الحب في الثقافة الأمازيغية
بقلم: امحمد عليلوش
اهتم الإنسان منذ القدم بالحُب. والحُبُّ عاطفة قوية أو ربط متين بين إنسان وإنسان.او بين الانسان وما حوله من موجودات، وللحب مظاهر شتى تختلف باختلاف الأفراد. وقد عبّر الشاعر الامازيغي عن هذا الحب (أمارك او تيري) بمظاهره الشتى، اذ قال في تمناط وهي صنف من اصناف الشعر الامازيغي (Tamnatt”)
Iga umarg imdwan amm waman, ka izrat ka ur t issin
كان الحب مثل الماء في البحيرات، هناك من ادركه وهناك من لا يعرفه.
ويظهر من هذا البيت الشعري أن الشاعر الامازيغي يعرف قيمة الحب اذ شبهه بالماء الدال على الحياة وعلى أهميته للعيش والبقاء، كما انه وصفه بالماء الموجود في البحيرات دلالة على نذرته و حاجته الى الاستقرار ثم الى التغذية من طرف المسيلات والأنهار بمعنى ان الحب لا يمكنه ان يحيا بدون العناية بمصادره و بأماكنه اذ توحي البحيرات إلى قلوب البشر التي تتدفق بحيوية كلما امتلأت بالحب والعشق الحقيقي. ولقد حاول الشاعر الأمازيغي مقاربة معالم القلب، من خلال توالي الهزات والسكون وتوالي آهات الانتشاء وزفرات اليأس. لقد تباينت الصور التي رسمها الشاعر للقلب وتنوعت أوصافه وتعددت حسب الحالة النفسية للشاعر من جهة، وحسب طبيعة التجربة العاطفية المعيشة من جهة ثانية.
وقد وضع الامازيغ للحب أسماء كثيرة منها: Amarg و Tayri من فعل ira -Tra وTaghufi (العشق) و Irifi و Asafar n Wul و Tatéfi و Tiddukla و Tamunt وBadéad و Timxsa و …وهناك أسماء أخرى كثيرة أمسكنا عن ذكرها نستشفها من خلال ما ذكره المحبون في أشعارهم، وفلتان ألسنتهم وأكثرها يُعبّر عن العلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة، كما لا ننسى ان الحب عند الامازيغ متنوع بتنوع مصادره و اطرافه فهناك حب الوالدين، حب القبيلة والوطن وحب الابناء وحب الله وحب النفس وحب الارض … والدليل على ذلك كله هو ما نجده في الشعر وفي القصص وفي الحكايات الشعبية الامازيغية والتي تعبر بشكل كبير عن ابداعية الإنسان الامازيغي في ثراته وثقافته بفضل دافع الحب والهوى والعشق ، اذ يشكل بمثابة المحرك الأساسي و الدافع المهم للإبداع و للعمل و لمواجهة مشاكل وصعوبات الحياة البدوية …فمثلا ما نجذه من طقوس وعادات اجتماعية وفنية ، فهي تعتمد على قيمة الحب والعشق كهدف أسمى تدور حوله كل هذه المناسبات والعادات مثل احيدوس واحواش و اكدودن و تاعشورت و اض سكاس و تاويزا و تلغنجا و مواسم الحصاد و طقوس الزواج والاعراس و عادات اخرى مختلفة …
فقصص الشعراء والعشاق تكاد تتشابه في العموم وتختلف في التفاصيل فالشاعر تقع عينه على فتاته فيعشقها من أول نظرة ثم يقول فيها شعرا تتناقله الركبان ثم يخطبها من أهلها فيرفضون تزويجها، وربما يتم الزواج بين العاشقين وقد يحدث طارئ يفرق بين الزوجين فلا يزيد العاشق إلا حبا وهياما بحبيبته . وان تلك القصص الموجودة في موروثنا الشعري تعطي المرأة مكانة وكأنها هي واهبة الحب أو سالبته، وهي المالكة الآمرة الناهية في دنياه، ونرى ان المرأة قد أثارت عاطفة الرجل لان في الاصل ذلك النصف الذي يثبت وجود الرجل وبالتالي تصل المرأة عند الامازيغ الى مكانة مهمة تجعل من كل ما يقال في الشعر وفي وما يروى من حكايات وقصص ومن أمثال شعبية و ما يحدد من طقوس تحترم فيه المرأة بالدرجة الاولى ، وحتى من جانبها فهي تملك الكلمة في نظم الشعر و القائه بل الرد في بعض الحالات على الحبيب عبر الشعر وخصوصا ضمن النوع المبني على الهجاء و المدح وحتى الرثاء .
