تشافيز : رحيل غيفاري من زمن غير الزمان
تقدم قارة أمريكا اللاتينية،معادلة عجيبة.فبقدر،استمرارها هدفا ومطمعا يثير لعاب القوى الاستعمارية الكبرى،سواء الاسبان فترة القرن السادس عشر،أو الولايات المتحدة الأمريكية خلال القرن العشرين.الأخيرة،سعت بكل سياساتها وخططها العسكرية والمخابراتية،أن تجعل حقا من جمهوريات الموز ومايضمره التوصيف من معاني القدح،مجرد باحة خلفية للبيت الأبيض،بل ولما لا، الولاية الواحد والخمسين.هكذا،حرص جل رؤساء أمريكا،جمهوريين أم ديمقراطيين،على تثبيت سياسة الهيمنة بإنبات أعتى الأنظمة العسكرية بربرية ودموية،حيث كان أغلبهم مجرد عملاء لدى وكالة الاستخبارات الأمريكية،يريد كل منهم إبراز أهم مواهبه في التقتيل ،كي يحظى بالتقدير الأمريكي،ومن تم استمراره في السلطة.ولاشك،أن قذارة الجنرال بينوشي،ستبقى حكاية لمختلف الأجيال.
أقول للمفارقة،ومن نتانة هذا المستنقع السياسي الآسن،أهدت أمريكا اللاتينية إلى البشرية،شخصيات عتيدة صنفت وستصنف حتى يوم يبعثون،أكثر الكائنات سموا ونبلا وتضحية وتفانيا في خدمة قضايا نوعية، تركوا لفقراء بلدانهم والإنسانية قاطبة،تراثا هائلا من قيم الشجاعة والإيثار ونكران الذات.
زمرة استثنائية،كرس سبيلها بداية الضابط العسكري “سيمون بوليفار”،رائد حركة المقاومة ضد الإسبان،في كولومبيا وفنزويلا والإكوادور والبيرو وبوليفيا ،ثم منتقلا بعد هذه المرحلة،إلى سعيه توحيد أمريكا الجنوبية تحت زعامته،باسم”دولة بوليفار”.
إرث،تمثلته فيما بعد تنظيرا وممارسة،قيادات توشك أن تغدو أسطورة،أمثال :غيفارا،سلفادور أليندي،كاسترو. وبكيفية من الكيفيات،”دانييل أورتيغا”قائد الثوار الساندينيين الجماعة التقدمية الرافضة للهيمنة الأمريكية،الذين خاضوا إبان عقد الثمانينات مقاومة بطولية ضد الجيش الأمريكي.وأخيرا،القائد الكبير هيغو تشافيز،المتوفى يوم5مارس عن سن الثامنة والخمسين،بعد صراع مرير مع مرض السرطان.
لقد أجمعت جل التأبينات،على القوة الرمزية التي أمد بها تشافيز شعوب أمريكا اللاتينية،ومضيفا للذاكرة الإنسانية بعدا مغايرا.لاشك ،سنلاحظ في الشهور القليلة المقبلة،توظيفا ماكرا لبورتريهات صاحبنا،من لدن الآلة الصناعية الرأسمالية مع أنه كان أحد ألد أعدائها،كي تعيد تحريك عجلة بيع مجموعة من الملابس،والرفع من سقف أرباحها،تماما كما صنعت بوسامة وهيبة غيفارا.
رئيسة البرازيل”ديلما روسيف”،التي تتحدث بشأنها المصادر أنها لم تكن على وئام مع تشافيز ،اعتبرت وفاته خسارة لاتعوض ووصفته بالأمريكي اللاتيني العظيم.
المتميزون،قلة رفيعة جدا،لاسيما فيما يتعلق بالقيادة السياسية،وفي سياق زمن جرفته منظومة العولمة بكل خباياها النمطية،التي يستحيل معها خلق التميز.
بالتأكيد،أن عفوية تشافيز الثورية ويساريته الفطرية،الممهورة بعقيدة عسكرية خالصة تنأى عن زئبقية دبلوماسية السياسي،وهو الجنرال الذي حين تخرجه شابا من الأكاديمية العسكرية في كراكاس برتبة ملازم،التفت فقط إلى شيئين : بندقية وكتاب لغيفارا.جعلت البعض،يتهمه بالشعبوية والدوغماطيقية،شخص متعطش للبقاء في الكرسي،استمر لولايتين في الحكم،وكان يلهث بكل الطرق مقتفيا خطى كاسترو قصد تأبيده حاكما.نزوع،لم يعد البتة مستساغا لأي كان،في عصر المؤسسات الديمقراطية والمشروعات المجتمعية الناجعة.
هؤلاء أيضا،وفي الواجهة المقابلة، يتفقون على أن تشافيز حظي بسجل سياسي وطني ناجح طيلة أربعة عشر عاما من حكمه لفنزويلا،وهي الفترة الممتدة من سنة1999 إلى 2013 .سنوات لم تكن بتاتا سهلة،وأعداء الثورة سواء عسكريين أو مدنيين،أنصار الفساد والعمالة، يتربصون به كل لحظة، تهيئ لهم المخابرات الأمريكية الفرص الممكنة،هكذا جاءت المحاولة الانقلابية لسنة 2002،لكن الشعب أعاده للسلطة.ثم عام 2006 ،فاز مجددا بالانتخابات الرئاسية.
