جامع الفنا : تراث شفوي للبشرية

0 493

مثلما بيّن ميخائيل باختين، في تحليله الرائع لعمل “رابلي”، هناك لحظة يمتزج فيها الواقع بالمتخيل، بحيث تحل الأسماء محل الأشياء التي تحدد، ثم يصير للكلمات المبتكرة وجودها الخاص : فتنمو وتتطور وتتزاوج وتتوالد مثل كائنات من لحم وعظم. السوق والساحة الكبرى والفضاء العمومي، شكلت فضاء مثاليا لتفتقها : تتداخل الخطابات، وتنبعث الأساطير. كان المقدس مجالا للسخرية، دون توقفه أبدا على أن يبقى مقدسا، والحكايات المتهكمة الأكثر فظاظة، ظلت قابلة للتوافق جدا مع طقس الاحتفال. حكاية محكمة الصنع، تحبس أنفاس المستمع. يمتزج الضحك، بتعبيرات الاغتباط، والبهلواني كما البائع المتجول يستثمران الحكاية، بغية استمالة الناس من أجل تقديم الصدقة.
عالم يحتضن تجار المواد القديمة والسقائين والحرفيين والمتسولين والمشبوهين والأنذال، ونشالين بأيادي حريرية وعقول ضيقة الأفق، ومومسات متشدقات، وفتيان مشاغبين، ثم الماكرين والمخادعين وعرّافي الورق والمتوارعين وأطباء بعلم فطري.
عالم فاقع الألوان، منفتح وغير مكترث، يمنح قوته الحيوية إلى المجتمعات المسيحية والإسلامية، ولا يختلف كثيرا ـ مثلما يمكننا اعتقاده ـ عن حقبة القرون الوسطى للكاتب الإسباني “خوان ريز”. إنه آخذ في الانمحاء، شيئا فشيئا أو بطريقة راديكالية من طرف البورجوازية الناشئة والدولة المؤطّرة للمدن وأنماط الحياة. عالم، يبقى مجرد ذكرى فضفاضة، بالنسبة للبلدان المتطورة تقنيا، لكنها فارغة روحيا. استيعاب منظومة التقنية الآلية، وكذا السمعي- البصري، ساوى بين الأشخاص والعقول، وحصر الطفولة في بوتقة “ديزني” « Disneyise » وأضعف قدراتها التخييلية. وحدها هذه المدينة، تمتلك امتياز حماية خلود تراث شفوي للإنسانية، ينعته الكثيرون، احتقارا بالعالم الثالث. أتكلم هنا عن مراكش، وساحة جامع الفنا التي على جنباتها، أسكن وأتسكع وأكتب، طيلة فترة زمانية متواصلة، تزيد عن عشرين سنة.
في جامع الفنا، تضاعف عدد المشعوذين والمهرجين والبهلوانيين والحكواتيين، وتطور أداؤهم مقارنة مع فترة قدومي إلى مراكش، أو حينما زارها “إلياس كانيتي” وخلفت لديه انطباعا مثمرا جدا، أو أيضا الحقبة التي كتب خلالها الإخوة “جيروم”و “جان” “تارو” Tharaud، وصفا عن رحلتهم المراكشية، أي تقريبا قبل ستين سنة.

