صفحات سوداء من تاريخ الديكتاتورية

0 315

ما سماه الكاتب والباحث روجي بول دروا، بسفر عبر قمعستان Tyrannistan، في مقالته الافتتاحية، لملف خصصته مجلة “لوبوان”الفرنسية (العدد، 2029، ص34-54) لبنية جنون الاستبداد، والذي سأعرض هنا أهم مضامينه، يؤكد بأن إمبراطورية القمع مستمرة دائما، تتوغل بين طبقات الأزمنة والأمكنة، من قارة إلى أخرى، أبدية التجديد والتجدد. لكن في إطار جوهر سرمدي، بحيث إن عوضت الأسلاك الكهربائية الحديد الأحمر، فالتعذيب ذاته. إذن، من الماضي إلى الحاضر وبين الشرق والغرب ومع اختلاف الأسماء، سواء كاليغولا، ماوتسي تونغ، بول بوت، القذافي، كيم إيل سونغ، هيتلر، بوكاسا…، والقائمة طويلة ومفتوحة، فإنها عين الخلطة المدمرة  للوجود الإنساني، ورموز الرعب والخوف، الذين أقاموا عوالم بدم البشر، وحولوا الحياة اليومية إلى  فوضى وسديم، لا تخضع للقوانين، ما دامت السلطات كلها تبدأ وتنتهي عند اليد السحرية لشخص واحد، تتداخل لديه الخزينة العامة للشعب بالثروة الشخصية، والسياسة بالنزوات، ثم حكم الدولة و”حكمتها” بالهذيان النرجسي، فلا شيء يقف حائلا أمام شهواته والرغبة من أجل إخضاع الجميع لإرادته، ويبقى أقصى حلمه، النجاة من العقاب. جرائم لا تحصى، تعددت منسابة من اليونان القديمة وصولا إلى الزمن الحاضر، تقترف وترتكب، وفق تمظهرات مختلفة.  يوظف الديكتاتور المناورات ويستغل الوقائع، ويستثمر نقط ضعف شعبه. حينما، يستولي على الحكم يعتبر الكرسي ملكا خالدا له، ولا يحق لأي كان محاسبته.
كان أفلاطون، أول من أشار إلى خلط المستبد بين الرغبة والقانون وملذاته والصالح العام. ملامح الحاكم الذي صار ذئبا نتيجة عشقه للدم، سترسخ لفترة طويلة سلطة شخصية ، تنتقل عبر القرون، ثم مغالاة وبطش، يتكرسان بلا نهاية. فإرادته أن يصير دولة، لا يحدها وازع، سواء سلطة أو قانون أو معايير أخلاقية. إنها، دولة الحمق وهذيان العظمة. لذلك، سيكتب لوك سنة (1960) : “حينما ينتهي القانون، تبدأ الديكتاتورية”، ويفسر مونتسكيو، في عمله روح القوانين (1748)، كيف : ((أن فردا واحدا بلا قانون ولا ضابط، يخضع الجميع لإرادته ونزواته((.إذن، سواء مع العهود القديمة أو الحديثة، فالصيغة ذاتها، والقواسم المشتركة تمحو الاختلافات. التوتاليتاريات المعاصرة، وإن تباينت وتعددت التوصيفات: طاغية، مستبد، ديكتاتور، …، فهي بشكل عام مترادفة، والفرق يبقى زمانيا، الطاغية مفهوم قديم والمستبد كلاسيكي بينما الديكتاتور معاصر. تنوعت المنظومات والمرجعيات والقصديات والنوايا سواء كانت طيبة أو سيئة. تأرجحت منظومة الاستبداد بين الثابت والمتغير. لكن، ترسخت أنساق منذ العهد العابر.