اشتغل تشافيز، على برامج اجتماعية وتربوية وتعليمية،يختزلها فقراء فنزويلا في كلمة واحدة بليغة : “لقد أعاد إلينا كرامتنا”. صاحب قضية،خرج من رحم الفقر والمعاناة،اضطرته الظروف المادية إلى عدم إكمال مساره الدراسي،ومغادرة المدرسة ولم يتجاوز بعد سن السابعة عشر،مغيرا طريقه نحو الوجهة العسكرية.شخص كهذا،سيجد نفسه بعد فترة،المتدبر الأول لشؤون دولة تزخرنفطا،وتحتل الرتبة الرابعة في إنتاج هذه الثروة.لكنه،لم يستغل موقعه كي يرتقي بسرعة البرق إلى وثنية عجل ذهبي سمين وأبله،كما فعل القذافي ملقيا بالأموال يمنة ويسرة ملاحقا شعارات جوفاء جعلت منه ملك ملوك،أو كما يصنع بدو الرجعيات الخليجية المتخلفة،وقد أضاعوا الريع البترولي في أبراج إسمنتية بلاقيمة،وفضائيات لفتاوي التكفيروالقتل،أو من جانب آخرتفاهة ثقافة “الهشك بشك” على حد وصف الإخوة المصريين.
قام تشافيز،بتوزيع الأراضي على المزارعين،كما كرس مشروعات مجتمعية خاصة في ميادين التعليم والصحة،أثمرت نتائج إيجابية جدا حسب تقاريراليونسكو،بحيث اندثرت الأمية داخل البلد واستطاع آلاف الفنزويليين الاستفادة من التأمين الصحي بفضل إنشاء العيادات الطبية المجانية،هكذا صار فقراء الشعب مسيطرين على مصادر العيش.
في السياق نفسه، سيبقى تشافيز الرئيس الوحيد الذي حقق رقما قياسيا فيما يتعلق بمخاطبة شعبه،عبر برنامجه الشهير”ألو يارئيس” وهويجيب على أسئلة الجماهير لمدة أربعين ساعة أسبوعيا.
إذا انتقلنا إلى سياسته الخارجية،فقد التقط تشافيز المشعل من الشيخ كاسترو،بخصوص مراكمة العداء للولايات المتحدة الأمريكية،ساعيا بكل ما أوتي من كاريزما إلى خلق محورل”الخير”يشكل أساسا لتعددية قطبية، نكاية بوصف”محور الشر”الذي صنف بلده إلى جانب أخرى مارقة كإيران والعراق وسوريا وكوريا الشمالية وليبيا.
ولتفعيل نواياه على أرض الواقع،أسرع إلى زيارة صدام والقذافي،متحديا الحصار المفروض على بلديهما من قبل أمريكا.مبادرة،لم يجرؤ آنذاك عليها أي حاكم عربي.كما ظل، متمسكا بموقفه الرافض للحرب على الشعب الأفغاني.في حين التزم الحياد،حيال الصراع الدائر بين النظام الكولومبي والثوار الشيوعيين،لكن من فترة إلى أخرى،طرح نفسه كوسيط بين الطرفين.
تشافيز،الذي سخر منه خصومه لكونه يغني خارج السرب،مادام هو الرئيس الوحيد، المعلن في كل مناسبة وغيرها ومن أعلى المنابر الدولية، عن اشتراكيته.لايتردد بدوره،كي يكشف أمام الملأ،وبأسلوبه الكوميدي المرح،مساوئ أنصار العولمة والمنبطحين أمام حماة الليبرالية الجديدة.
سنة 2008 ونتيجة ردة فعله القوية ضد العدوان الإسرائيلي على غزة،أضحى تشافيز زعيما مطلقا للشعوب العربية.لقد طرد السفير الإسرائيلي في كاراكاس،كما استدعى سفير فينزويلا في تل أبيب وبالتالي تخفيض مستوى التمثيل الديبلوماسي.خطوة،أحرجت بكل المعاني،الرجعيات العربية التي تمرر السبابة بيد وتذبح باليد الثانية.
لذا، صار التلويح بصوره أمرا مألوفا،إلى جانب عبد الناصر وياسر عرفات وجورج حبش، وسط حشود مختلف التجمعات الشعبية المنددة بالتخاذل والتقاعس الرسمي.
يقال،بأن آخر الكلمات التي رسمها تشافيز على شفتيه،محتضرا : ((أنا لا أريد أن أموت،لاتتركوني أموت)). طبعا،كائن عاش على درجة من التوثب الثوري،يصعب عليه الانزواء صامتا في ظلمة اللحد.لكن،يارجل،من قال إنك ميت؟؟