سعيـد بوخليـط – باحث مغربي

حينما نلاحظ وضعيتها الحالية، ثم الصور التي التقطت لها بداية الحماية، سنكتشف حقا فروقات قليلة : بعض البنايات المتراصة جدا، وإن كانت متواضعة. ازدادت حركة المرور زخما، والنمو الجنوني للدراجات. مع ذلك، تبقى جامع الفنا هي الأجواء ذاتها، ونفس عربات الجياد وشلة المشبوهين، الذين يسرعون دائما إلى صفوف الحلقات التي تتجمع حول الرواة، بين تنايا خيوط دخان تائه ولطيف، تصدره موائد الأكل. مئذنة الكتبية، تحمي باستمرار مملكة الأموات ووجود الأحياء المنهمك.
خلال عقود، ظهرت أكواخ خشبية ثم اختفت، باعة المشروبات، المتاجر، وعشاق الكتب القديمة : حريق سيلتهم كل هذه الأشياء، لكنها أثثت مرة أخرى السوق الجديد المفعم بالحركة (باعة الكتب تعرضوا لمنفى فظيع نحو حي باب دكالة). أيضا، أعداد الحافلات الكبيرة المتمركزة شمال رياض الزيتون ـ جلبة، حركات ذهاب وإياب متواصلة، مسافرون، حمالون، بضائع متجولة، دلاّلون، سجائر، سندويتشات ـ غادرت بدورها جامع الفنا وانتقلت إلى محطة طرقية تتلألأ كليا ضوءا، مع هيمنة النظام. كما أنه بسبب مشاهد البذخ التي تزامنت مع توقيع الغات (الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة) سنة 1995، ستخضع ساعة جامع الفنا لعملية تزفيت و تنظيف وتنميق : الباعة الذين يقتنصون الفرص، يأتون عند ساعات معينة ويغادرون المكان، ما إن يرمقوا برفة جفن طيف رجل شرطة، قد نزحوا بدورهم اتجاه أمكنة ملائمة أكثر. هكذا ستفقد الساحة قليلا نشاطها المتدفق، لكنها احتفظت بأصالتها.
في غضون ذلك، حمل الموت خسائره المعتادة، إلى أشخاص مشهورين، هذا ما حدث أولا “مع باقشيش” مهرج، ارتدى دائما قبعة يتدلى منا ذيل بقرة، حيث يجذب عرضه يوميا، والعالم الجزيريّ لحلقته، دائرة ملتحمة من المتسكعين، الكبار والصغار منهم.
بعده، أتى الدور على “ماماد”، فنان الدراجة الهوائية، الذي كان قادرا على القفز فوق المقود من المقعد دون توقف، مع استمراره في الاستدارة حول نفسه وقيامه بحركات دردورية، وسط حلقته المبهرة فرجويا.
سنة 1995، طرق الموت باب شخصية أخرى يسمى “الصاروخ” : داعية مبجل وراو وقح، يبدع حكايات لاذعة عن جحا الساذج والمحتال، إنه يتقن بيسر لغة جد غنية، موظفا استعارات تلميحية ومراوغة، تتأرجح كأسهم حول الهدف الجنسي الذي يظل مضمرا. بهيأته الضخمة ـ رأس أصلع وتعاظم بطن منتفخة ـ ترسخ في تقليد قديم للساحة، جسّده لوقت طويل “برغوت”، أما جذورها فتعود إلى أزمنة أكثر رعبا وقساوة، حينما كان الجلادون ينصبون المشانق لمعارضي حكم السلطان المهيب، حتى يصيروا عبرة، وهم يتمايلون عند المرعبة “أرجوحة الشجعان”، أمام أعين جمهور صامت وخائف.
علمت أخيرا، منذ فترة ليست بعيدة، بالرحيل المباغت لطبيب الحشرات والذي خصص له محمد اليماني، صفحات رائعة في مجلة : (Horizons maghrébins). المعتادون على الساحة، يعرفون جيدا شخصا ضئيل الحجم، صاحب شعر مبعثر وأشعت، مع كل إطلالة له وقد أصبح الأمر نادرا شيئا فشيئا، يجتاز الطبيب عموم الساحة، ثم يخر مثل محرك ربوي، تحت خيم مطاعم حقيرة بالقرب من مواقد مضيافة. تاريخ هذا الرجل، يجمع بين الحقيقة والأسطورة، يمكن مقارنته بمسار شخصية الصاروخ، لأنه اختار مثله سبيل الفاقة والتسكع، يقضي لياليه في المقابر ومفوضيات الشرطة وزيارات سريعة للسجن أو هولندا حسب تعبيره، ويتعاطى للسكر في الفضاء العمومي. حينما يضجر من المغرب كما يقول، يقرر الرحيل صوب “أمريكا” بمعنى حتى حدود تلك الأراضي الشاسعة المحيطة بفندق هوليدايين Holidaynn .
