أغنية مغربية أم هرطقة فارغة؟

0 442

حينما، تشكلت حقا رؤيتي للعالم ،وبدأ وعيي يعين مقدماته وخواتمه، فاخترت لنفسي طريق التفكير والتأمل بشكل حذر اتجاه ما يعطى ويقدم، وكان العهد خلال السنوات الأولى من السلك الثانوي ، أواسط الثمانينات، نزعت أنا وشلة أصدقائي الذين حدثت لهم نفس الولادة ، أن نرسي لأنفسنا نسقا جماليا ومعرفيا بعينه، في غنى عن المؤسسة الثقافية والمحيط الأسروي .
هكذا، كان الشغف، بنماذج دون غيرها في الأدب المغربي أحيط حولها الارتياب حتى ذاك الوقت ( شكري ، زفزاف ، اللعبي ، عبد الحق سرحان … ) . تابعنا، بدهشة إصدارات الفكر الفلسفي المغربي ( الجابري ، العروي، ، الخطيبي …). مقابل، هذا المنحى، سنتوجه أساسا على مستوى الأغنية إلى الإستمتاع بآثار عالمية ( بوب مارلي ، جيمي كليف ، بينك فلويد، بوب دايلن ، البونيم ، المقطوعات الفرنسية الكلاسكية …). عندما توضح شعورنا الثوري، ارتمينا سرا في أحضان مارسيل خليفة ، الذي كان صوته يزن ذهبا والشيخ إمام وسعيد المغربي وأحمد قعبور وفيروز. ثم، حين تتعب عقولنا وتطفح الهموم وانكسارات الحياة، لم يكن من حضن لحظتها إلا عبد الحليم حافظ وميادة الحناوي ونجاة الصغيرة ووردة ، مع الاحتراس كي لا تتخلخل العقيدة الجديدة ، توهما منا، بأن الأغنية العاطفية وفق نظرية الفن للواقع ، تعتبر بصيغة من الصيغ منظورا رجعيا، تصبه روافد المجتمعات التي تعاني مختلف تمظهرات الاستيلاب الرأسمالي. المقصود، لم نلتفت قط إلى الأغنية المغربية والاستثناء الوحيد بهذا الخصوص كما أذكر، شكلته خاصة عطاءات الإخوة ميكري ، ومجموعات
ناس الغيوان ، والمشاهب ثم بعد ذلك وفي وقت متأخر حدث الارتباط الوجداني بفرقة فنية مراكشية اسمها “الأرصاد”، أبدعت في الظل أشياء جميلة، لحنا ومضمونا، لكنها عانت إجحافا إعلاميا غير مفهوم .
خلال تلك الحقبة، لم تصل بعد المنظومة السمعية البصرية إلى هذا الزخم، وبقيت الإطلالة الوحيدة للأغنية المغربية، مقتصرة على المذياع أو قناة تلفزيونية يتيمة، تبث إرسالها ابتداء من الساعة السادسة مساء وينتهي في الحادية عشر والنصف ، تركز أساسا على حركات وسكنات الحاكم، والتبشير في كل آن بقيم الدولة. مع ذلك، وإبان زمان الفاقة والقهر وخنق آلة القمع المهولة لأنفاس الناس، دأبنا على اختلاس جلسات أسروية حميمية تطوي ما أمكنها ترياقا، كي نتابع سهرة آخر الأسبوع ، كان ادريس البصري يتصدق بهاعلى الشعب المقهور كل ليلة سبت ، قبل أن يباشر مرة أخرى يوم الاثنين مسيرته المظفرة من أجل اغتيال أحلام نفس الشعب. تحملنا إلى عنان السماء، نوتات عبد الوهاب الدكالي وعبد الهادي بلخياط والحياني إلخ . نبتهج بإيقاعات أغانيهم، دون خلفية سابقة، وحتى بغير تكلمهم للغة التي نريدها فعلا ….
لكن، نظرا إلى غياب مشروع ثقافي –مجتمعي ، يتوخى تفعيل الإنتاج الفني والارتقاء به نحو مستوى بناء مفهومي ومؤسساتي قادر على تأطير المجتمع وتثويره ثم تطويره ، عاشت الأغنية المغربية مثلها مثل جل التعبيرات الجمالية انتشارا محدودا جدا ، بالتالي، اختزلت أنصارها إلى أفراد الجيل الذي يسبقنا أو الفئات العامة من الشعب نتيجة نزوعها المحافظ وتشبتها المبدئي بالمحلي .
بيد أنه ، سنلاحظ خلال السنين الأخيرة، كثرة اللغط حول هذه الأغنية لأسباب لوجيستيكية وإيدولوجية، فاتخذ الأمر صورة دوغماطقية مبتذلة وفارغة، تحاول فقط دغدغة مشاعر شعبوية لا غير، في غياب رؤية نقدية نسبية، تماما كحال ساستنا الذين أصبحوا يهرطقون ببغاوية انتهازية عن الوطنية، أو الخطاب الفضفاض الذي يتم الترويج له رسميا وإعلاميا بواسطة بعض الأبواق المأجورة، التي تخبط خبط عشواء، فتخلط بين كل شيء من أجل تعميد خلاصات تعتبر بمثابة محاكم تفتيش للآخرين، بحيث كلما وقع حدث جسيم، إلا وأسرعت للصدح بأسطوانة المغرب أجمل دولة في التاريخ وعلينا جميعا أن نسبح بحمد حياتنا، بينما تؤكد أبسط ألفبائيات الواقعة المجتمعية، تأويلا متعددا قائما على الفرضية والاستدلال ثم الاستنتاج.