يؤكد “روجي بول دروا”، بأن اليونانيين أدركوا معنى الاستبداد قديما جدا. لم يوظفه، هومير أو هيزيود ، بل اكتشفه لأول مرة شاعر ينتمي للقرن السابع قبل الميلاد. بالتالي، ليس وليد لحظة هيتلر أو بول بوت… . كما، ينبغي تعديل اعتقاد مسيطر، يحصر الطغاة والمستبدين، في بلدان المشرق. لقد، كانت الإمبراطورية الفارسية بالنسبة لليونان، أسمى فضاء للقمع. وضع، أخذ عند مونتسكيو، مفهوم “استبداد شرقي”، كما استحضر ماركس الموضوع.
الاستبداد، قائمة مقدماته ونتائجه.شامل، لكل الطبائع والأجناس. يمس،جل العادات والسلوكات والأنماط. يكمن الحل ببساطة، في الارتقاء بالاستقلال الذاتي والديمقراطية، وإرادة أن يمتلك الفرد مصيره، ويقاوم النزوعات التي تجتذبه كي ينحني للأقوياء. بهذا، يتم اجتثاث شروط نجاح، واستفحال العبودية، واستعداد الناس للخضوع والقبول بالوضع.
إذن، كاليغولا، ماوتسي تونغ، ستالين، بول بوت، هيتلر، القذافي، نور سلطان نازار باييف (كازاخستان)، كاريموف (أوزبكستان)، كيم إيل سونغ (كوريا الشمالية) بوكاسا (إفريقيا الوسطى)، نيازوف أوبو (تركمنستان)…،  نظم سياسة همجية، خرجت من بطن مجموعات إنسانية مختلفة، وسياقات تاريخية متباعدة، لكنها تتوحد جميعها عند نفس المنظومة من الناحية النفسية والموضوعية. ولعل أهم خلاصة يقف عندها القارئ، حين يسرد تمظهرات الاستبداد لدى هؤلاء، سيجد تمركزا للسلطة مصحوبا بجنون العظمة، يصلان حد الذهان. يشيدون جغرافيات للبشاعة، تحت دعاوي ومبررات شتى : تاريخية، عقائدية وإيديولوجية، تجعل منهم كائنات معتوهة.
ماوتسي تونغ ـ قورن ب “كين تشي هانغدي”، أول حاكم أرسى دعائم الإمبراطوية الصينية، وحكم الصين بقانون الرعب والقضاء على المتعلمين ـ صنع حقا للصين مجدها وكبرياءها، وأرسى لها أسباب التقدم، فصارت الآن قوة اقتصادية وبشرية هائلة. مع ذلك، هل كان عليه بالضرورة قتل 70مليون صيني ؟ فأضحى أسمى مستبد توتاليتاري، حسب قول “سيمون ليز”، هكذا تتزين دائما جدران الدولة البوليسية، بصورة : ((المرشد العظيم، والقائد العظيم، وأستاذ التفكير العظيم، الرئيس ماو، المحبوب إلى أقصى حد)). كما تواصل الحشود، التقاطر نحو ضريحه  حيث يمكث صندوقه الفولاذي، الذي يحتضن مومياءه. زعيم شيوعي، يمثل حالة منفردة، مقارنة مع ديكتاتوريات القرن العشرين. لقد، حاكم التاريخ هيتلر وستالين : ((أما بالنسبة لماو، فالمرافعة، لازالت معلقة)) فالنظام، كما بنى دعائمه، يبقى قائما إلى اليوم بواسطة الحزب الشيوعي الصيني، بالرغم من التقويم والمراجعة، اللذين أفصح عنهما “دينغ هسياو بينغ” حول تركة ماو، بحيث اعتبر نسبة %70 جيدة،  بينما %30 كانت أخطاء. بيد أنه، لا أحد يجرؤ على التخلص من ماو، الذي صار جثة معقمة، لكنه باستمرار أب الوطن الخالد. موقف، اختلف كليا مع هيتلر وستالين وبول بوت، عندما سعى أتباعهم خلال الفترات اللاحقة لهم، محو بقاياهم  وكل أثر يشير إليهم من قريب أو بعيد.