تميز طبيب الحشرات بعبقريته الشفوية، وقدرته على الابتكار والتلاعب بكلمات وألفاظ تقود إلى بعضها البعض عبركل الجهات. كل ذلك ربطه ثانية دون أن يدرك، بمقامات الحريري ـ تتجاهلها، عربيتنا الرسمية الفقيرة جدا ـ ويدرجه ضمن إطار مشهد أدبي يرتكز في الآن ذاته، كما لاحظ بقوة “شيرلي غوتري” « Shirley Guthrie »، على جسارات الحريري و”إيستتيقا المجازفة” ل “رايمون روسل” والسورياليين وكذا جماعة أوليبو Oulipo . صورته الساخرة عن النشرة الإخبارية المتلفزة، ووصفته المتعلقة بأفضل أكلة طاجين في العالم، هما نموذجان عن الخيال والفكاهة. بهذا الخصوص، لم أقاوم متعة تدوين بعض الفقرات عن المزايا العلاجية للمنتوجات التي ينصح بها مستمعيه : لم يتحدث عن شراب خارق يتولد عنه الحب أو جرعة سحرية، كما يوصي بذلك المشعوذون الحرفيون، بل يتعلق الأمر بمسحوق كأس زجاجي أو ذاك العنبر المستخرج من ثقب مؤخرة العفريت… .
((والكاربون ؟
ـ إنه يصلح للعيون، لصنبور عقيق قزحية العين، ومصباحها. تضع الكاربون فوق العين المريضة، وتتركه يختمر حد انفجارها، ثم تتناول مسمار 700 وتغرزه بعمق داخل العين، وتحركه بقوة إلى غاية أن تقتلع عينيك، ولما تغدو بين يديك، بوسعك حينئذ أن ترى عن بعد 37 سنة ضوئية ! إن كانت لك براغيث داخل البطن، وفئران في الكبد وسلحفاة في الدماغ وصراصير في المفاصل وصندل وقطعة زنك وآلة سحق. لقد وجدت حذاء عند امرأة في الداوديات، إسألوني : أين عثرت عليه ؟
ـ أين عثرت عليه ؟
ـ لقد كان، بين أسوارجمجمة البروفسور)).
وتبقى، الخسارة الأكثر فداحة، تلك المتعلقة بالإغلاق المفاجئ والأبدي لمقهى “ماطيش” : حتى ولو غمرتها مياه كثيرة ـ أمطار عاصفية، زوابع فيضانات ـ غير أن جامع الفنا، لم تتنازل عنها قط.
كيف تستطيع تحديد، من بخاصية متغيرة الشكل ومودة نافذة، يجعلانه متمردا عن كل خطاطة اختزالية ؟ موقع مقهى ماطيش الاستراتيجي، في الزاوية الأعظم ارتيادا، حولها إلى حصن بارز لقلب الساحة. كل من جلس فيها يمكنه معانقة مجمل الساحة بنظرة، ويقف بدهشة على أسرارها : خصومات، لقاءات، تحايا، مكائد، تلامس بالأيادي الخفية أو انتفاخ يلهث وراء تجويف مناسب، شتائم، إثارة، ترتيل متنقل للمتسولين، أفعال الرحمة، حشد يتدافع وأجساد ملتصقة لا إراديا. جامع الفنا، فضاء دائم الحركة ينسج حبكة فيلم يتجدد، بغير نهاية. وقائع أو نوادر خالدة، أساطير ذات عِبر بالنسبة للأقل شبهة، إنه الغذاء اليومي لرواد الساحة.
على سطح المقهى، يلتقي موسيقيو كناوة، مدرسون، أساتذة الثانويات، تجار، مشعوذون، مهربون يوميون، صعاليك بقلوب كبيرة، باعة سجائر بالتقسيط، صحافيون، مصورون فوتوغرافيون، أجانب بوهيميون، زبائن بجيوب فارغة. بساطة العلاقات، تضعهم عند قدم المساواة.
في مقهى “ماطيش”، يقودك الحديث إلى كل شيء وتشتعل أيضا شرارة جراء أي شيء. النادل الذي يخدم هذه الممالك المشتتة، يمتلك ثقافة أدبية صلبة، ولا يمنح الزبائن إلا انتباها متقطعا ـ لكنه لا يقلق إلا القادمين الجدد ـ وقد انغمس في قراءة ترجمة عربية لرامبو.
عشت في جامع الفنا، أجواء التوتر المرعب والمرارة المؤلمة، المصاحبة لحرب الخليج سنة 1991 : مأساة لا تنسى دامت أربعين يوما. هكذا، خلت الساحة من السائحين، كما غادرها المقيمون الأجانب ولم يجازف بالبقاء غير حفنة شواذ. شيخ كناوي، يستمع للأخبار، أذنه ملتصقة بالترانزستور.