ونجد ان للعشق والهوى أحكاما وتصاريف وقواعد وقوانين يخضع لها ويتحرك في إطارها حسب كل قبيلة، وأصبحت فئة من الناس محصورة في هذه الأعراف والتقاليد لذلك أصبحت نماذج خالدة وغدت قصصهم مضربا لكل مثل. اذ لابد لكل قصة ان يكون لها أبطال رئيسيون شاخصون في طرفي المعادلة أي الرجل والمرأة إلى جانب شخصيات أخرى ذات صلة ببطلي قصة العشق هذه أو تلك. و المثالين اسفله دليل على ذلك:
ترجع الأسطورة عند الامازيغ أصل عادات “تلغنجا” إلى انه في قديم الزمان كان هناك ملك يدعى انزار أي ملك المطر كان يتحكم في الأرض والسماء فأراد ان يتزوج فبدأ يبحث في كل مكان في الأرض والسماء إلى ان وجد فتاة جميلة لدى فلاح عجوز فأعجب بها حيث وجدها تستحم في وسط النهر قرب شلال يتساقط منه ماء عدب حلو، فجاء “انزار ” في زي الملوك فكلمها فأحست الفتاة بخوف شديد مما جعلها تهرب من الملك , فكلما جاء إليها الملك يكلمها ويطلب الزواج منها فرت هاربة إلى خيمتها …هذا ما جعل الملك يغضب منها، فجعل النهر يجف من الماء وكذا الشلال فلما عادت الفتاة لم تجد ماء فتعجبت من ذلك وعندها تذكرت طلب انزار ملك السماء فبدأت تبكي وتصيح :”انزار يا انزار ايا كليد ن ومان رارد تودرت اواسيف تاغت تاسيت ايدا تريت …انزار ا يانزار اياكليد ن ومان ” ومعناه : ” مطر يا مطر يا ملك الماء , ارجع الحياة إلى النهر وهاك ما طلبت …مطر يا مطر يا ملك الماء …” وفجأة ظهر ملك السماء “انزار ” ومعه صوت الرعد وبجانبه البرق فاخذ الفتاة وعادت الحياة من جديد للنهر والشلال كما كانت في السابق فاخضرت الأرض من جديد . ولهذا فكلما كان الجفاف تذكر السكان هذه الأسطورة العجيبة المبنية على قصة حب حقيقية بين السماء والارض ، فسارعوا لتلبية طلب ملك السماء والمطر ليحظروا له أجمل فتاة في القبيلة ويزينونها بشكل جيد كما تزين باقي العرائس ويأخذونها في موكب إلى اقرب واد او ساقية او مجرى كيف ما كان حيث يتوقع وجود الملك , فيرددون ما كانت الفتاة الأصلية تدعو به , ومع التحولات والتغيرات التي طرأت على القبائل ومع دخول الإسلام أصبح تقديم الفتاة حقيقية أمرا صعبا على الأسر وبالتالي كان الحل هو تقديم فتاة مستعارة وهي الدمية التي يتم تزينها والتي تكون من المغرفة لأنها هي التي تدل على الأسرة كاملة .كما تدل على السقي وبفضلها يسقى الطعام الذي يقدم للأسرة برمتها او القبيلة خلال بعض الحفلات المشتركة ,…ولهذا فان اقتران “اغنجا” أي المغرفة بالفتاة العروس التي تطوف بها لا ينفي التركيز الكبير الذي يقع على الفتاة الحقيقية , ولأن الدمية المحمولة ربما تكون مجرد صورة او تمثال يراد منه أن يحل محل عروس حقيقية يمثلها وتقدم إلى اله المطر كما يؤكد الميث السابق ,…