ستالين، الذي وصفه تروتسكي، بأنه أهم وضاعة داخل الحزب، سيحاول خروتشوف، بعد أن صنفه ضمن فئة الهستيريين ومجانين الاضطهاد تصفية كل جرائمه. قاتل، مريض يعاني من بارانويا، فبقي يردد : ((لا أثق في أي شخص حتى نفسي(( … كما : ((أن الموت يحسم كل المشاكل، وفي غياب البشر، تنتفي المشاكل)). قضى ببرودة أعصاب على 20 مليون سوفياتي، ونفى 28 مليون آخر. مقابل هذا الرأي، أراد البعض الثاني، أن يجد ل “الرجل الحديدي” تفسيرا مقبولا، فاعتبروا ستالين، مزيجا نادرا بين المفكر والقاتل في الآن ذاته. تلميذ المدرسة الإكليريكية، القادر على الاستشهاد بالثوراة، والوغد المنتمي إلى القوفاز الذي تربى وسط مناخ المكيدة والعنف المؤسطر. ثم مع افتراض شيطانية  نفسيته، نلاحظ بأن تضخم طموحه الشخصي، انبنى على إيديولوجية متطرفة. ستالين بولشيفي حتى النخاع في الحياة والموت، ولم يتنازل قط عن مثاله الأعلى فترة الشباب، أي “عقيدة  الثوري”  ل “سيرغي نيتكاييف” ))وظف حتى الشيطان نفسه، إذا كان مفيدا للثورة)). لذا، اتسمت البولشيفية بطابع عسكري دموي، من خلال عمليات القتل والنفي وحبك المؤامرات. انتصاره في الحرب العالمية الثانية وشيخوخته، لم يعملا قط على تليين طبيعة ومزاج العم “جو” .Joe دسائس متواصلة، دبرها الديكتاتور الكهل، بغية تعبئة الشعب السوفياتي ضد العدو الخارجي المتجسد في الولايات المتحدة الأمريكية، بل ذهب به حس المؤامرة إلى غاية تجميع دلائل طيلة إحدى عشر شهرا، كي يعتقل طبيب العائلة الخاص. ولأن أصابعه وقعت صدفة، أثناء وليمة على موز لم ينضج بعد، فقد طرد  على الفور وزيره في التجارة الخارجية.
سيكون هيتلر بدوره، متطرف نظرية لكنها بيولوجية تؤمن بتفوق وتعالي جنس دون غيره، في أفق  خلق إنسان بديل. لذا، لا يشعر بأي عائق  موضوعي أو أخلاقي، كي يسحق ملايين الأشخاص، يكفي أن تحصل لديه الرغبة للقيام بالأمر. هيتلر، كما بين “فرانسوا كيرسودي” صاحب كتاب : “هيتلر، قائد حرب”، لم يكن يؤمن بالاحتمالات النسبية، لأنه ديكتاتور متهور، سمة لعبت دورا مصيريا في تقويض مخططاته العسكرية. في شهر شتنبر 1939، وقد اتصف الجيش الألماني بحالة شديدة من الترهل، مع ذلك توخى في أقل من ثمانية أشهر هزم بولونيا وبلجيكا وهولندا وفرنسا وبريطانيا، كما التفت نحو روسيا. لقد بدا له مجديا، محق  مدن بأكملها مثل باريس، لينغراد، لندن، وموسكو، لأنها تشكل ظلا لبيرلين. هيتلر، الذي لم يكن يمثل شيئا يذكر بين سنوات 1925 و 1929، صار احتياجا تاريخيا لألمانيا، حين انتابها الخوف نتيجة أزمتها الحادة، فلكي يصعد مجنون  إلى الحكم، ينبغي حتما تعرض بلده لهزة تسبب له جرحا كبيرا، وتجعله سهل الانفعال والانقياذ. هيتلر، يعاني من هذيان ذهاني، مثل ماو وستالين وجل الديكتاتوريين، لكن سيغلف مرضه بخطاب ثوري جذري.
