأ بالتنقيب عن السَببِ الأصلي الذي جَعل العُثور على هذِه الُلقمة الضَائعة ضَرباً من ضُروبِ المُستحيل أي أنّه يتحوّل منَ البحثِ عن اللُقمة إلى البحثِ عن سارقها ! هذا عن الإنسان ذو المستوى التعليمي البسيط فما بالنا بالشاب الجامعي الذي أفنى حياته في الكدّ و التحصيل؟
أن يكونَ نِصف المُجتمع عاطِلا عن العمل و أن لا تَقتصِر مُشكلة البِطالة على الشباب فقط بل و أن تتجاوزهم للكهول أيضاً هذه هي المحطة الأولى للإنفجار….أن يعيش الشبابُ في فراغٍ قاتِلٍ و أن يقضي في هذا الفراغِ وقتاً طويلاً حتى تَمضى مَرحلةُ الشبابِ إلى غير رَجعة تاركاً صاحِبهُ يرفلُ في اليأسِ و الوِحدة، في بلدٍ يشيخُ فيهِ الشابُ قبلَ أن يجِد عملاً فيترتّبُ عن هذا أن تنعدِمَ فُرصتُه في تكوينِ أُسرةٍ و إنجابِ أبناءٍ يستحقونَ أن يَحيى لأجلهم، وضعٌ كَهذا يُهدِّدُ بأكثر من مُجردِ انفجار، لِهذا ليسَ منَ المُفترضِ أن نَستغرِبَ مَشهدَ المُعطلين و هُم يَحتجونَ في شوارِع الرباط باستمرارٍ مَرةً أمام البرلمان و أخرى أمام مَنزلِ رئيس الحُكومة… مِن الأكيد أيضاً أنّ أغلبَ من يبدأُ المُظاهراتِ هم مِن المُعطلين ذلك أنّ هَؤلاءِ ليسَ لديهم ما يَخسرونَهُ لا عملً و لا أسرةً و لا أولاداً فقط مُستقبل مُظلم مُنعدم الملامِح، و عندما أقولُ المُعطلين فأنا لا أتحدثُّ عن خِريجي الجامعاتِ فقط و لكني أتَحدثُّ عن كثيرٍ من الفِئاتِ التي تُعاني في صمتٍ إبتداءً من “الفراّشة” الذين يتم طردُهم و مُصادرَة سِلعهم إلى النِساء اللواتي يُهرِّبن السِلع بباب سبتة و مليلية مُتحملاتٍ الإهانات و خراطيم أنابيب الغاز التي تصفَعُ جُلودَهم في الدُخول و الخروج، وماسِحي الأحذية و غيرهم ممن يحترفون مهنا تتعقبها القوانين دون أن تأتي بالبديل الحضاري و الإنساني ، و الدولة التي تريد النجاةَ من مُسلسلِ المُظاهراتِ و تَهديداتِها يجِبُ أولاً و قبل كُلّ شيءٍ أن تتوفّر فُرص الشُغلِ للشبابِ عن طَريقِ تنميةِ الاقتصاد و تشجيع الاستثماراتِ و المَشاريع الصَغيرةِ مِنها قبلَ الكبيرة، و إعادةِ توزيعِ الثرواتِ عن طَريقِ تَنميةِ المَناطِق الفَقيرة، نحنُ لم نَسمع أبداً عن إنسانٍ لديه عمل محترم و أسرة يبدأ بالتظاهُر اللهُّم إذا كانَ صاحِبُ حقٍّ ضائعٍ أو صاحِبُ إيديولوجيةٍ مُعينة، و لكنَّ الثوراتِ لا يُلهِبُ نارَها إلا مَن لا يملكُ شيئاً يَخسرُه باستثناءِ حياةٍ بئيسةٍ لا تستحِقُّ أن تُحيى، ذلك أنَّ الشبابَ طاقةٌ عظيمةٌ و هو كذلك ثَروةُ و سِلاحُ الأُممِ و مِن المُؤسِف أن تُهدَرَ الطاقاتُ و تُبدََّد الثَرواتُ و يُوّجَهَ السلاحُ ضِدّ الوطنِ نفسِه، و لو أنَّ شبابَ تونُس و مصر وليبيا و غيرِهم تمَّ إلهاؤهم بالعمل و تَحقَّقت لهم فُرصةُ تحصيلِ العَيش الكريم لما فَكروا في القيامِ بثوراتٍ لم تكُن في يومٍ من الأيامِ مضمُونةََ النتائج قبلَ أن يحُلّ عليها الربيع بِصفعةٍ تلقّاها شابٌ على وجهِه بسبب عملِه الذي لم يجِد غيرهُ مُنقذا من بَراثِن الفقرِ و الجُوع، فعندما يحصُل كلُّ مواطنٍ على حقِّه في خيراتِ الوطن الواحِد و كُلٌّ على قدمِ المُساوات حينها تَختفي الأنظِمة الاستبدادية تِلقائيا فما الإستبداد إلا احتكارُ الثروة من فئات معينة و حصولها على القوّة و الهَيمنة مِن خِلال سُلطة المال، لأنّ الأمرَ أشبه بِمجموعة حلقاتٍ ترتبط كلٌّ منها بالأخرى فلا يُمكن فصلُ هذهِ عن تلك… و القضاء على الثورة لا يتِمُّ إلا بالقضاءِ على الفقرِ و البُؤس و الجُوع و توفير سُبلِ العيشِ الكَريمِ للجميعِ و أن يتّسع صَدرُ القانون للجميع، و قد صَدقت مُحدّثتي فيما قالت، فلا عجَبَ أن تنبعِثَ الحِكمةُ مِن أفواهِ البُسطاء !