في الحاجة إلى مقاربة قيمية
مر على بلادنا حين من الدهر و هي تتعاطى مع الكثير من الأزمات و المعضلات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية بمنظور قاصر و بمعالجة مجتزأة ، تفتقر إلى الإحاطة الكلية و الرؤية الشاملة للأشياء ، وقد يرجع ذلك إلى قصور في النظر، كما قد يعود إلى غياب الإرادة الحقيقية في الإصلاح . وكم غرقت البلاد في أوحال مشاكل و قضايا معقدة و مركبة تتداخل فيها عناصر و عوامل عدة ، وكان القائمون على شأن تدبيرها يعالجونها بمقاربة أحادية أو بشكل انفرادي، لنأخذ مثالا على ذلك ، مشكلة الإرهاب و الشبكات الإرهابية التي طالما أرقت المسؤولين و روعت الآمنين وحيرت المحللين ، وتجاوز فيها تعامل السلطة حدود العدالة ، فاتهم من اتهم و اعتقل من اعتقل و حوكم من حوكم ، تم كل ذلك – و بشهادة المتتبعين- في ظل تجاوزات و اضحة اعترفت بها حتى أعلى سلطة ، إلى حد أصبح بعض الحقوقيون يقولون أننا ربما سنكون بحاجة إلى هيئة إنصاف و مصالحة أخرى لتصفية تركة تلك التعسفات .
و رغم ذلك لازال خطر الإرهاب جاثما يتهدد البلاد و العباد في كل حين ، ومن ثمة يظهر مدى عجز المقاربتين الأمنية و القانونية وحدهما و محدودية نتائجهما في حلحلة هذا الإعضال و اجتثاث أسبابه و اقتلاع جذوره .
ألم يكن أجدر بهؤلاء النظر إلى الأزمة من زوايا و مداخل متعددة و مندمجة يتناغم فيها ما هو قانوني بما هو اجتماعي و تربوي و أمني ؟ ألم نكن بحاجة إلى استحضار و استثمار الجانب القيمي التربوي (الشرعي) لفهم الظاهرة والوقوف على أسبابها و فتح حوار جاد مع بعض الشيوخ و الزعماء المحسوبين على تيارات التطرف و التشدد و التكفير ؟ ولم لا يتم اقتحام فضاء السجون و محاورة المتهمين حول أفكارهم و خطورتها على الأمة و المجتمع ؟ كما حدث في دول عديدة و كانت له ثمار طيبة.
لا يخطئ العاقل فوائد و فضائل هذه المقاربة الجريئة بما هي أداة لتوفير جو من الثقة و الإنصات المتبادل بين جميع الأطراف ، ومنازلة الرأي بالرأي و الحجة بالحجة ، فالذين يتبنون أفكارا تكفيرية متطرفة يعتبرون الدولة و قسم من المجتمع أعداء و خصوما يجب محاربتهم و بالتالي هناك تنافر حاد و هوة في العلاقة سحيقة . وكم كنا سنوفر من الجهد و الوقت و المال لو عمل المسؤولون على بناء هذا المناخ ورتق هذا الفتق.
إن تغييب المقاربة القيمية الأخلاقية في معالجة مشاكلنا المتفاقمة و العميقة ينسحب أيضا على مواضيع و قضايا أخرى و فى منتهى التعقيد و التركيب ، خذ مثلا أزمة حوادث السير و ما أدراك ما حوادث السير التي تحتل فيها بلادنا الرتبة الأولى عربيا و ربما السادسة عالميا ، و يذهب ضحيتها حوالي 4000 قتيل سنويا ، فتم اعتماد مدونة السير الجديدة المشحونة بترسانة من القوانين و الإجراءات الزجرية و العقوبات القاسية ، وها قد مرت سنتين تقريبا على تطبيقها فأثبت الواقع قصورها و فشلها ، في حين كان أحرى بالسلطات و القائمين على هذا الشأن لو أحاطوا القضية بمنهج شمولي مندمج يتم فيه استثمار فضاء المدرسة لتحسيس النشء و توعيته بشكل مستمر و توعيته بأسباب السلامة الطرقية ، و بالسلوك المدني السليم ، و تقوم فيه المجالس العلمية من خلال المنابر و المساجد بدورها في تحسيس مستعملي الطريق بقداسة الروح الإنسانية ، و استشعار مراقبة الله سبحانه في الطريق قبل استشعار مراقبة الرادار أو الشرطي ، و تنهض الجمعيات و مدارس السياقة بواجبها في التذكير ببعض القيم التي عرف بها المغاربة مثل التضامن و التسامح الإيثار و نكران الذات .
هكذا تظهر القيمة المضافة لهذه المقاربة في:
– بعدها الاستباقي الذي يحمي المجتمع قبل وقوع الفاجعة و نزول المصيبة بنشر القيم و الأخلاق و تفعيلها و جعلها مشاعة في المجتمع.
– طريقة المعالجة أثناء حدوث الواقعة و التي تنبني على الحوار و مقارعة الفكرة بالفكرة و الرأي بالرأي و تأصيل الظاهرة و فهم أسبابها.
– روحها التي تتجه لمخاطبة الوجدان و العقل و محاولة إيقاظ الشعور بالمسؤولية و أمانة الاستخلاف و إعمار الأرض.
إننا عندما نلح على إدراج هذه المقاربة ضمن المقاربات المعتمدة لا نبتغي من وراء ذلك إقصاء المداخل الأخرى ، لكن يبدو أننا نحرم مجتمعنا من حزمة قيم مركوزة في نسيجنا العقدي و الديني لكنها تحتاج إلى تفعيل و أجرأة و توطين، و لنا في اليابانيين المثال و البرهان، حيث استطاعوا عن طريق تفعيل منظومة القيم (العمل ، العلم، الوقت، الاحترام ، التضامن…) خلق مجتمع متسامح متماسك يقدر الذات الإنسانية و يحترم كينونة الإنسان ، و يعشقون وطنهم إلى حد الجنون وفي هذا يقول كاتب ياباني وهو ” تاشيو أوجيما : ” أن نعلم النشء الصدق و الحقيقة هذا أمر مهم، و لكن الأمر الأهم أن نعلمهم أن يكونوا يابانيين“