نفس الأمر، تجلى بوضوح عند بول بوت (1925-1998)، القائد الغامض للخمير الحمر. رجل أذاب بلدا، تطبيقا ل “يوتوبيا قاتلة ” تتوخى خلق “فرد جيد”. خلال فترة ثلاث سنوات وثمانية أشهر وعشرين يوما، ستكرس جماعة “الأخ رقم 1” أو “العم الكبير”، المتأثر بالصين الماوية، مشروعها من أجل القضاء على الروابط العائلية لكامبوديا القديمة، وتحزيب المدن، وتقويض جميع امتدادات الماضي وأي تبادل قائم على العملة النقدية، وكذا أنماط معينة من التفكير  وكل قنوات الاتصال مع الخارج، بهدف تحقيق قفزة رائعة ومدهشة جدا وخارقة. استأصل بول بوت تراث الأقوال المأثورة، والأمثال الجارية، وأحل محلها كتابه “الأحمر” الذي استكان له الجميع ببلاهة لاحد لها، ترسمها سكيزوفرينية إجبارية، مستلهمة من بنود حيث “يحضر عليك الانتقال بحرية” ثم “لا تتغدى من أفكارك الشخصية”، بينما،  أيها الرفيق “أنت حر”. سحق بول بوت شعبا بأكمله، وهو يهلث وراء إنسانه الجديد وتغيير خريطة كمبوديا سيعاني الشعب مجاعة  مؤلمة، في حين يتمتع القادة بما لذ واشتهوا من طعام لإنقاذ الثورة. يخفي جنون بوت،  الدموي، حقيقة حقارة جلية، جعلت منه ذاتا غير إنسانية، كما قال المؤرخ “إيان كيرسو” في موقع آخر عن هيتلر، ضعف تحول إلى موضوع للتاريخ، لما ابتغى فقط من البشر، مجرد أشلاء لأشياء لا غير، وفي أفضل حالاتهم ماكينة لإنتاج الجثت، نتيجة هذيان طوباوي لتطهير الشعب، انسجامامع مبرر تمجيده للعنصر الكومبودي. واصل، بول بوت قتله المجاني، كي يبرهن على بربريته، سعيا وراء تصوره للإنسان.
أفق، يحيل على مفهوم الخلق والنشأة، وبمعنى ثان، مستويات حضور المرأة والجنس في حياة الديكتاتور، والتي تعكس بوضوح نزعة التملك والاستعباد، واستمرار نفس منطق السيزوفرينيا. بول بوت مثلا، الذي قضى على مفهوم العائلة وفصل الأطفال عن آبائهم، ثم أوصى أتباعه بتأجيل الزواج إلى ما بعد الانتصار، كي لا تشغلهم زوجاتهم عن أعباء الثورة، هو ذاته من قرر الزواج ثانية و  إنجاب أطفال، بعد أن اكتشف الأطباء الصينيون عند زوجته الأولى “خيوبوناري” معاناتها من انفصام حاد، وإدراكه أيضا لحقيقة إصابته بمرض السرطان.
أما هيتلر، فقد تميز أمام الملأ بلطفه وغزله، لكن حين حميميته، فلا وجود لأي كائن. من بين خمس نساء عشن بجواره، أربعة سينتحرن، أو حاولن القيام بالأمر. أكدت بعض التقارير،   نفور هيتلر  من الاتصال الفيزيائي، مع ذلك، كان منجذبا جدا نحو ابنة أخته “جيلي روبال”. حالات ارتكاب المحارم، تقليد مستساغ بين أفراد العائلة، فهل ارتكبا معا، الخطيئة ؟ لأن الفتاة، انتحرت سنة 1931، ربما نتيجة شعورها بالذنب. أما، “إيفا براون”، وقد سعت إلى التشبه ب “جيلي روبال، بقيت رفيقة خاصة لهيتلر، الذي احتفظ في قيرورة نفسه بقناعة مفادها، أن المرأة ستؤثر سلبيا على عشقه الصوفي لألمانيا، لذلك احتاجت إلى أن يثق بها.