هكذا حالنا اليوم، فكل من أفرط في سكب مرهم على شعره، وتدلت أقراط من أذنيه، وزين يديه ب ” تويشيات ” أو إكسسوارات تم أثنى على تسامحنا وجبالنا وأعيادنا، سيتحول بقدرة قادر ، إلى مطرب تتفتت من عذوبة صوته الجبال. سيأتي أمام الجمهور، ويخبرنا عن إقامته الدائمة بين السويد ومصر ولبنان ولقائه بأكبر المخرجين السينمائيين العالمين ، ولا يجد دقيقة واحدة لتدخين سيجارة من كثافة العمل، وأن دعوات أمه والأولياء الصالحين تلاحقه أينما حل وارتحل ، كي تمهد له ما استعصى من كوابح. يصعد إلى الخشبة، يلف جسده المكتنز بالعلم الوطني، ربما يوهمنا بأنه مقاتل من الساموراي ثم الخطاب الركيك ” هاي ! أنا بحبكم ! شكرا ! ميرسي !Merci ” ويبدأ الجمهور، المغلوب على ذوقه بالهتاف لاسمه وملاحقته يمينا وشمالا. بعد حين، سيتحول إلى النجم الأول الذي سيمثلنا في الملتقى الدولي لأكاديمية الموسيقى العالمية! ! لكن ما سر هذا التتويج ؟ أو بمعنى ثان ؟ ماذا تعني الأغنية المغربية حاليا ؟ لقد صار قاعدة سارية المفعول أن يسرع جلهم إلى انتشال مقطع أو مقطعين مما تركه الموتى ( إسماعيل احمد ، إبراهيم العلمي ، المعطي بن قاسم ، محمد الحياني …) مع ترميمها بصرخات او مواويل على حد ظنهم ، ويوزع المغني القبلات هنا وهناك على المعجبات ، واستمراره لدرجة السأم، مكررا المقطع ذاته وقد يجرب حظه أيضا راقصا، لما لا، على طريقه ” جون ترافولتا ” أو ” مايكل جاكسون ” لكن العين بصيرة واليد قصيرة، وفاقد الشيء لا يعطيه. هي ملكات، إضافة إلى كونها موهبة، تحتاج إلى كثير من الإمكانيات الذاتية وتعدد محاولات الإجادة، وطول الممارسة. وقبلهم جميعا، توفر الشخصية الفنية الغنية، التي لا تصنع بين عشية وضحاها، أو تسقط على الناس بمظلات . ولعل المطلع على بعض شذرات سير الفنانين المكرسين عن جدارة ، سيدرك كم الاختبارات قاسية ومتواصلة . إذن، إذا الأمر بهذه السهولة كما يظن أصحابنا ، فأعتقد بأن الأغنية المغربية لا وجود لها قطعا، على الأقل في السياق ذاته، وما نشاهده يبقى مجرد لعب أطفال صغار. لن تستهويني بيسر الدعاية الأصولية ، وأجزم بنوع من العدمية بأننا في زمن التغيرات نحتاج أساسا إلى مفكرين وعلماء ومحاربين وسياسيين من صنف غير مألوف، الرد ببساطة يشدد على سعينا إلى هؤلاء مثل أولئك. نريد بنفس اللهفة والشوق، طائفة طليعية من المغنين، فالغناء سر الوجود. يؤمنون جوهريا بالإبداع، قولا وفعلا، يراكمون نوعيا قيم الجمال ، يهذبون ممكنات العقل الفني ، أما ما تنغل به الساحة آنيا فلا يزيد عن حشو لا طائل منه ، ثم تبخيس قيمة تراث الأغنية المغربية، وجعله مبتذلا ومشروخا من التكرار الممل .
هل نضبت قريحة الابداع ؟ أم الدوافع الاجتماعية والثقافية لم تعد هي ذاتها ؟ ماذا يريد المدعي حينما يبحث لنفسه عن تخريجة بشكل من الأشكال، تجعله بجرة إشارة نجما ؟ بالتالي صار لدينا فائض في “النجوم” و”الأساتذة” بل و”العباقرة” و”العمالقة” ، حينما يحلو للبعض استعارة المنظومة التعبيرية لراقصات شارع الهرم، التي لها مفعول الصواريخ العابرة للقارات ، بحيث تتدفق الأوصاف عل ألسنتهم دون تلعثم أو حبسة بينما يلزمها أصلا تدقيقاصارما وإنصافا وجيها .

سعيـد بوخليـط – باحث مغربي

أكاد أجزم ، بأن المسار الفني المغربي، على الأقل من زاوية التشدق ببناء صرح للأغنية، لا يعكس أرضية صلبة بوسعها تجذير تراكمات تنضاف إلى متون السابقين . نحتاج حتما إلى كثير من الخلق والعطاء وزهد يكاد يكون صوفيا ، في الجري وراء الأوصاف والألقاب الجاهزة.
التقليد ليس عيبا،لكن فقط أن يموضعنا مؤقتا عند حدود التمارين الأولى للسبر والاستكشاف. ثم سرعان ما يغدو ضعفا وترهلا ، لما يصير مخرجا نهائيا للمتطفلين الذين ينقلون بتعسف الأشياء عن عمقهاالطبيعي. ومثلما، لا أستسيغ قطعا أن مدرسا في الجامعة لا يملك من سيرته العلمية إلا انتفاخ بطنه من شدةالكسل و صورته الشخصية ورقم هاتفه، فلا أقبل قطعا، أن يستمر فنان على وجه الافتراض، في الالتجاء إلى القبور كاريكاتوريا طلبا للمشروعية.فعلى من تضحكون؟.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.