مزايدات كبيرة جدا .. في قضايا خطيرة جدا
إن المتتبع لخطابات و تصريحات بعض الفاعليين السياسيين و النقايين و الجمعويين يخال نفسه و كأنه داخل حلبة للمصارعة ، فما أن يتفوه فريق بكلمة أو برأي حتى يستنفر الفريق الآخر للرد و الطعن دون أن يكلف نفسه التمعن و التأمل في خطاب نده أو التثبت من أقواله . لقائل أن يقول أن هذا من طبيعة السجال السياسي و التدافع المجتمعي الذي يصاحب صعود تيار إلى السلطة و هبوط آخر إلى المعارضة ، أو ما يسمى بصراع المواقع و الرغبة في التمكين السياسي أو الدفاع عن المصالح.
قد نتفهم هذا التبرير و نلتمس له أسباب القبول لو كان محصورا و مقتصرا على ملفات عادية بسيطة ناتجة عن قرارات متسرعة من مسؤول أو وزير- مثلا- أو غيره ، أو تدبير تكتيكي لحظي ليس في محله ، هذا كله يمكن أن ندخله في دائرة السجال السياسي العادي من غير تحفظ.
لكن الغريب و غير المقبول أن يمتد ذلك اللغط و العويل إلى ملفات حساسة و خطيرة مثل صندوق المقاصة و التقاعد و و…
وحساسية تلك القضايا – كما هو معلوم- تعود بالأساس للاعتبارات التالية:
– أنها تمس الواقع و المعيش اليومي للأسرة و المواطن و تؤثر عليه بشكل مباشر.
– أنها ذات طبيعة استراتيجية و قد ترهن مستقبل البلد لعقود طويلة .
من هنا لن نقبل –كمواطنين – من هؤلاء ، هذه المزايدات الكثيفة في مثل هذه الأمور الخطيرة ، و التي غالبا ما يتم استغلالها و اللعب على نغماتها لتهييج الشعب و ترويعه بأخبار زائفة و أرقام مكذوبة لا تستند إلى أي مرجع (كما وقع لما تم نشر بعض أثمنة المواد الغذائيةفي بعض الصحف) . كنا نتمنى أن تقدم حلول و اقتراحات ووجهات نظر تكفينا و تريحنا من ضجيج هذه الصيحات الجوفاء و الفرقعات الخاوية التي تكررت و عافتها الأنفس و ملتها الآذان. إذ المواطن يعلم حقيقة أن هذه الأزمة ليست من إنتاج اللحظة و لا وليدة اليوم ، و ليس المسؤول عنها الذين هم اليوم في دفة السلطة ، بل هي حصيلة سوء تدبير سابق . وإلا كيف نفسر استفحال معضلة صندوق التقاعد ؟ وكيف نتجاهل مآل الملايير الغليظة التي امتصتها بطون الشركات الكبرى والطبقات الميسورة من المحروقات و الفيول و غيرها من صندوق المقاصة ؟ في حين بقيت فئة الكاديحين تكابد و تعيش تحت خطوط الهشاشة و الفقر. و إليكم بعض الأرقام التي ساقها د. يحيى اليحياوي في إحدى مقالاته عن وضعية صندوق المقاصة و هي حصيلة لدراسة قام بها مجلس المنافسة :”إن أكثر من 13 بالمائة من الساكنة التي تعيش تحت خط الفقر, لا تستفيد إلا بنسبة 257 درهما للفرد سنويا, من دعم الغاز المستهلك بالمنازل, في حين أن الطبقات الميسورة, التي تمثل حوالي 30 بالمائة, تستفيد سنويا بما مقداره 585 درهما.
– بالنسبة للسكر, لا تستفيد ال 13 بالمائة المذكورة, إلا من 106 درهما للفرد في السنة, مقابل 229 درهما ل 30 بالمائة من الشريحة الميسورة.
– أما الدقيق, فإن ال 11 بالمائة من الطبقة الفقيرة, لا تفيد من دعمه إلا ب 59 درهما للفرد وبالسنة, مقابل 166 درهما ل 31 بالمائة من الطبقة الميسورة.
– قيمة دعم المواد وصل سنة 2011 ألى 52 مليار درهم أي 2% من الناتج الداخلي الخام
الجهات المستفيدة
– حسب دراسة لمجلس المنافسة “ شركة كوزيمار (وهي فرع لمجموعة الشركة الوطنية للاستثمار التابعة لهولدينغ أونا الملكي) قد حصلت سنة 2011, على ما يناهز المليار ونصف المليار من الدراهم.
– 85 بالمائة من الدعم المقدم للمواد النفطية, معظمها يذهب لشركة لاسمير التابعة لمؤسسة كورال السعودية.
بمعنى أن 5% فقط من الفقراء يستفيدون من دعم السكر و تذهب 95% منه إلى الشركات الكبرى ككوكا كولا. و أن 98% من الدعم المخصص للمحروقات والمشتقات النفطية, يذهب لغير الضعفاء والفقراء.
إن الكل اليوم مجمع على أن هناك أزمة لا تقبل التأجيل و لذلك نحن أمام خيارين:
– الخيار الأول: أن تعالج مشكلة الصناديق بكل جرأة و شجاعة و بنفس تشاركي ينصت للجميع و يستأنس بتجارب دول أخرى في هذا الشأن .و قد تكون لهذا الخيار بعض الأعراض الجانبية لكنها محدودة و لامفر منها.
– الخيار الثاني : تأجيل الإصلاح وهذا السيناريو هو الأخطر و ستكون له أكلاف ثقيلة على الدولة و المجتمع ، بل قد يوصل هذه الصناديق إلى حالة الإفلاس التام ويصعب آنئذ التدارك و أخذ زمام المبادرة من جديد.
ثمة سؤال جوهري آخر أكثر وضوحا و إحراجا بدأ يطرحه المواطن وهو ، لما لم يعالج الأمر في حينه ،أي منذ الإرهاصات الأولى للأزمة ؟ ولماذا يثار هذا الموضوع في هذه اللحظة بالذات؟ و بهذه الحدة؟
إن من أعجب و أغرب ما قرأت و سمعت في الإجابة عن هذا الإعضال ، قول بعضهم أن الظروف في ذلك الوقت لم تكن سانحة و بأن السلطة التنفيذية لم تكن لها صلاحيات تسمح بذلك ، ولم يكن لديها دستور2011 ، و لا سياق مثل هذا الذي نحياه اليوم. والملفت في هذه التبريرات السخيفة أن نفس هذا الفريق كان يفتخر بارتفاع نسب النمو و بعافية الاقتصاد في عهده . وهنا نتساءل ، ما الذي يمنع مسؤولين يدعون مثل هكذا ادعاء و هكذا سيولة من فتح ورش إصلاح تلك الصناديق قبل أن تتقلص الخيارات و تضيق؟
أيها السادة من فضلكم احترموا ذكاء المواطن و لا تستبلدوا ، ولا تحتقروا ذاكرته ، وكفانا من التستر و التخفي و التعلل بالسياق . ومن قال بأن السياق الحالي الذي تعيشه بلادنا أحسن و أريح ومفروش بالورود – بالعكس- فهذا الظرف هو الأصعب و الأشد حساسية من أي ظرف آخر. ألم تر أننا أمام شعب ارتفع سقف مطالبه بشكل لافت، و صار لا يقبل بأنصاف الحلول، في البطالة و الفقر و السكن و الصحة و التعليم و القضاء. شعب يراقب -عبر الفايس و النت- قضايا الشأن العام و يبحث عن الشادة و الفادة و لا يترك صغيرة و لاكبيرة إلا أحصاها ، يناقش المقاصة و التقاعد ، يتابع البرلمان ، يراقب تصريحات المسؤولين بدقة .أما في السابق فكان هذا المواطن المسكين في دار غفلون ولا حول له و لاقوة.
لذلك يجب أن نكف عن اجترار مثل هذه التبريرات و نجعلها حائط مبكى نعلق عليها فشلنا و قلة جرأتنا، و هاتوا اقتراحاتكم و بدائلكم إن كنتم صادقين، و إلا فالصمت و السكوت حكمة و ملاذ من لا اقتراح له.