بالنسبة للمستبدين، المرأة غنيمة بكل المقاييس . ومع عصابيي الجنس، احتل ماو موقع الريادة. ألا يعتبر هذا الطاوي الجنس، إكسيرا من أجل الشباب والصحة ؟ ماو، الطاعن في السن، المسكون بهاجس الوهن، سيلتمس مع ذلك، نصيبه من الجسد الطري، فيختار فتيات قرويات.اشتهر بضعفه نحو الممرضات اليافعات ـ يتقاطع هنا، مع القذافي ـ تحديده للوقاية، يختزل رؤيته للمرأة، حينما، أجاب طبيبه الذي نصحه بغسل أعضائه الجنسية : ((أتطهر بجسد النساء)). فالزعيم، المصاب بالهذيان والبارانويا، يحتاج  إلى التدلل. الماريشال، “كيم يونغ إيل” الوريث الكوري لماو، تتغنى به نساء شمال  كوريا: ((إننا حبيبات الورد الصغيرة، يمنحنا الماريشال كيم، جميع ما يلزم كي نتمكن من التفتح)).
تبدأ حماقات الديكتاتور من كيفية اغتصابه الحكم، فتأليه الشخصية، ثم برامج القتل تحت تسميات مختلفة، وأخيرا تحويل جسده المحنط إلى مزار يومي لأفراد شعبه، لأن حبه يحكم مشاعرهم حيا وميتا ويلهمهم سبل الهداية.
داخل كوريا الشمالية، نحصي ثلاثون ألف تمثال، تمجد “كيم إيل سونغ” مؤسس الجمهورية الديمقراطية الشعبية، وفي “بيونغ يونغ” العاصمة، أقيم ضريح يضم جسم أب الوطن، يأتيه الزوار كي يضعوا باقة ورود، وينحنون أمامه إجلالا واحتراما. ولا يمكنك الولوج إلى هذه البناية، قبل نفض الغبار والحرص على تطهير نعال أحذيتك. لقد أحدث موته داخل البلد سنة 1994، سيولا جارفة من الدموع، وعلى مقربة من ضريحه، نجد متحفا يزخر ب 160.000 هدية قدمها له أجانب، ينتمون لقارات مختلفة. الرئيس الحالي “كيم يونغ إيل” أورثه أبوه السلطة، فصاربين عشية و ضحاها الأمين العام لحزب العمال والعنصر الأول في لجنة الدفاع الوطني. ألقاب تافهة كثيرة، جعلت منه، كائنا بقدرات خارقة على غرار ملوك  كوريا القدامى الذين تباركهم السماء والأرض. اعتقاد سيأخذ بعدا ميتافيزيقيا، حين الإيمان بأن ضبابة ستقيه النظرة العدائية التي يكنها له خصومهم في كوريا الجنوبية وأسيادهم الأمريكيين، وحينما يشهر ورقة، يتوقف المطر والريح. إذن، إعلانات شعارات، مؤلفات كراسات جميعها تستحضر إنجازاته. بل، وهو صغير، كان عبقريا منقطع النظير، يتفوق على باقي الأطفال بأسئلته الحادة، ولا يظهر عليه التعب أبدا، ومنذئد، يهتفون بحياته في جميع المدارس. وإن كانت كوريا الشمالية، تعاني من حصار اقتصادي صعب وخانق جدا، فسيبعث الزعيم طباخه كي يشتري له الفواكه من ماليزيا،  والكافيار  من إيران وأوزبكستان، وتوتياء البحر من هوكايدو، وكونياك “هينسي إكس أو” من فرنسا ثم توفره على آلاف الأفلام الغربية، بحيث يعتبر الوحيد الذي يحق له مشاهدتها. كما يردد دائما، على مسامع جارته كوريا الجنوبية التي يسيطر عليها “دمى واشنطن”، بأن جيشه مستعد لإغراقها وسط محيط من اللهب.
