في أزمة التطلع نحو الحداثة
بالمجهر…
– في أزمة التطلع نحو الحداثة:
– من قال بأننا نعيش عصر الحداثة، ونقبل على ما بعدها، بل نحن تجاوزناها إلى أبعد مدى؟
كيف ذلك ونحن ما زلنا نعيش حياة التخلف والجهل، فمجتمعاتنا تعرف نوعا من التحضر والتطلع إلى الحداثة، لكن ذلك لا يعني بتاتا أننا شبعنا من هذه الحداثة وأصبنا بالتخمة مما استلهمناه منها، وذلك ما نراه جليا اليوم من أشكال متعددة ومختلفة من التخلف و الفقر المعرفي ناهيك عن المادي. أفكار الأغلبية من الناس الذين يدعون أنهم متشبثون بالماضي والتراث باعتباره المصدر الأول لكل معرفة وفكر، تراهم متعلقين بأفكار من سبقهم وناكرين كل جدة في أي مجال من المجالات بدعوى أن الأمر يدخل في نطاق البدعة أو ما شابه. أو يدعون أن ذلك الجديد من صنع ذلك النصراني أو اليهودي لا ينبغي الاقتراب منه، متغافلين ما حققته شعوب من منجزات علمية وتقنية امتدت لقرون طويلة.
إن الوضع في مجتمعاتنا يبعث فعلا على القلق، نعيش صراعا حادا، وانفصاما في حياتنا ومستقبلنا، وذلك راجع إلى الاختلاط الذي حدث، دون وعي منا، بين ما هو تقليدي ينتمي إلى الماضي أو التراث من جهة، وبين ما هو حداثي ينظر بعين ثاقبة نحو المستقبل بتطلعاته ورهاناته. قلت، إن هذا الاختلاط أفرز وضعا ثالثا وسطا بين ديناميتين متباينتين، هو ما يمكن تسميته ب”الفهم الزائد للحداثة”.
لا يختلف اثنان حول كون دول الغرب أسست فعلا حداثتها بكل عزم ومسؤولية. والكل يعرف الصراع الذي عرفته هذه الدول كي تصل إلى ما هي عليه الآن من علوم وتكنولوجيا واختراعات متواصلة لا تنقطع. وعليه، فلا ينبغي أن نفاجأ بكمية وحجم المنجزات المحققة في هذه الدول بالمقارنة مع أوضاعنا في العالم المتخلف. والأكيد أن مهمة كل غيور عاقل هي أن يطلق العنان للتفكير في حلول مناسبة قصد تجاوز هذا التأخر وملاحقة قطار الحداثة والتقدم الذي فات علينا موعد انطلاقه. نحن لا نريد ولا نرضى هنا أن ينطبق علينا القول المعروف ” من تأخر عن موعد السفر، لن تقبل منه شكاية”، فمن سيسمح لنا بالإنصات لشكايتنا، وما هي يا ثرى هذه الشكاية؟ هذه هي الأسئلة الحقيقية في وقتنا الراهن.
إن وقتنا الراهن هذا لا يعرف سوى سياسة الاستهلاك والاستيراد. قلنا بأن الأصح أن ننخرط بدورنا في سياسة الإنتاج والإبداع، لا أن نستهلك وننام، بله الاندماج في بنية التطور والارتقاء. ومظاهر الاستهلاك عديدة، نفيق معها، ننام ونضرب معها موعدا جديدا، هواتف نقالة بالجملة ( هاتف لكل فرد، خصوصا داخل العائلة)، ملابس تتبع الموضة والعصر، أي عصر؟ إنه عصر الاستلاب بلا منازع، قد يغفر استهلاك وسائل العيش، لكن الأخطر من هذا وذاك، هو استلاب العقول وتسيير العقليات.
من الحمق أن يدعي كل زائد فهم أننا نعيش عصر الحداثة. وحينما أقول عصر الحداثة معناه أن يكون سلوكنا حداثيا، أي أن نعقلن (من العقلنة) ممارساتنا وطرق تفكيرنا وأن نتشبع بالقيم الإنسانية النبيلة من قبيل التسامح وروح التضامن والإيمان بالمسؤولية في الحقوق و الواجبات، كذلك امتلاك روح المواطنة، لا أن نغرق في الزبونية والارتشاء وتفضيل القرابة.
إن مسألة المواطنة تتخذ جانبا مهما في معظم الدول المتحررة، فأن أكون مواطنا معناه الانخراط في بناء المجتمع، كما كان الأمر في المجتمع اليوناني حيث الفرد ارتدى لباس المواطنة بحق. ما أحوجنا إلى المواطن الحر الفعال المتدخل في تسيير الشأن العام، المؤمن بقدراته كإنسان.
هكذا نجد أن وضعنا (وضع الدول المتخلفة عموما) يكاد يفتقر لهذه المقومات، وإن وجدت، فبصورة باهتة تنمحي عند كل هزة أو أزمة. فقط صراع المصالح والجري وراء الماديات أصبحت قمة الأولويات. بالطبع، أنا لا ألغي دور الغرب في ما وصلنا إليه. فهو السبب في سلبياتنا كما في ايجابيتنا، هو مصدر تخلفنا وتأخرنا، كذلك هو باعث مخططاتنا وأساليبنا في البناء و التشييد.
لعل السؤال المؤرق حقا ( في الحقيقة هي مجموعة أسئلة) هو دورنا نحن كأمة عربية إسلامية، ما سبب انحلالنا في لحظة من اللحظات؟ أين تلك اللحظة التي تأسست فيها علومنا ومعارفنا؟ وأين هذه العلوم و المعارف؟ لماذا أفقنا من سباتنا وغفوتنا، فلم نجد سوى عقل جبار ك”غول” اعتقدنا أنه نزل من السماء، ولم نعرف كيف ولماذا؟ أين زمن الفكر والشعر والترجمة؟ أين زمن ابن رشد والتوحيدي وابن خلدون والحلاج؟ بعبارة أكثر دقة، أين حضارتنا؟
ذ. الصديق اروهان.