بشكل يائس، عم الصمت السطح البانورامي لمقهى “كلاسي” وكذا مقهى “فرنسا”. عند الغسق، ترسم الشمس الحمراء إشارة على امتداد الساحة، كما لو أنها تخبر بالمذبحة الفظيعة. قضيت في جامع الفنا أيضا، أعذب احتفال بالسنة الميلادية، وأكثرها شعرية على امتداد كل حياتي. كنت جالسا هناك، صحبة بعض أصدقائي وأنا مدثر جيدا، في انتظار أن تدق لحظة الإعلان عن أول دقائق السنة الجديدة. فجأة، ومثل حلم ظهرت عربة خيل فارغة. السائق فوق مقعده، يجلس بطريقة غير سوية، اتجهت نظرته الحزينة، وتصلبت حول شابة شقراء، تأخذ مكانا لها عند إحدى الطاولات. السائق المنبهر، تخلى عن كل شيء، خفض من سرعة العربة إلى أن توقفت تماما. وكما يحدث في مشهد سينمائي صامت، صور بطريقة بطيئة، توجه السائق البسيط بالتحية إلى الفتاة الجميلة، ودعاها كي تصعد بجانبه. وحينما بدا له بأن الفاتنة لم تستجب لدعوته، ترجل من موقعه واقترب منها بخطوات متعثرة لكنها مثابرة، مرددا، : “سيدتي، سيدتي…” ثم صنع ثانية إشارته المتسيدة، وحثها رسميا كي تأخذ مكانها إلى جانبه في مركبته أو عربته الملكية الفخمة والفاخرة. الموقف الودّي للزبائن، أضفى حقيقة على حبه، أما ملابسه الرثة فقد غيرت هيئتها إلى كسوة لبهجة العيد، وكذا العربة الأنيقة لأبهته العابرة. نهض أحد الجالسين وتدخل كي يكسر هذا الحب البريء، محاولا مصاحبته بكياسة إلى غاية عربته، غير أن الشاب عجز كليا على انتشال نفسه خارج هذا السحر، فاستمر من وراء يلاحق الفتاة بنظراته ويبعث لها بقبلات، ولكي يهدئ من روع فشله، شرع يلاطف بحنان فائق الوصف ردف أنثى فرسه (تعالت التصفيقات والضحكات). ثم حاول ثانية الصعود إلى مقعده، وتأتى له ذلك بعد مجهود مضاعف، لكنه فجأة تأرجح وسقط خلفا وتدحرج مثل كرة إلى أسفل العربة (موجة جديدة من التصفيقات). تطوع بعض الحاضرين وأمسكوا بيده، كي يعينوه على استعادة توازنه. نهض وهو يرسم على شفتيهه ،قبلة وداع للآلهة السكندينافية، قبل أن يختفي بجياده سريعا عن الأنظار غير آبه، تاركا وراءه غبارا، على وقع تأثير الهالة الكئيبة لفردوسه الضائع. منذ الفترة المجيدة لأفلام شابلن لم أستمتع أبدا بمشهد هكذا.
بعد إغلاق المقهى، تشتت روادها مثل طائفة حرمت من وكرها. صار كناوة يلتقون ليلا، على رصيف مُزفت لكنه غير لائق، أو يتكدسون في فندق قديم، يوجد بحي درب ضباشي.
أما باقي العناصر، وأنا واحد منهم، فيعزّون أنفسهم قدر ما يمكنهم الأمر، حزنا على اختفاء هذا المركز العالمي للثقافات، ويستعيدون ذكريات وقائع وطرائف ماضيها الأسطوري والرائع، شعور يشبه حنين لاجئين يعيشون مؤقتا في المنفى.
مع ذلك، صامدة جامع الفنا، أمام الهجومات التي يضمرها الزمان، وكذا حداثة منحطة، وقصيرة النظر. تواصل الحلْقة نموها، وتتفتق مواهب أخرى وجمهور متعطش دائما للحكايات، يؤسس الحلقة بتحومه حول المنشدين والفنانين. جامع الفنا، تطوي حيوية مذهلة، وقدرات استيعابية، تهضم العناصر الأكثر تنوعا، وتبطل لحظيا التباينات الطبقية والتراتبيات. الحافلات المكتظة بالأجانب، والتي تزدحم هنا مثل حيتان، ستلتهمها بغثة الساحة، بنسيجها العنكبوتي الرفيع، وتتسمر أمام عصارات معدتها.
خلال السنة الماضية وإبان ليالي رمضان، جذبت جامع الفنا عشرات آلاف الأشخاص، نحو مطابخها المتنقلة وسط صياح باعة الأحذية والملابس وأطباق الحلوى، وكذا اللّعب. على أثار نور المصابح الغازية، أظن بأني شاهدت حضور “رابلي” والكاتب القشتالي “خوان ريز” والشاعر الإنجليزي “شوسر”، وابن زيد، والحريري، والعديد من الدراويش.
بين زوايا هذا الفضاء الذي لا زال يدافع عن وضعه، لا نلتفت قط إلى هؤلاء المعتوهين الذين يقبّلون هواتفهم المحمولة. عظمة وتوهج الحقيقة، يمددان بشكل خارق نفوذ جامع الفنا. لكني أرتجف أحيانا، عندما أفكر في درجات اختراقها وأنا أتحسس صعود هذا السؤال إلى شفتاي، فتنصهر عنده كل مخاوفي : إلى متى ستقاوم ؟

بقلم : خوان غويتسولو

ترجمة : سعيــد بوخليــط

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.