ماو، سيذهب به جنون العظمة، إلى اختلاق وتبرير شعار : ((خلق فوضى عارمة، بهدف استباب النظام الكبير))، مما أدى بالصين إلى مضمار دوامة مغامرات غير محسوبة، كان “النجاح” كليا : إغلاق المدارس والجامعات، أرسل ما يناهز 70 000164 شاب متعلم نحو البادية، فصول الوحشية وما تلاها من موجة انتحارات، فظاعات مصحوبة بعبادة الصينيين لشخصيته،  التماثيل في كل مكان، ويجوز فقط الانكباب على كتاب وحيد مرخص له، أي المؤلف الذائع الصيت “الكتاب الأحمر”. كما أن النظرة الأولى والأخيرة في اليوم، يجب أن تتملى صورة ماو، وتبادل التحايا يتم بمقاطع مستلهمة من فكره. مع كل ذلك، لا ينبغي  اختزال مسار ماو إلى قائد سياسي بلا إيمان ولا قانون، بل صاحب رؤية، أراد  عبرها، تحويل الصين إلى صفحة بيضاء ، يتحدد فوقها مصير ملايين الأشخاص الذين صاروا أفرادا مختلفين. كانت الضريبة ثقيلة، فبالإضافة إلى العمليات التطهيرية الدموية، أدت مجاعة الإصلاح الزراعي إلى 35 مليون قتيل،  وحين تأسيس الغولاغ الصيني، أودع ماو هناك 50 مليون شخص، مات منهم نصف العدد تقريبا.
إذا انتقلنا إلى منطقة شمال إفريقيا، ومع صاحب نص مقدس آخر، عنونه  ب “الكتاب الأخضر”، استطاع القذافي بهاجس العظمة لديه، وضع تقويم زماني جديد، وتغيير أسماء الأشهر، كما ابتكر نظريات لسانية  غريبة المعنى والتركيب، مثلا، الديمقراطية صارت لفظة عربية تتألف من جماعةdémo ومقاعدcrassi . شكسبير، المؤلف المسرحي الإنجليزي الشهير ، انقلب عنده إلى الزبير، المنحدر من أصل عربي. أمريكا، استمدت اسمها من “الأمير. كا”. عندما، دشن سنة 1988، المتحف الوطني في طرابلس، صاح “المؤرخ الكبير” داخل قاعة الآثار الرومانية : ((تأملوا باندهاش كل رونق الحضارة العربية)). ومشروب كوكاكولا، منتوج إفريقي. بينما سويسرا، بلد أوروبي يقل نموا عن ليبيا. أما، النهر الاصطناعي والذي كلف ميزانية البلد 35 مليار دولار، كي ينقل الماء من الطبقات الجوفية بالصحراء، نحو بنغازي  على امتداد 4000 كلم، فانتهى به المقام إلى إغراق شوارع طرابلس، لأن شبكة قنواتها، عجزت عن تحمل المنسوب الجديد. القذافي، المشهور بعدائه لإسرائيل، سيكذب الادعاء سنة 2009 في الأمم المتحدة، معترفا بصداقته لليهود أكثر من الغربيين، الذين كانوا وراء فكرة بناء بيوت الغاز. أما تسلط، النزوع الجنسي لديه، فقد اهتدى به  إلى حد الإقدام على محاولة اغتصاب صحافية فرنسية، تشتغل بقناة (فرنسا 3) اسمها “ميمونة هينترمان”، قضية تعود وقائعها إلى سنة 1984، لكنها لم تحدث ضجيجا كبيرا لحظتها.
وغير بعد عن ليبيا، فإن “جون  بيديل بوكاسا”، انقلابي قديم، وجندي مرتزق، يعوزه أي سند إيديولوجي لكنه ظل يحلم بمصير نابولي، سيقرر الارتقاء  إلى مرتبة إمبراطور إفريقيا الوسطى، بعد أن منح نفسه  ألقابا كرئيس مدى الحياة وماريشال. لقد حرس على ترديد نصيحة صديقه “فيليكس هوفويت بواني”: ((اجعل من نفسك إمبراطورا إذا استطعت، لكن على الطريقة الإفريقية))، غيبر أن بوكاسا الذي وصفه دوغول في مناسبة بالأبله، واصل التشبت بطقوسه الفارغة، مثل صقره الهائل جدا ومعطفه المغطاة حواشيه بفروحيوان القاقم بالرغم من مناخ إفريقيا الحار، ثم تاجه البابوي. طقوس محاكاة ساخرة، كلفت إفريقيا الوسطى كل سنة ربع ميزانيتها، طيلة فترة إحدى عشر سنة. بوكاسا، كان دائم الشك والارتياب، في نوايا العقيد “ألكسندر بانزا” الرجل الثاني في النظام، لذلك سيعذبه حتى الموت كي يقر بما يدور في خلده. المستشار القانوني لبوكاسا “موريس إيسبيناس”، سيرسل تقريرا إلى باريس أوضح فيه بأن الإمبراطور، قام شخصيا بتقطيع أطراف جسد “بانزا” بواسطة شفرة على طاولة مجلس للوزراء وبحضورهم. واقعة تنسجم مع ما نسب إلى بوكاسا، بكونه يأكل لحم البشر… .