من المعروف أيضا أن الإنسان الأمازيغي قد عرف الحكاية الشعبية منذ القديم، فقد كانت هذه الحكاية وسيلة للتربية والتعليم والترفيه والتسلية. وكانت هذه الحكاية الشعبية موجهة بالخصوص إلى الأطفال الصغار، إذ كان يرويها الكبار كالجد والجدة والأب والأم والعم والعمة والخال والخالة… و تسعى أساسا إلى نقل مجموعة من القيم الإنسانية وخاصة قيمة الحب والعشق و الاشتياق و تحمل المسؤولية و الإخلاص و التضامن والتعاون… و حكاية تاتبيرت توراخت كنموذج لهذه الحكايات التي انتقلت إلينا شفويا من خلال روايات الجدات والأجداد فقد تعلمنا من خلالها قيمة الحب التي كانت تربط بين الرجل والمرأة منذ الوهلة الأولىواللقاء الأول إلى حدود الموت والافتراق عن طريق الانتقال إلى العالم الأخر ، هذا الحب الذي يتم بناءه بشكل حقيقي و يتم من خلاله مواجهة كل الصعاب ولو اقتضى الأمر السفر إلى سبع سموات . وهكذا نجد أن بطل الحكاية ” تاتبيرت توراخت” قد تحمل جميع المصاعب وجميع العقبات من اجل الاحتفاظ بحبه ” الحمامة” وذلك من خلال احترام ذلك التقسيم الطبيعي للمهمات في الحياة اذ الرجل ولكون خشونته فهو يتحمل جميع الصعاب من اجل الحب، فقد عمل على كتمان زواجه من “تاتبيرت” واسكنها في الغرفة السابعة ويتحايل على أمه من اجل تغذية حبيبته اذ يشركان في نفس المكان “تمناط” ثم بعد ما اكتشفت امه الامروهروب الفتاة الحمامة إلى سبع سموات جرب كل الحلول من اجل اللحاق بها إلىأن وصل إليها عن طريق “ايكيدر” الصقر وتبرعه بقطعة من لحم جلده تحت الإبط، ثم قتله للغول الذي كانت عنده الفتاة الحمامة ثم السفر معها من جديد إلى الأرض و مرورهم عبر مجموعة من الامتحانات الحياتية …. إلى أن تمكن منها فعلا ( لان القصة والحكاية طويلة جدا). و هن خلالها حاول الأدب الامازيغي تمرير قيمة التضحية من اجل الحصول على الحب الحقيقي ثم ان مباركة السماء للحب ضرورية وكذلك التضحية بالدم من طرف العشيقين ، فالفتاة من خلال بكرتها والرجل من خلال الختان ومن خلال الدبح للأضاحي والمثول للطقوس المعتمدة على ذلك. ( لقراءة الحكاية انظر الكتاب بالامازيغية “تاتبرت توراخت ” امحمد عليلوش منشورات بيبليسيد وارزازات سنة 2006 او ترجمتها الى الفرنسية بعنوان “”La colombe jaune منشورات المعهد الثقافي سولينزارا بباريس فرنسا)
على سبيل الختم:
وختاما فالحديث عن الحب عند الامازيغ بشكل عام متشعب وصعب حصره هنا في هذه السطور ، لكن ما أود ان نؤكده هنا أن الثقافة الامازيغية مليئة بتجارب غنية وبقصص كان شعارها الحب الحقيقي و بالتالي فهذه القيمة التي عملت الثقافة الامازيغية على نشرها بين الأفراد بمختلف أجناسهم تتخذ من المرجعية العرفية والقبلية و الهم الاجتماعي ذلك الإطار الذي ينظم كيفية تصريفها ونقلها حسب الأجيال وحسب الأغراض منها . وذلك في نهاية المطاف لخذمة الجانب الوجداني والعاطفي للإنسان الامازيغي والذي فعلا يتشبت بهذه الأمور سواء العادات والتقاليد والطقوس الاجتماعية نظرا لكونها مرت إليه بطرق اعتمدت على الحب والعشق كمنهجية و كوسيلة للبناء، ثم اعتمدت أيضا على الكلمة وسلطتها الغنية إذ لا يمكن أن تجد عادة او تقاليد اجتماعية بدون أشعار وبدون كلمات و الحان و تعابير تؤطرها. وبمناسبة عيد الحب اختم بمقتطف من قصيدة شعرية من ديواني الشعري “أمكسا” أي الراعي بعنوان : تايري اصفا ( Tayri iséfan ) واهدها الى كل العشاق و إلى الذين يقدرون كلمة الحب عند الامازيغ وغيرهم: