أمراض المثقفين
لعب المثقف على مر التاريخ أدوارا ريادية في نهضة الأمم و تقدمها ، و كان دائما كالشمعة التى تحترق كي ينعم الآخرون بوهج نورها ، يكابد دروب الليالي في البحث و التنقيب عن المعلومة و مواكبة و مراقبة ما يجري في مجتمعه بعين المحلل الناقد و الموجه ، ليعبر عن معاناته و همومه المستمرة التي تعهد بحمل عبئها عن طواعية و اختيار ، فكانت أسمى أمانيه أن يرسم أحلام بلده في التنمية الثقافية و الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و يسعى إلى ترجمتها إلى واقع حي معاش، لا يمنعه انغماسه بين دفات الكتب من الالتصاق بقضايا الشعب و متابعتها لحظة بلحظة ، يقتسم معه حلو الأخبار و مرها ، يستنشق هواءه ، يتألم لآلامه و يفرح لأفراحه .
و قد قدمت لنا الحضارة الإنسانية نماذج مشرقة من هذه السلالة و كان لها ما كان من باع و إسهام ، في سوق العلم و المعرفة و البحث، كان سؤال المعرفة همها الأصيل ، و البحث في الظواهر و سبر أغوارها و تفكيك رموزها هدفها النبيل، و تحري الموضوعية في التحليل نهجها القويم ، لا تحابي شيخا و لا حزبا ولا زعيما ، و لا تعرف للسلطة خضوعا ولا تملقا و لا تدافع أو تنافح لتنال المقابل و العطايا و المدد .
وإذا كانت تلك بعض الخصال المجيدة التي عرف بها المثقف ، فإن التاريخ لم يعدم وجود نماذج مثقفين من طينة أخرى شوهت صورة المثقف و عكرت صفو مكانته و قللت من هيبته داخل المجتمع ،بل وجعلته في أحيان كثيرة مثارا للنكت و التهريج ، وواقعنا اليوم يعج بحالات ” ماركات “غير قليلة من هذه السلالة المعتلة التي تعاني أمراضا مزمنة تلحق بالغ الأذى بالبلاد و العباد .
قبل الخوض في تقديم أعراض تلك الأمراض و تداعياتها لابد من تسجيل ملاحظتين أساسيتين :
– الأولى تتعلق بالسياق الذي نعيشه و هو سياق الربيع العربي و الفرص التاريخية التي فتحها أمام الأمة لمسح قتامة النكبات و النكسات و الانكسارات المتتالية التي لاحقت هذا الجسد المكلوم لردح من الزمن ، و نعتقد أنه آن لهذا الجسم أن يعرض وجهه على مرآة التاريخ و ينفض عنه غبار اليأس و الانحطاط ، وأن يعي جيدا حساسية اللحظة الفارقة التي نعيشها اليوم ، و التي لا تحتمل تكرار الأخطاء . إننا باختصار أمام خيار وحيد لا شريك له وهو ” استثمار اللحظة وإكمال مسيرة الإصلاح الشاقة و المكلفة- لامحالة-” .
– الثانية وهي أن تاريخ المثقف العربي الحديث كما يقول- د. عبد الإله بلقزيز – “يجب أن يقرأ بوصفه تاريخ صلته بثلاث سلط : سلطة المعرفة و الجمهور والحاكم ” وفي ضوء العلاقة بين هذه المكونات الثلاث سنحاول بسط وضعية المثقف في حالتنا الراهنة .
• أول تلك الأمراض مرض النخبوية أو الانعزالية : وهي الحالة التي يكون فيها المثقف بعيدا عن هموم المجتمع و قضاياه و معاناته ، قابعا في أبراجه العاجية يسبح في غيبات الأوهام الميتافيزيقية و الأفكار الطوباوية العمياء ، و حين يفعل ذلك لا يدرك أنه يمارس هروبا أكاديميا مفضوحا يفكر فيه من خارج السياق ، و في حالة شرود تام عن أطوار الأحداث الجارية في الميدان و على بساطه . إن هذا الاستعلاء العلموي – و التسمية هنا لأستاذنا بلقزيز – الذي يحتكر من خلاله المثقف المعرفة و كأنها ملك خاص به و محمية لا يلجها أحد إلا هو، قد يتحول إلى وسيلة للسيطرة و القهر و في هذا يقول د. برهان غليون:” وكل معرفة لا تعمم تصبح وسيلة سيطرة سياسية و اجتماعية ”
لا يخفى على كل ذي بصيرة أخطار هذا السلوك و أكلافه الثقيلة على الدولة والمجتمع معا ، ليس أقلها أنه “ينتج نخبة لا تملك قرارا و مجتمعا و جمهورا خاضعا مفكك الوعي” كما يقول د. سعيد شبار.
ثاني تلك الأمراض مرض الشعبوية و هي عكس النخبوية و يعرفها د عبد الإله بلقزيز بقوله ” نزعة في التفكير السياسي تجنح لتقديس الشعب و حسبانه مستودع الحقيقة المطلقة ومناط الخلاص النهائي من شرور العالم ، ما يقوله الشعب – في عرف دعاة هذه النزعة- هو القول الحق الذي ما بعده قول موثوق”
يقتصر دور المثقف هنا على الأخذ من الشعب و الرواية عنه و الانصياع له، والنسج على منواله إلى حد تنتفي فيه ذاته و يصبح عبدا مملوكا في يد الجمهور -طبعا- لم يعد في هذا المقام مجال لنقد أو توجيه أو ترشيد لسلوكات المجتمع و آفاته، لأن المثقف أصبح مسلوب الإرادة ، فاقدا للجرأة و يخشى إن هو اقترف ذلك أن يحرم من بركات الشعب و من جزيل عطاياه و أمداحه و أن يفقد حظوته أمام العامة و يبور قلمه ، وأن تدخل إنتاجاته في سن اليأس المبكر عفانا الله وإياكم.
ثالث الأمراض هو مرض العمالة الفكرية أو تأجير اللسان أو ما أصبح يعرف ب “ظاهرة الأقلام المأجورة ” أو أقلام تحت الطلب” وكلها أسماء لمسمى واحدا يشير إلى دعارة فكرية رخيصة يحترفها المثقف حين يسخر قلمه و فكره لخدمة جهة معينة و التمكين لأجندة محددة عن غير اقتناع ، إنه لا ينتج ما ينتجه انطلاقا من قناعاته و تطلعاته و هموم بلده أو حزبه و إنما لخدمة مشاريع بعينها أو مصالح أو سلطان أو إرضاء لطرف دفع له المقابل “التدويرة” . و أخطر ما في هذا الوباء هو حين لا يكتفي المثقف ” العميل” بخدمة الأجندة الداخلية فيعمد للتمكين لمشاريع و مخططات برانية معادية لأمن الأمة الثقافي و لخصوصيتها الحضارية و لبعدها القومي – يسمي د.أنيس النقاش- بعضهم ب مثقفي البنتاغون”أو المارينز – وما أكثر أبواق هذا الصنف في بلداننا إنهم يلبسون لباسنا يأكلون طعامنا و يخالطوننا بأجسامهم لكن عقولهم ليست معنا .
أما رابع تلك الأمراض فهو مرض الانفصامية و هي ازدواجية في الخطاب والممارسة ، حيث كثيرا ما ترفع نخبنا و مثقفينا شعارات جذابة و لامعة فيتحدثون مثلا عن العدالة و الحداثة و الديمقراطية و حقوق الإنسان و الحرية ، و يكتبوا فيها ماشاء الله أن يكتبوا ، وعند الممارسة تجدهم لها ذابحون سالخون ، سلوكاتهم اليومية تنطق بنقيض نظرياتهم ولو نطقت لقالت فيهم قول الله تعالى ” كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون” (الصف:2)
قد يقول قائل بأن هذا المرض لا يعانيه المثقفون وحدهم ، وإنما هي أزمة عامة تسري في أوصال المجتمع كله، وهذا كلام صحيح يحتاج إلى مقالات وربما مجلدات ، لكن أليس من الكبائر المغلظة في حقل العلم و المعرفة أن ندعو المجتمع إلى مبادئ و قيم و نفسرها و نقربها له ، و نعمل- نحن – بنقيضها أثناء الممارسة و المخالطة الاجتماعية ، بل إنه لمن المفارقات الكبرى في تاريخ المثقفين أنهم ينصبون أنفسهم لمحاربة مثل هذه الظواهر وهم فيها غارقون.