حاكم آخر، لا يقل عبثا ودموية، إنه إسلام كاريموف الحاكم القوي لأوزبكستان،  منذ 1991، البالغ من العمر 73 سنة. اشتهر بقسوته تجاه معارضيه، وتعذيبهم أسوأ أنواع العذاب، بحيث يلقي بهم في ماء فائر ودفنهم أحياء. معلومة تأكدت بداية سنوات 2000 لدى سفير إنجلترا، بعد تمكنه من تشريح جثة أحد المعارضين. بينما المحظوظون منهم، والذين يقبعون حاليا داخل سجونه، فعددهم يناهز 10 آلاف معتقل. تباهي كاريموف بمرجعيته الهمجية، دفعه منذ فترة كي يحث أعضاء برلمانه، للتصويت على مرسوم ، يصنفه ضمن سلالة تنحدر من “تاميرلان”، إمبراطور عنيف ينتمي إلى القرن XIV حكم إمبراطورية امتدت من مصر إلى الهند. ابنته “غولنورا كاريموفا”، تتهيأ لخلافته وهي على مشارف عقدها الرابع. تضع يدها على أكبر ثروات البلد، وتملك رساميل في قطاعات المناجم والقطن، وكذا بعض العلب الليلية الخليجية، كما تدير شبكة لتهريب العاهرات الأوزبيكيات.
بدوره سيتجلئ، نور سلطان نازارباييف، رئيس كازاخستان، منذ عشرين سنة، إلى برلمان بلده، كي يمنحه لقب “قائد الوطن”، وصف سيجعله في مأمن من كل متابعة عقابية. أيضا، أوشك على تعيينه رئيسا مدى الحياة في سن السبعين، كما عدل الدستور، للتذكير بحقيقة أن الرئيس من ألف النشيد الوطني، وتظهر بصمته على الأوراق البنكية.
أما نيازوف أوبو، حاكم تركمنستان المتوفى عام 2006، عن سن السادسة والستين، فقد وصل به تضخيم الشخصية مستوى التدرج إلى مرتبة الأنبياء، وأوجب على مواطنيه، النظر إلى صورته مرة واحدة في الدقيقة على الأقل، بالتالي، سيملأ شارع العاصمة بصورته، إلى جانب تمثال من ذهب يدور على ضوء مدار الشمس. في المدرسة، فرض تعليما يوميا ل نصوص “الروهناما”،  كتابه المقدس الذي أنجزه بمساعدة بعض المحيطين به، ترجم إلى ثلاثين لغة بما فيها طريقة “بْريل”، ولا أحد بوسعه الطموح للحصول على جواز السياقة، إذا لم ينكب  طيلة16 ساعة على عمله المضحك، المليء بالترهات. هذا المستبد، سيحظر الشعر الطويل، والأوبرا، والسيرك، لأنها في نظره مخلة بالحياء. وفيما يتعلق بالفولكلور، فلا ينبغي على الراقصات رفع سيقانهن أكثر من 45 درجة. أيضا، بدل “نيازوف أوبو”، شهور التقويم الزماني، فشهر يناير يحمل اسمه، وأبريل اسم أمه، وأخيرا هو أب لجميع التركمانيين.
كما الشأن مع جميع الديكتاتوريين،وهم يحتقرون كليا شعوبهم.
 بقلـــم : سعيـد بوخليـط
 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.